الجزء الثالث: ماذا نعني بشرائح الواقع؟
أود أن أوضح الآن ما أعنيه عندما أتحدث عن «شرائح الواقع المختلفة». كما ذكرت سابقًا، التوجه الذي أتبناه إجمالًا في رؤيتي للطبيعة، كذلك هنا، هو أن الواقع بكل أشكاله يشكل وحدةً واحدةً، أسميها «وحدة الطبيعة» Unity of Nature. لهذا عندما أتحدث عن «شرائح الواقع المختلفة» لا أعني أن كل شريحة تصف واقعًا مختلفًا، بل إنه توجد طرائق مختلفة من الممكن أن نصف بها هذا الواقع.
لتوضيح هذا دعونا نفكر في الطريقة التي نتحدث بها عن الماء. فكل ما نهتم به في حياتنا اليومية هو أن الماء سائل شفاف لا طعم له، نحتاج إليه لكي نعيش، لهذا نشربه عندما نعطش، و نستخدمه عندما نطبخ، ولتنظيف أجسامنا، وما إلى ذلك من استخدامات عامة. لكننا إذا كنا نريد أن ندرس الصفات الفيزيائية والكيميائية للماء، علينا أن نستعمل لغة مختلفة لوصفه. مثلا علينا أن نذكر أن مبناه الكيماوي هو H2O، أي أن جزيء الماء يحوي ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الأكسجين ترتبط ببعضها برابطة تساهمية Covalent Bond، وله صفات قطبية تجعله مذيبًا جيدًا، وهو ليس حامضيًا أو قاعديًا، أو أيًا من الصفات الكيميائية للماء. من الواضح أن هذين الشكلين لوصف الماء يتناولان نفس المادة ونفس الواقع، لكنهما طريقتان مختلفتان لوصفه فقط.
مثال آخر قد نفكر فيه هو حركة السيارة. إذ نستطيع أن نتحدث عن حركة السيارة بالطريقة العادية اليومية، فنقول شغلت السيارة باستخدام المفتاح، ودست على دواسة البنزين لجعلها تتحرك، وإلى ما ذلك. لكننا أيضا نستطيع أن نصف هذه الحركة بتفصيل أكبر، كأن نقول إن مفتاح السيارة يغلق الدائرة الكهربائية التي تؤدي إلى إشعال شرارة أولية. تشتعل الشرارة البنزين المخلوط بالهواء الموجود في حجرة الاحتراق بداخل محرك الاحتراق الداخلي. بالتالي، يؤدي هذا إلى ارتفاع الضغط كثيرًا في حجرة الاحتراق، مما يبدأ في تحريك المكابس Pistons الداخلية في المحرك، التي تنقل الحركة بواسطة أذرع وعجلات مسننة إلى دواليب السيارة، وإلى آخره. هنا أيضًا لا نحتاج إلى الوصف الأخير عندما نتساءل عن حركة السيارة في حياتنا اليومية، التي تمثل شريحة مركبة أكثر من الواقع. في نفس الوقت، تأخذنا الطريقة التفصيلية لوصف حركة السيارة إلى شريحة الواقع الأعمق الكامنة وراء هذه الحركة. هذان الوصفان صحيحان، ويتعاملان مع نفس الواقع، لكن أحدهما أبسط من الآخر وأكثر عملية في حياتنا اليومية، في حين أن الآخر أكثر عملية للميكانيكي الذي يصلح السيارة مثلا، أو لمهندس الميكانيكا الذي يدرس كيفية عملها.
يكشف الوصف الماكروسكوبي (العياني، أي على أبعاد كبيرة) للواقع في كثير من الأحيان عن علاقات كان من الصعب أن نراها عندما نستخدم الوصف الميكروسكوبي (على أبعاد صغيرة) له، مثلما ذكرنا عندما تحدثنا عن تولد الحرارة من قوانين الحركة الكلاسيكية. إذ إنه من الصعب أن نرى مسبقًا أنه عندما نضع عددًا كبيرًا من الذرات معًا سوف تُنتِج حركتها الداخلية صفة الحرارة. أو أن نعرف مسبقًا أن الكيمياء العضوية سوف تنتج عن القوانين الأساسية للفيزياء، قبل أن نصل إلى شريحة الواقع التي تتكون بها الذرات.
لهذا، نرى في كثير من الأحيان قوانين طبيعة معينة على نحو أوضح عندما ننظر إليها بواسطة شريحة معينة من الواقع، ويصعب علينا أن نراها بوضوح عندما ننظر إلى الواقع بواسطة شريحة أخرى. نرى هذا بوضوح كبير في القانون الثاني للثرموديناميكا التي سنتوسع بها في القسم التالي من الفصل.
يقسم الفلاسفة والعلماء ظاهرة التولد إلى نوعين، يسمى الأول بـالتولد الضعيف Weak Emergence. يعني هذا النوع من التولد، أن القوانين والأنظمة والعلاقات الجديدة التي تسود شرائح الواقع المركبة تنبثق كليًا من القوانين التي تسود شريحة أو شرائح الواقع الأكثر عمقًا. لهذا تعود كل هذه القوانين والأنظمة في الأصل إلى قوانين الفيزياء الأساسية وتنبثق منها. النوع الثاني من التولد، يسمى بـالتولّد القوي Strong Emergence. يعني هذا النوع أن العلاقات والقوانين والأنظمة التي تسود طبقات الواقع المعقدة تحوي في جوهرها شيئًا أو أشياء جديدة. ولا يمكن اختزالها إلى، أو تفسيرها بواسطة القوانين التي تسود شرائح الواقع الأعمق. أي إن شرائح الواقع المعقدة تحوي قوانين جديدة لا يعود أصلها إلى قوانين الطبيعة الأعمق.
الفرضية الأساسية التي أتبعها، ويتبعها الغالبية الساحقة من العاملين في هذا المجال هي فرضية «التولّد الضعيف». التي تقول إن الواقع لا يحوي نشوءًا سحريًا لقوانين جديدة عند كل شريحة من شرائحه. وذلك لأن هذه الشرائح ليست شيئًا جديدًا مختلفًا تمامًا، إنما تمثل هذه الشرائح نفس الواقع، لأن الواقع هو واقع واحد موحد، أي إننا نتبنى هنا مبدأ «وحدة الواقع» Unity of Reality. هذا ما عبر عنه الفيزيائي الشهير ستيفن واينبرغ Steven Weinberg عندما قال «أسهم التفسير تتجه دائمًا نحو الأسفل»، أي في اتجاه قوانين الطبيعة الأكثر أساسية.
الحرارة مثال واضح لهذا. اتضح في القرن التاسع عشر أن الحرارة تعبر عن الطاقة الحركية العشوائية للجسيمات والذرات التي يتكون منها هذا الغاز. لهذا، من الممكن تفسيرها على المستوى الميكروسكوبي على أنها حركة غير نظامية لجزيئات الغاز، لكنها تظهر لنا على أنها قيمة «متولدة» جديدة على المستوى الماكروسكوبي.
التولّد ونشوء الحياة
تتعدى ظاهرة التولد قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، بل تجد تعبيرًا عنها في كل مناحي الوجود الموضوعي. لهذا نرى في الطبيعة تطبيقات متعددةً لمبدأ التولد الضعيف، المرة تلو الأخرى. من أوضح هذه التطبيقات نشوء الحياة نفسها، التي يحاول العلماء المختصون تفسيرها بواسطة قوانين الكيمياء، إذ يحاولون فهم كيفية قفز الكيمياء في حالات خاصة لتنتج البيولوجيا.
بناء على ما عرضناه عن التولد، هناك دلائل واضحة أن ظاهرة الحياة نفسها هي تعبير عن هذه الظاهرة. إذ تنشأ هذه الظاهرة في ظروف معينة، بتلقائية، تدفعها إلى ذلك قوانين الطبيعة. لهذا تطور في العقود الأخيرة مجال كبير يبحث في أصول الحياة وكيفية ظهورها، وإمكانية وجودها في أماكن أخرى في الكون.
تدعم هذه الفرضية كمية كبيرة من الأدلة والبيانات التجريبية والرصدية، لذلك هي ليست «مجرد فرضية» تأتي من محض الخيال، بل لها أساس متين وجذور عميقة متأصلة في أرضية تجربتنا العلمية الغنية الخصبة. كذلك، تلعب هذه الفرضية المركزية دورًا كبيرًا في مجالات مختلفة من العلوم، وهي ليست حصرًا على مجال أبحاث نشوء الحياة. فهي على سبيل المثال قاعدة أساسية في العلوم الطبية، والعلوم الصيدلانية، وفروع علم الأحياء المتنوعة، وغيرها.
تتعامل جميع هذه العلوم مع الحياة بصفتها ظاهرةً طبيعيةً من الممكن فهم الآليات الكيميائية والبيولوجية التي تحكمها، وتدرس ارتباط هذه الآليات ببعضها. أوضح الأمثلة على ذلك هو الأدوية التي يحتوي معظمها على مركبات كيميائية اصطناعية يعطيها الأطباء لمرضاهم. استعمال هذه الأدوية يعتمد اعتمادًا لا يقبل التأويل على هذه الفرضية.
مقال للبروفيسور د. سليم زاروبي
تدقيق: عون حداد
اقرأ أيضًا:
العثور على اللبنات الأساسية لنشأة الحياة داخل سحب الغبار المكونة للكواكب
سبع نظريات لأصل نشأة الحياة على الأرض