لم يكتف كريستوفر كولومبوس بعد وصوله إلى الأمريكيتين بممارسة ظلمه ووحشيته، بل جلب معه أمراضًا قضت على العديد من السكان، وبعد عودته إلى أوروبا بفترة وجيزة انتشرت أمراض معدية جديدة، وقد كان مرض الزهري أحد تلك الأمراض، ما أدى إلى الاعتقاد أن هذه الأمراض نُقلت بواسطة البحارة العائدين إلى أوروبا في تلك الرحلات. تُؤكد دراستنا الحديثة وصول البكتيريا المسببة لمرض الزهري إلى أوروبا في وقت مبكر للغاية، ما أجبرنا على إعادة التفكير في أصول المرض.
سنة 1495 بدأ الموت يجتاح أوروبا، ومات الملايين من الأوروبيين بسبب مرض الزهري وعانى آخرون من الخرف، بسبب التأثيرات المباشرة للمرض أو بسبب الزئبق الذي كان العلاج الشائع قبل اكتشاف البنسلين. ونظرًا إلى قبضة المرض المُحكمة التي دامت قرونًا على الطبقات الحاكمة في أوروبا، أثر هذا المرض في عقول السكان وخيَّم البؤس والخوف من العدوى عليهم، وأدى ذلك إلى اتخاذهم قرارات سيئة في العديد من الموضوعات الهامة، والخوف من الجنس، الذي استمر حتى يومنا هذا.
مع أن المرض كان أخف وطأة في أوروبا مقارنةً بالجدري للأمريكيين الأصليين، فقد حدث ارتباط واضح بفكرة وصول مرض الزهري من الغرب، ما يوحي برسالة مغزاها أن للفتوحات الأوروبية ثمن.
درست البروفيسور فيرينا شونمان من جامعة زيورخ جثثًا تعود إلى القرن الخامس عشر من فنلندا وإستونيا وهولندا، وقد حملت هذه الجثث في عظامها آفات تشير إلى وجود مرض الزهري، وعُثر أيضًا على بكتيريا من نوع اللولبية الشاحبة (Treponema pallidum)، الذي تسبب إحدى سلالاته مرض الزهري، في حين تسبب سلالة أخرى منه الداء العليقي، وهو مرض يصيب الجلد والعظام، وينتشر غالبًا بسبب لعب الأطفال.
قالت شونمان: «تشير بياناتنا إلى أن الداء العليقي قد انتشر في كل أنحاء أوروبا، وأن هذا المرض لا يقتصر على المناطق الاستوائية كما هو الحال اليوم، ومن المرجح أن سلف جميع نويعات اللولبية الشاحبة الحديثة قد تطور منذ 2500 عام على الأقل، لكن فيما يخص مرض الزهري التناسلي تحديدًا فإن آخر سلف مشترك وُجد بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر».
ومع ذلك فإن تفشي مرض الزهري في أوروبا بعد فترة وجيزة من عودة كولومبوس لم يكن محض صدفة، إذ تُعرف البكتيريا بمشاركة الحمض النووي، تتوقع شونمان حدوث تبادل وراثي بين سلالات الزهري في العالمين القديم والحديث. إذا كان هذا التوقع صحيحًا، فقد يفسر نشوء مرضٍ أشد فتكًا وسرعةً في انتقاله مقارنةً بسلفه.
اكتُشف أيضًا نوع من اللولبيات يبدو أنه قد تطور بالتوازي مع مرض الزهري والداء العليقي. ويُعد تأثير هذا المرض في جسم الإنسان المصاب وكيفية انتشاره غير معروف حتى الآن، ومن غير المتوقع أن يتطوع أي شخص لاكتشاف ذلك. قد تكشف العوامل الوراثية المتعلقة بهذا النوع من العائلة اللولبية عن الأصول الحقيقية لمرض الزهري، والمسار الذي وصل عبره إلى أوروبا.
لكن هذا ليس مجرد تاريخ، إذ يقتل مرض الزهري في أيامنا هذه نحو مئة ألف شخص سنويًّا، وقد كانت حالات الوفاة في تزايد قبل جائحة كوفيد وما زالت تتزايد في بعض الأماكن. من المتوقَّع أن تطوير علاج لفيروس العوز المناعي البشري جعل الناس أقل حذرًا فيما يتعلق بالجنس الآمن، إضافةً إلى أن مقاومة المضادات الحيوية تجعلنا نجد صعوبة في علاج مرض الزهري.
اقرأ أيضًا:
الإفرنجي/ السّفلِس/ الزُّهْرِي: الأعراض والعلاج
ترجمة: فاطمة الزهراء كبة
تدقيق: محمد الصفتي
مراجعة: أكرم محيي الدين