انطلقت رحلتنا نحو فهم طبيعة الكون منذ آلاف السنين، ويمكن أن نجد جذورها في الدين والفلسفة، وقبل حوالي 2300 سنة مضت، استنتج بعض المراقبين في حوض البحر الأبيض المتوسط كرويَّة الأرض، ولزوم وجودها في مدارٍ حول الشمس.
وبانعدام إمكانية إثبات صحة هذه النظريات القديمة، لن يُتمكن الصمود أمام الثقافة المتعارف عليها، والتي تؤكد وجود الأرض في مركز كل شيء وأنَّ الكون موجود لدعم الحياة البشرية ومصيرها.
وعندما قام الفلكي جاليليو جاليلي باختراع التلسكوب بعد حوالي 1900 سنة من ذلك التاريخ، أصبح بالإمكان أخيرًا القيام بملاحظاتٍ دقيقةٍ حول الكواكب والنجوم، وظهر علمٌ جديدٌ يهتم ببنية وتاريخ الكون برمَّته، وأطلق على هذا المجال العلمي الجديد اسم: (علم الفلك – Cosmology).
لقد تطلَّب خلق الكون الذي نعرفه اليوم أكثر من سبعة أيامٍ في الحقيقة.
الصورة الكاملة:
يظهر في الصورة أعلاه فهمنا الحالي لتاريخ الكون، إذ يسير الزمن من اليسار إلى اليمين، ونظن أنَّه وبعد نشأته في الانفجار العظيم، توسَّع الكون بشكلٍ كبير في حدثٍ يسمى: التضخم.
لقد تشكلَّت الأرض عندما كان عمر الكون حوالي 9.2 مليار سنةٍ، وتضخم الكون متواصلٌ حتى يومنا هذا، بل وهو يتسارع أيضًا، وفي سلسلة الرسوم التوضيحية التي سنقوم بعرضها في المقال، سنتطرق أولًا إلى بُنية الكون على مقاييس أعلى فأعلى؛ لمعرفة كيفية وصولنا إلى فهمنا الحالي له، وفي القسم الثاني من العرض، سنبدأ بالانفجار العظيم لنتقدم بالزمن إلى الأمام؛ لمعرفة كيفية تطور الكون إلى غاية يومنا الحالي.
الأرض كروية الشكل:
ستكون أول محطاتنا الكوكب الذي نسمّيه بالوطن، وتعد المعرفة التي تقول إنَّ الأرض لها شكلٌ يشبه الكرة قديمةً في الحقيقة.
لقد ذكر بعض الرحَّالة الإغريق قبل حوالي 2500 سنة مضت أن رؤية الكويكبات النجميَّة تكون أوضح إذا ما توجه المرء بعيدًا نحو الشمال أو بعيدًا نحو الجنوب، كما لاحظ بعض المراقبين أيضًا حواف الظل الدائريَّة للأرض خلال الكسوف القمري، وبعد بضع قرونٍ من ذلك، قام عالم الفلك اليوناني المولود بليبيا إراتوستينس (Eratosthenes) بتقدير قياس محيط الأرض عبر جمع الملاحظات من الفوارق بين أطوال الظلال التي تلقي بها الشمس في أماكن متفرقة ببضع أميال.
وبافتراض وجود الشمس في مكانٍ بعيد للغاية وكون أشعة ضوئها متناظرة، استعمل إراتوستينس هندسةً بسيطة لحساب محيط الأرض، وغير معلومٍ مدى دقَّة تلك القياسات، لكن من المرجح أن تكون أقرب إلى القياسات الصحيحة التي وصلنا إليها اليوم بنسبةٍ كبيرة.
الأرض كوكب:
الآن علينا أن نتراجع لنرى الأرض في سياق وجودها ضمن المجموعة الشمسيَّة الداخليَّة، لقد كانت الأفكار القديمة حول حركة الشمس، والأرض، والكواكب الأخرى، مستمدة من المفاهيم اللاهوتية، والفلكية، والفلسفية، لكيفية تنظيم الله للعالم.
وقد أحدث الفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus) صخبًا كبيرًا في أواسط القرن السادس عشر عندما اقترح حركة الأرض حول الشمس، وذلك عكس ما قاله زعماء المسيحيَّة بدوران الشمس حول الأرض، ولعدة قرونٍ ظن البشر أن حركة الكواكب بسبب كونها ضمن (كرات كريستالية) متداخلةٍ تدور حول نقطةٍ مركزيَّة.
وحتى القرن السادس عشر، كان الفكر الشائع أن حركة المذنبات بذلك الشكل تتسبب في تحطمها ضمن تلك الكرات الكريستالية.
وكان النظام السائد لشرح حركة الكواكب حتى ذلك الزمن هو: (النظام البلطمي – Ptolemaic system)، الذي وضعه الفلكي والرياضي الإسكندري بطليموس (Ptolemy) في السنة 150 ميلادي، وهو نظامٌ نموذجيٌ لمركزية الأرض، يبدأ بافتراض كون الأرض ثابتة وفي مركز الكون، وساد الظن في المجتمعات القديمة أن الأجرام السماوية الأخرى (الشمس، القمر، الكواكب، والنجوم) تسير في حركةٍ موحَّدةٍ في مسارٍ (مثالي) قدر الإمكان، وذلك المدار هو دائري.
وأخيرًا، وفي سنة 1609، نشر عالم الرياضيات الألماني يوهانس كيبلر (Johannes Kepler) نظريته حول حركة الكواكب، التي أكدت حركة الأجرام السماوية في نظامنا الشمسي في مداراتٍ بيضويةٍ لا دائريَّةٍ.
الكواكب هي عوالمٌ أخرى:
ساد الظن منذ الحقب الأولى لفترة ما قبل التاريخ البشريَّة، أن الكون برمته محصورٌ فيما نراه بالعين المجردة، فالأرض، قمرها وشمسها، وخمسة نقاطٍ مضيئةٍ متحركةٍ أطلق عليها اسم: (الكواكب)، بالإضافة إلى الفلك البعيد الذي يتضمن النجوم، والجزء المضيء من مجرة درب التبانة.
وانقسمت نظريات علم التنجيم، وتبعها علم الفلك، حول تفسير حركة هذه الأجرام السماوية، لكن طبيعتها الحقيقة كانت محل افتراضٍ فحسب، وعندما وجَّه الفلكي الإيطالي جاليليو جاليلي (Galileo Galilei) أوَّل تلسكوبٍ نحو السماء، اكتشف أن هذه الكواكب ليست سوى عوالم أخرى في الحقيقة، ووُجد أن العديد منها يملك أقمارًا خاصةً به.
وبمساعدة التلسكوب، تم اكتشاف كواكب كانت مجهولةً في وقتٍ سابق ضمن النظام الشمسي، مثل: أورانوس سنة 1781م، ونبتون سنة 1846م، وباستخدام التلسكوب أصبح من الممكن دراسة الأجرام الأصغر، مثل: المذنبات، والكويكبات، وكذلك النجوم، والسُدُم في الفلك البعيد.
النجوم هي شموس:
دفع اختراع التلسكوب في القرن السابع عشر، من طرف جاليليو، واكتشاف قوانين الحركة من طرف كيبلر، نحو الوصول إلى حقيقة أن النجوم ليست سوى مثل الشمس؛ لأنها تمتثل للقوانين الفيزيائية ذاتها، وفي القرن التاسع عشر، سمح التحليل الطيفي ــ دراسة موجات الضوء الصادرة عن الأشياء ــ بدراسة الغازات التي تتكون منها تلك النجوم.
وتمكن العلماء كذلك في القرن التاسع عشر من إيجاد طريقةٍ لقياس المسافة نحو النجوم، وعندما يتم رؤية تلك الأجرام من نقاط مراقبةٍ مختلفةٍ، تبدو وكأنها تتحرك بالنسبة إلى الخلفية الأكثر بعدًا، وتسمى تلك الظاهرة بالتزيُّح، أو اختلاف المنظر (Parallax)، وفي الوقت الذي تدور فيه الأرض حول الشمس توفر تغيُّرًا في نقطة المراقبة لملاحظة النجوم، وبما أن النجوم بعيدةٌ للغاية مقارنةً بالأشياء الموجودة في النظام الشمسي، يكون اختلاف المنظر صغيرًا للغاية وصعبًا للقياس.
لقد كان عالم الرياضيات الألماني فريدريشبيسل (Friedrich Bessel) أوَّل من نجح في قياس التزيُّح الخاص بنجم (61 Cygni)، وقدَّر بعده عن الأرض بـ 10.4 سنة ضوئية، – تم تصحيح التقدير بعد ذلك ليصبح 11.4 سنة ضوئية- .
تتماسك المجرَّة بفضل المادة المظلمة:
إن من الصعب تحديد طبقات مجرَّتنا بالاعتماد على نقطة مراقبتنا الموجودة ضمنها، وعبر دراسة أشكال المجرَّات البعيدة، والقياس الدقيق للأشياء التي نراها في مجرَّتنا، توصلنا إلى نتيجة أن شكل مجرَّتنا حلزوني.
يتكون مركز المجرَّة الشبيه بالشريط من النجوم، – ويحتضن كذلك ثقبًا أسود فائق الضخامة- المُحاطة بأذرعٍ حلزونيةٍ مكوَّنةٌ هي بدورها من نجومٍ، وغازاتٍ وغبار، ونتواجد نحنُ في فرعٍ يمتد بين الأذرع الحلزونية الرئيسية، ولا يزال التنظيم الدقيق للأذرع الحلزونية محلَّ نقاشٍ بين الفلكيين، بيد أن آخر الدراسات أشارت لوجود ذراعين رئيسيَّين في مجرة درب التبانة، وهما يتفرعَّان إلى أربعة أذرعٍ أخرى نحو الخارج.
ويُعتقد أن تكون الأذرع الحلزونية لمجرتنا نوعًا من الأمواج الكثيفة التي ترتحل حول قرصٍ مسطَّح، حيث تتجمع المواد في حزمٍ، وتتكون النجوم في الأذرع بذلك، وكل شيءٍ في المجرة يتحرك في مدارٍ حول مركزها، أمَّا الأذرع فليست هياكل صلبة، ونظامنا الشمسي يرتحل داخل وخارج الأذرع الحلزونية في مداره.
وعند دراسة حركة المجرَّات، وجدنا أنها لا تدور حسب توقعاتنا وفقًا لقوى جذب المادة التي بإمكاننا رؤيتها، وفي 1934 اقترح الفلكي السويسري فريتز زويكي (Fritz Zwicky) وجود كميَّاتٍ هائلةٍ من مادةٍ غير مرئيةٍ أو (المادة المظلمة)؛ لتصبح المجرَّات الحلزونية أكبر مما تظهر عليه حقيقةً.
منذ ذاك الحين بحث علماء الفيزياء الفلكية على المادة المظلمة، وغالبًا ما يفترضون تكوُّنها من جسيمات غريبةٍ تختلف عن التي نعرفها في الأرض، وتشير التقديرات الحالية إلى تشكُّل الكون من المادة المظلمة، والطاقة المظلمة في معظمه، في حين تشكِل الذرَّات المعروفة نسبةً صغيرة جدًا منه.
إن وجود المادة المظلمة يستنتج بناءً على قوى جذبها بدل لمعانها، وهي تشكل نسبة 26.5% من المادة -الطاقة المكونة للكون-؛ في حين تشكل الطاقة المظلمة نسبة 73%، بينما تشكل المادة المرئيَّة (العادية) نسبة 0.5% فقط.
تتكون المجرَّات من النجوم:
كان درب التبَّانة، ذلك الشريط الباهت من الضوء في السماء معروفًا منذ فجر التاريخ، لكن لم يتم اكتشاف حقيقته حتى القرن السابع عشر، عندما قام جاليليو جاليلي بدراسة درب التبانة باستخدام التلسكوب؛ ليجد أن ذلك الشريط مكونٌ من نجومٍ متعددةٍ في الحقيقة، ويمكن رؤية بقعٍ غامضةٍ من الضوء في السماء؛ أُطلق عليها اسم: (السُدُم –Nebulae ).
وفي حدود القرن الثامن عشر، ساد الظن بأن درب التبانة هو في الحقيقة نظامٌ من النجوم المجتمعة مع بعضها البعض بفضل قوة الجاذبية، لكن طبيعة السُدُم بقيت غامضةً، وقد تكون مجرَّد سحبٍ صغيرةٍ من الغاز المنتشرة في المجرة، أو ربَّما كانت خارج مجرَّتنا، وذلك لم يكن حاسمًا في تحديد ما إذا كانت مجرة درب التبَّانة تشكل كل الكون من عدمه.
وباستخدام تلسكوب المائة بوصةٍ الجديد في مرصد ماونت يلسون بكاليفورنيا، قام الفلكي الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) بدراسة نوعٍ من النجوم سميت: (Cepheids)، التي تلمع وتخفت في نمطٍ مرتبطٍ بسطوعها الحقيقي، مما جعلها مناسبةً كمقياسٍ نموذجي لتقدير المسافات الفلكيَّة، وفي عام 1925م، استنتج هابل في ورقة علميَّة وجود بعض السُدُم خارج مجرة درب التبانة، كونها مجرَّات بحد ذاتها، كاشفًا عن كونٍ أكبر بكثير من مجرَّتنا الأم درب التبانة.
تنظيمٌ ضخمٌ:
تم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ملاحظة وجود مجموعةٍ واسعةٍ من السدم في كوكبة العذراء، وفي وقتٍ لاحقٍ، تم اكتشاف أن هذه السدم عبارةٌ عن مجرَّاتٍ منفصلةٍ عن مجرَّتنا درب التبانة.
وبعد قرنٍ من الزمن، افترض العلماء أنَّ تنظيم تلك المجرَّات يشير إلى مستوى أعلى من البنية الكونية، يطلق عليها أسماء مختلفة، مثل: (التجمعات المجريَّة)، وفي سنة 1982م نشر الفلكي آر.برنت تالي(R. Brent Tully) تحليلًا للمسافات نحو الأعضاء المكونة للتجمعات المجريَّة، مُظهرًا أنها بالفعل جزءٌ من تنظيمٍ أكبر.
وتم تحديد المسافات بقياس الانزياح نحو الأحمر (Redshift) لأطياف الضوء الصادرة عن تلك المجرَّات.
أضخم البنيات في الكون:
تُعرف أكبر بنيةٍ نعرفها في الكون بالخيوط المجريَّة، وهي محاطةٌ بفراغاتٍ واسعةٍ في الفضاء، والمجرَّات الموجودة في الخيط مرتبطةٌ ببعضها البعض بفعل الجاذبية.
وعندما اُكتشفت لأول مرة سنة 1989م من طرف مارجريت جيلر (Margaret Geller)، وجون هوشرا (John Huchra) أُطلق عليها اسم: (السور العظيم)، بينما تم اكتشاف بنية أكبر بكثيرٍ من الأولى سنة 2003م من طرف جي.ريتشارد غوت الثالث (J. Richard Gott III)، وماريو يورتيش (Mario Jurić)، وأطلق عليها اسم (السور العظيم سلووان).
إن الدراسات الحالية حول البُنى على المقاييس الواسعة للكون تستخدم البيانات الصادرة عن ماسحات الانزياح نحو الأحمر، مثل: ماسح السماء الرقمي سلووان (Sloan Digital Sky Survey)، وتستعمل هذه الجهود أجهزة استشعار الكاميرات الرقميَّة لتصوير أجزاءٍ من السماء، ملتقطة الملايين من الأجرام البعيدة مع البيانات اللازمة؛ لرسم خريطةٍ لهم في فضاءٍ ثلاثي الأبعاد.
أبعد ما يمكننا رؤيته:
إن كل شيءٍ بإمكاننا التقاطه هو الكون المرئي، هو فلكٌ بقطرٍ يصل إلى 93 مليار سنةٍ ضوئيةٍ باعتبار الأرض نقطة مركزية، ولكن لا يمكننا استيعابه برمَّته مرَّة واحدة؛ وذلك يعود إلى بطء سرعة الضوء مقارنةً بالمقاييس الواسعة للغاية للكون.
وعندما ننظر نحو الفضاء، نرى الأشياء كما كانت في أزمنةٍ بعيدةٍ للغاية في الماضي؛ وذلك بسبب تمدد الكون المتسارع، والأشياء في الكون هي أبعد مما يخبرنا به عمرها، مثلًا: حواف الكون المرئي تقبع في حدود الـ 46 مليار سنةٍ ضوئيةً من الأرض، لكن الكون بذاته لا يتجاوز عمره الـ 13.7 مليار سنة.
إن حجم الكون الحقيقي غير معروفٍ، وقد يكون أكبر بكثيرٍ من الكون المرئي، كما قد يكون غير محدود الحجم، وعلى كل حال، لن يتمكن الضوء من أبعد المناطق في الكون من الوصول إلينا أبدًا؛ لأن الفضاء التي سيمرُّ من خلاله يتمدد بسرعةٍ أكبر ببساطة.
ويعود الفضل في فهمنا الحالي للكون المرئي إلى الفيزيائي الأمريكي آلان غوث (Alan Guth) بشكلٍ كبير، الذي عمل في سنوات الثمانينات من القرن الماضي على توضيح كيفية ظهور الكون الذي نعرفهُ حاليًا من خلال حدث الانفجار العظيم، ولاحقًا، سنرجع بالساعة إلى زمن الصفر، كي نرى كيف تطور الكون من البداية إلى اليوم.
الانفجار العظيم: منذ 13.750.000.000 سنة مضت
قام الفلكي والقس الكاثوليكي جورج لوماتر (Georges Lemaitre)في بداية القرن العشرين، بقياس حقيقة تمدد الكون، وبإعادة التمدد نحو الوراء رياضيًا، قام بوضع نظريَّةٍ تقوم على أن كل شيءٍ في الكون لابدُ وأنه قد بدأ من نقطةٍ صغيرةٍ وكثيفةٍ، أطلَق عليها اسم: (الذرة البدائية).
وقد انفجرت تلك الذرة في حدثٍ أطلق عليه الفلكي فريد هويل (Fred Hoyle) اسم الانفجار العظيم، ويفسر تمدد الكون ظاهرة انزياح الضوء الصادر عن الأشياء البعيدة في الكون نحو الأحمر في نهاية الطيف، وتسمى تلك الظاهرة بـ: (الانزياح نحو الأحمر – Redshift).
وتمامًا كما يسبب تأثير دوبلر تغيُّرًا في تردد الصوت من مراقبٍ متحركٍ، يسبب الانزياح نحو الأحمر تغيرًا في لون النجوم المتحركة، وذلك لتوسُّع طولها الموجي في الفضاء المتمدد، وكلما كان الشيء أبعد عن الأرض، كلما كان الفضاء المتداخل متمددًا بشكلٍ أكبر، وكلما كان الضوء الصادر عن ذلك الشيء قد انزاح نحو الأحمر بشكلٍ أكبر كذلك.
يبرهن الفلكي الأمريكي إدوين هابل عن طريق المراقبات ارتباط ظاهرة الانزياح نحو الأحمر بالمسافة فعلًا، وتعرف هذه العلاقة اليوم بقانون هابل.
أول جزء من الثانية:
واجه علماء الفلك في سبعينيات القرن الماضي مشاكل في فهم نشأة الكون في مراحله الأولى، وعندما استكشفوا الفضاء العميق بالتلسكوبات الراديوية، اكتشفوا خلفيَّة خافتة من إشعاعات المايكروويف.
وترجمت الفوارق في الكثافة لإشارات المايكروويف على أنها فوارق في كثافة المادة خلال تلك الحقبة المتقدمة من الكون، وبشكلٍ مفاجئ، وُجدَ أن التوهج الإشعاعي للخلفية هو في الحقيقة موحد في كل اتجاه، وظهر أن ذلك غير منطقي؛ إذ توقع العلماء إيجاد مواقع من الفضاء مع كثافات، ودرجات حرارةٍ مختلفةٍ؛ لأن تلك المناطق بدت وكأنها قد تطورت منفصلةً عن بعضها البعض.
واقترح الفيزيائي الأمريكي آلان غوث تفسيرًا لذلك سنة 1980م، حيث أشار نظريًا أنه وفي جزءٍ من الزمن بعد الانفجار العظيم مباشرةً، شهد الكون تقدمًا سريعًا للغاية، وفي لمحة بصرٍ توسع حجمه إلى 10^78 مرَّة – العدد 10 متبوعًا بـ 78 صفر-، وبشكلٍ شبه فوري أصبح الكون أبرد، وانتهى الحدث المُسمى بـ (التضخم).
يشرح النموذج التضخمي سبب ظهور الكون موحدًا في كل الاتجاهات، قائلًا: لقد تطور كل شيءٍ فيه معًا قبل التضخم، ولذلك آثار أخرى كذلك، وهي: الجزء الذي نراه من الفضاء ليس سوى جزء صغير من كونٍ واسع، لا يمكنني التقاطه بشكلٍ مباشر أبدًا.
من الثانية 0.001 إلى الدقيقة الثالثة بعد الانفجار العظيم:
في مرحلة البرودة التي تبعت التضخم، عرف الكون الذي كان حارًا بشكلٍ غير قابلٍ للتصور كذلك مرحلةً انتقالية، وتشكلت الجسيمات الرئيسية من شكلٍ من المادة يسمى ببلازما الكوارك – غلوون.
وبعد ألف ثانية من الانفجار العظيم، دمرَّت كميات هائلة من المادة والمادة المضادة بعضها البعض تاركةً المادة الموجودة في الكون اليوم، وفي غضون ثلاث دقائق انخفضت حرارة الكون بحوالي مليار درجة مئوية، حيث بدأت الذرات بالتكوُّن، بدءً بالعناصر البسيطة: الهيدروجين والهيليوم.
وتبقى بلازما الكوارك – غلوون نظريَّة الوجود، ويعتقد بوجودها بالعودة إلى نظرية تسمى بالكروموديناميكا الكمومية، أو الديناميكا اللونية الكمية، وكان الفيزيائي الأمريكي مواري جيل-مان، من بين أول من قام بوضع هذه النظرية.
ويعتقد كذلك تكون الجسيمات النووية القاعدية ــ البروتونات والنيوترونات ــ من جسيماتٍ أكثر قاعدية تسمى بالكواركات، ولم يتم التقاط هذه الأخيرة وهي تتجول بمفردها في الكون سوى تحت درجات حرارةٍ عاليةٍ للغاية، مثل تلك التي كانت موجودةً بعد الانفجار العظيم مباشرةً.
ويحاول الفيزيائيون على الأرض إعادة خلق البلازما، التي تألف منها الكون في لحظاته الأولى؛ إذ يستعملون مسرّعات الجسيمات؛ لتحطيم جسيماتٍ دون ذريَّة مع بعضها البعض تحت طاقاتٍ عاليةٍ.
من الدقيقة الثالثة إلى 379.000 سنة بعد الانفجار العظيم:
كان الكون خلال هذه الفترة، عاليَ الحرارة وغير شفافٍ، وبدءًا من السنة 379.000 بعد الانفجار العظيم تقريبًا، بردَ الكون بشكلٍ كافٍ ليسمح للضوء بالانفصال عن المادة والسفر بشكلٍ حر، وباختصار، أصبح الكون شفافًا، وتشير الصورة أعلاه إلى المجرة UDFy-38135539، أحد أقدم المجرات المكتشفة حتى الآن، حيث ظهرت بعد العصور المظلمة بشكلٍ مباشرة بعد حوالي 480 مليون سنة من الانفجار العظيم.
من 150 مليون سنة إلى 1 مليار سنة بعد الانفجار العظيم:
قام عالم الفلك الهولندي مارتن شميدت (Maarten Schmidt) في ستينيات القرن الماضي بتحديد أشياء غريبةٍ في الفضاء العميق، وكانت لامعةً للغاية في موجات الراديو، وأطلق عليها اسم: (مصادر راديوية شبه نجمية).
وأطلق عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي هونغييتشيو (Hong-Yee Chiu) على الظاهرة اسم: (الكوازار –Quasars) أو النجوم الزائفة، وتم التقاط هذه الأشياء في خمسينيات القرن الماضي عبر تلسكوبات رادوية موجودة على الأرض، وعندما قام شميدت بقياس البعد عن الكوازار عبر دراسة الانزياح نحو الأحمر في طيفهم الضوئي، ما وجده كان مذهلًا، كانت الأشياء بعيدة عنا بمليارات السنوات الضوئية، ومن هذا المنظور يجب أن تكون لامعةً بشكلٍ كبيرٍ للغاية؛ لتكون مرئيةً من الأرض.
وفي دراسةٍ لاحقةٍ إشارات لكون هذه النجوم الزائفة مجرَّات نشطة بحد ذاتها تشكلت في تاريخٍ بعيد للغاية في بدايات الكون، وقد تسبب الانهيار الجاذبي بالتحام المواد ببعضها البعض، مما أدى إلى تشكُّل ثقوبٍ سوداء ضخمة بكتلٍ تصل إلى مليارات المرَّات كتلة الشمس.
ويقبع الثقب الأسود في مركز النجم الزائف، إذ يجمع المواد ويُسخّنها لتصبح بلازما ذات درجات حرارة عالية للغاية؛ تبدو وكأنها تُطلق داخل طائرات نفاثة ضخمة من المواد تسافر بسرعةٍ تقارب سرعة الضوء.
تسعة مليار سنة بعد الانفجار العظيم:
تشكلت النجوم الأولى عندما كان عمر الكون حوالي 300 مليون سنة فقط، وكانت حياتهم قصيرة وأحجامهم فائقة الضخامة، وتتكون في معظمها من الهيدروجين والهيليوم، ولا تحتوي على أي معادن.
وانفجرت النجوم الأولى لتشكل سوبرنوفا، وخلقت أجيالًا جديدةً من النجوم من خلال بقايا الشموس الأولى، ويوضح تحليل طيف الضوء من شمسنا مدى غناها بالمعادن؛ لذلك نستنتج نشأتها بعد أجيالٍ عديدةٍ من النجوم.
لقد كان مصدر طاقة الشمس مجهولًا حتى أكد الفيزيائي الألماني آلبرت آينشتاين (Albert Einstein) إمكانية تحول المادة إلى طاقة، ولخَّص ذلك في المعادلة المشهورة E=mc^2، وفي سنة 1920م اقترح عالم الفيزياء الفلكية البريطاني السير آرثر إدينجتون (Sir Arthur Eddington) إمكانية حصول الشمس على الطاقة من خلال مفاعل الانصهار النووي، وذلك بخلق الحرارة والضوء عبر تحويل الهيدروجين إلى هيليوم.
وقادت دراسة أطياف ضوء الشمس والنجوم الأخرى إلى تأكيد أن الانصهار النووي قد خلق العناصر الذرية التي تكون العالم اليوم.
الكون اليوم:
رسم العلماء صورةً رائعةً للغاية وضخمةً لأصول تاريخ وطبيعة كوننا، ولكن رغم ذلك، نحن لا نعلم كل ما يجب علمه، وهناك العديد من الأسئلة تبقى باحثةً عن الإجابة في مجال الفيزياء، وعلم الأكوان.
- إعداد: وليد سايس
- تدقيق: رجاء العطاونة
- تحرير: أحمد عزب