في مكان ما من وادي السيليكون، يستيقظ رجل ليذهب إلى المطبخ ويصنع كوبًا من القهوة، وبعد تأمل يستمر ساعتين، سينفق آلاف الدولارات لحقن الخلايا الجذعية، فقد أكد له الطبيب أن استخلاص الخلايا الجذعية من نخاع العظام وحقنها في أنسجة أخرى سيجعلها تتجدد.
وعندما يعود إلى الفراش ليلًا سيتناول أقراص الميلاتونين ويضع نظارات لحجب الضوء لينعم بنوم هادئ وهو راضٍ عن إنجازات اليوم، لقد خطا خطوةً جديدة نحو هدفه، فهو جزء من وحدة متنامية هدفها البقاء على قيد الحياة حتى القرن الثالث والعشرين.
طالما راود البشر حلم الخلود، ومع أن كل من سعى إليه باء بالفشل، لم يتزعزع الحلم، فالكثيرون ممن هم على قيد الحياة يتساءلون إن كان مفتاح خلودهم مرتبطًا بالتقدم العلمي والمعرفة.
أظهر العلم طرقًا جديدة لتحسين بقاء الإنسان على قيد الحياة، ويعتمد الآن بعض الأثرياء المهتمين بالتكنولوجيا هذا النهج الجديد في محاولة لإطالة أعمارهم، لكن العلم كشف أيضًا عن الجانب المظلم من إطالة العمر. يبدو أن الطبيعة لن تعترف ببشريتنا حينها.
فانتازيا
نُشرت رواية «أطلانطس الجديدة» لفرانسيس بيكون عام 1627، ويظهر فيها مجتمع حيث يستخدم البشر العلم للسيطرة على الطبيعة، لكن عالمنا على عكس عالم بيكون مليء بالجشع والأنانية، ويرجع سعي الإنسان نحو الخلود لمثل تلك الصفات.
في ملحمة جلجامش -إحدى أقدم الحكايات البشرية- يسعى البطل إلى الحياة الأبدية، إذ يريد زهرة في قاع المحيط ستعيد إليه شبابه، ورغم التحذيرات من أن سعيه سوف يبوء بالفشل يقطف جلجامش الزهرة، ليموت في النهاية مثل الجميع.
بعد 2000 عام يُفتَن إمبراطور الصين تشين شي هوانغ بفكرة الخلود في الحكم، ويكلف رعاياه بالوصول إلى إكسير الحياة، لكنهم لم يصلوا إلى شيء، وتشير أدلة إلى أنه شرب جرعات من كبريتيد الزئبق لإطالة عمره ما تسبب في هلاكه.
في القرن 19 انتشر مصطلح إكسير الحياة، وكانت تُباع جرعات من الأعشاب والكحول بزعم أنها تطيل العمر، لكن بعد 100 عام تمكن المجتمع من استبدال مصطلح إكسير الحياة بمعانٍ أخرى تستند إلى أدلة، ففي ثلاثينيات القرن الماضي استخدم العلماء تجارب تحديد السعرات الحرارية لإطالة عمر الفئران، ورغم نجاحها ظلت البحوث في مجال الشيخوخة محدودة. سنة 1945 أُنشئت جمعية علم الشيخوخة التي اهتمت بالبحث في هذا المجال، وفي الثمانينيات ازداد اهتمام الناس بهذا العلم.
لم يعد التحكم في السعرات الحرارية هو الاستراتيجية الوحيدة لإطالة العمر، فسرعان ما توصل العلماء إلى رؤى أخرى مثل تواصل الخلايا مع بعضها، وهرمون الإنسولين ووظيفته.
سنة 1990، مع دراسة هرمون النمو البشري، لوحظ أن كتلة الجسم تنخفض بانخفاض كمية هرمون النمو الذي تفرزه الخلايا، وقد يمكن عكس ذلك بحقن المسنين بهرمون نمو صناعي، ما يسبب نمو خلايا عظام وعضلات جديدة، ولهذا نشأت فكرة بيع هرمون النمو بوصفه مضادًا للشيخوخة، وأُثير التساؤل: هل سيساعد هذا في القضاء على الشيخوخة تمامًا؟
لكن الحماس لهرمون النمو البشري انخفض بسبب اكتشاف بدائل أخرى، إذ شهد عام 2003 إكمال مشروع الجينوم البشري، الذي كان متوقعًا أن يحمل إجابات كثيرة عن الأمراض المرتبطة بالسن وكيف يمكن التحكم فيها أو القضاء عليها، بمعرفة الجينات المرتبطة بها، لكن ذلك كان صعب المنال.
شهدت السنوات التالية أبحاثًا كثيرة في مجالات الصحة والعلوم الرياضية وعلم النفس والطب بحثًا عن إجابات، ويبقى السؤال: هل سيكون ذلك ممكنًا؟
القرصنة البيولوجية
يدعي ديف أسبري أنه سيعيش 180 عامًا بتغيير عاداته اليومية التي ستغير وظائف جسمه، وتشمل هذه العادات: المكملات الغذائية، وتجنب الأنشطة التي تسبب إجهاد الجسم، والأثاث المغناطيسي. القرصنة البيولوجية ليس علمًا دقيقًا، لكنه مصطلح يشمل مجموعة مواد مساعدة ذاتية وقليلًا من التفكير العلمي وبعض الفلسفة، ويُسمى الأشخاص الذين يستخدمون التكنولوجيا لتزويد أجسادهم بمختلف الأشياء القراصنة البيولوجيين.
يشمل المصطلح أشياء أخرى أيضًا، مثل الاستخدام المنتظم لبعض المركبات الطبية والعقاقير، وبعكس كثير من الشركات في وادي السيليكون التي تهتم بالاختلافات الوراثية، تتبع القرصنة البيولوجية نهجًا جديدًا يقوم على تغيير بعض العادات ويبشر بإمكانية إطالة أعمارنا.
توجد أنشطة أخرى يوصي بها القراصنة البيولوجيون مثل ساونا التبريد أو نقع الجسم في حمام بارد إلى درجة التجمد، ما يُعد مفيدًا للجهاز المناعي رغم قلة الأدلة على ذلك، قد يزيد البرد استجابة الأوعية الدموية للمؤثرات وينشط حرق الدهون ويقلل الالتهاب، لكنه سلاح ذو حدين فقد تسبب درجة الحرارة المنخفضة ارتفاع ضغط الدم.
تلك هي الأشياء التي يزعم ديف أسبري أنها قد تجعله يعيش 180 عامًا، قد تكون جيدة في الصغر، لكن مع التقدم في العمر ستظهر سلبياتها.
حتمية المقايضة
نادرًا ما تُظهر القرصنة البيولوجية الجانب المظلم من إطالة العمر ، إذ تُظهر الأبحاث أن إطالة العمر قد يكون على حساب القدرة على مكافحة العدوى، فمثلًا تمكن إطالة عمر ذبابة الفاكهة بإطعامها الكثير من السكر والقليل من البروتين، لكن ذلك سيقابله انخفاض الخصوبة والقدرة على مكافحة العدوى التي تتطلب البروتين. وتمكن أيضًا زيادة عمرها بتثبيط الجينات المسؤولة عن المناعة أو بتعريضها لعدوى ميتة، ما يضعف قدرتها على مقاومة العدوى الحية.
كلما تعمقت في المكونات الجزيئية سترى تفاصيل كثيرة في هذه المقايضة، من العوامل المهمة في مجال مكافحة الشيخوخة (mTOR)، وهو جزيء ينفذ العديد من العمليات الخلوية ويرسل إشارات إلى جميع خلايا الجسم، وبالتحكم فيه سنسيطر على نظام الخلية متضمنًا العمر والانقسام، وتوجد العديد من الأدوية المضادة للشيخوخة التي تنظم عمل (mTOR). يمكن التلاعب بجزيء (mTOR) طبيعيًا بتنظيم تناول السعرات الحرارية أو بالصيام المتقطع، إذ تشير الأدلة إلى أن هذا الجزيء يرسل إشارات لنمو الخلية إذا وجد ما يكفي من العناصر المغذية، لكن الأدلة تبين أيضًا أن تثبيط أداء هذا الجزيء المهم لا يبطئ الشيخوخة فقط بل يثبط عمل الجهاز المناعي أيضًا.
يُعد نظامنا المناعي مكلفًا للغاية لأنه يستخدم المتقدرات -الميتوكوندريا- الخلوية لصنع مركبات سامة تسبب الالتهاب لمحاربة الجراثيم، وبتثبيطه يمكننا إطالة العمر ، لكن هذا قد يكلفنا حياتنا، لذلك تجرى هذه التجارب في بيئة خالية من الجراثيم والبكتيريا التي تتطور يومًا بعد يوم.
إن المقايضة بين المناعة وطول العمر مثال جيد على كيفية عمل الطبيعة على تحقيق التوازن، فمن يريد العمر الطويل عليه التخلي عن جهازه المناعي، وقد حافظ الانتقاء الطبيعي على آلية (mTOR) في جميع مراحل التطور الحيواني والنباتي، ما يدل على فائدتها وأنه لا ينبغي لنا العبث بها.
الخلود أم الإنسانية؟
يؤثر الفناء فينا بطرق عديدة، مثل القيود الفسيولوجية، لذلك تجب معالجة السبب الجذري للشيخوخة إن وُجد، وقد تساعدنا التكنولوجيا على معرفة العيوب المرتبطة بالشيخوخة ومعالجتها.
تسعى شركة نيورالينك التي يملكها الملياردير إيلون ماسك لوضعنا على هذا الطريق، فهو يرى مستقبلًا يكون فيه البشر أكثر ارتباطًا بأجهزتهم مما هم عليه اليوم باستخدام واجهات الدماغ والآلة، لا تزال أبحاثهم في بدايتها لكن التقنيات التي يستخدمونها لها تطبيقات بالفعل، بل يتجهون للتفكير في تكنولوجيا زراعة الدارات في الدماغ، التي ستجعلنا نتصل بسهولة بالإنترنت ونتواصل مع بعضنا، ولجعل هذا ممكنًا ستُحقن الجزيئات في مجرى الدم وتنتقل إلى الدماغ حيث تتجمع تلقائيًا وتكوّن شبكة تشبه القشرة الخارجية للدماغ، وينتظر مجموعة من الأفراد الأصحاء حدوث ذلك وينوي بعضهم بالقيام بعملية جراحية لتثبيت أداة كهذه، وهذه البداية فقط.
قد ينجح العلماء في ترجمة الرسائل العصبية والكيميائية إلى رسائل إلكترونية مشفرة، وهكذا قد نستطيع التقاط وجودنا باستخدام الحاسوب، والعيش إلى الأبد مثل أي ذاكرة رقمية. قد يكون هذا حلًا مختلفًا لكن بعض الأثرياء مثل ديمتري هيستكوف يكرسون حياتهم لتحقيق الاندماج بين الإنسان والحاسوب.
ماذا سنصبح إذا حمّلنا أدمغتنا على حواسيب؟ هذا سؤال عميق، فابتعادنا عن المادة العضوية يعني أن نفقد بشريتنا، وقد تُستبدل الملذات المادية من طعام وجنس وإثارة وموسيقى بإشارات افتراضية ومنشطات صناعية.
أظهر ماسك أن ريادة الأعمال قد تسهم في العلوم، مثل أعماله في الفضاء وتصميم الصواريخ، لكن وادي السيليكون يسعى للسيطرة على مجال إطالة العمر.
هل سنجد وسيلة للتغلب على المعوقات الفسيولوجية سعيًا للخلود؟ أم سنتمكن من نسخ الوعي الخاص بنا على الحواسيب؟ ما زالت هذه الأسئلة صعبة الإجابة إلى الآن. هل سيساعدنا هذا السعي على أن نحيا حياةً صحية؟ أم أننا ببساطة في صراع مع مصير لا بد منه؟ تشير الأبحاث الجارية في وادي السيليكون إلى أن الافتراض الأول هو الأقرب، لكن الأبحاث توضح أيضًا لسوء الحظ السلبيات الخطيرة التي قد تنتج من تدخلنا في العلاجات المضادة للشيخوخة.
اقرأ أيضًا:
المعضلات الأخلاقية للسعي نحو الخلود البشري
البحث عن الخلود من خلال نقل الوعي البشري إلى جسم صناعي
ترجمة: محمد طوسون
تدقيق: محمد حسان عجك
مراجعة: أكرم محيي الدين