يبذل العلماء في كلية الطب بجامعة هارفارد بولاية ماساتشوستس الأمريكية قصارى جهدهم لتتبع المسار الذي سلكته الكيمياء العضوية البدائية في طور تحولها الفعلي إلى خلايا حية أولية. وقد رجحوا فرضية وجود أحماض نووية (مادة وراثية) فريدة من نوعها، غير موجودة في أي من أجزاء الجينوم (المحتوى الجيني) الموجود حاليًّا. لعل السؤال عن كيفية تطويرنا لمكتبة الجينوم المحفوظة داخل حمضنا النووي، التي تديرها إنزيمات بروتينية، والمنسوخة بواسطة الحمض النووي الريبوزي (RNA)، يُعَد من الأسئلة الجوهرية لفهم أساس نشأة الحياة على هذه الأرض.
مع إمكانية توفر المكونات الأساسية للمواد الكيميائية التي شكلت النواة الأساسية للحمض النووي الريبوزي والحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين، الشائعة عمومًا حتى في ظل الظروف القاسية والعدائية المحيطة بكوكبنا حديث الولادة نسبيًّا، فإن هذا لا ينفي إمكانية تكوّن أنواع أخرى في المزيج، خاصةً مع وجود المتسع الكبير لذلك.
ومن أجل فهم هذا المسار وماهية هذا المزيج، أنتج الباحثون وصفات من خليط النيوكليوتايد الهجين، القائم ليس فقط على مزج الحمض النّووي الرّيبوزي منقوص الأكسجين (DNA) والحمض النووي الريبوزي (RNA)؛ بل أيضا على ما يُسمى الحمض النووي الأرابيني (ANA). يُعَد الاختلاف بين هذه الأنواع الثلاثة في التركيب طفيفًا، كوجود الأكسجين أو غيابه، أو تغير موقع إحدى المواد المتصلة بالهيكل الرئيسي للسكر، كمجموعة هيدروكسيل (OH) مثلًا.
مع هذا الاختلاف الطفيف في التركيب، يوجد فرق كبير في ثبات البوليمرات المتشكلة في ظل ظروف متفاوتة، وقد تتشكل تركيبات هجينة من طريق دمج أنواع مختلفة من الأحماض النووية، قد يكون بعضها أكثر عرضةً للانقسام من سواه.
وجد العلماء أنه حين يتعلق الأمر بالنسخ الذاتي، فإن الحمض النووي الريبوزي النقي RNA يتفوق عن سائر الأنواع، ليس فقط في السرعة، بل أيضا فيما يتعلق بالدقة والفعالية. بل أنه يتفوق على خليط من النوعين الآخرين (DNA وANA)، لأنه ينسخ نفسه ذاتيًّا نسخًا أكثر فعالية، ما يقودنا إلى فرضية عالم الحمض النووي الريبوزي (RNA World).
في ستينيات القرن الماضي، طرح علماء الأحياء كارل ويز وفرانسيس كريك وليزلي أورجيل فرضية أن للحمض النووي الريبوزي القدرة على القيام بوظيفتين في ذات الوقت. وإلى يومنا هذا، يُنظر إلى الحمض النّووي الريبوزي أنه المسؤول عن الترميز وعن تنفيذ مهام فيزيائية (فعلية) في الخلية.
ما يعني أنه يمثل بدايةً ملائمة للحياة، ما يمثل أساسًا لفرضية عالم الحمض النووي الريبوزي، فتتنافس تسلسلات الحمض النووي على لعب دور دليل التعليمات وآلة النسخ.
ومن المهم هنا توضيح معنى (ملائم)، فكيف للحمض النووي الريبوزي أن يكون ركيزةً أساسية في حين أنه محاط بمجموعات شبيهة قد تفسد آلية عمله؟
يقول عالِم الأحياء والكيمياء في جامعة هارفارد، الحاصل على جائزة نوبل، الدكتور جاك زوستاك: «منذ سنوات، سخَّرت ليزلي أورجيل من الفكرة الساذجة التي تشير إلى وجود تركزات من ريبونوكليوتايدات ribonucleotides نقية طبيعيًّا على الأرض منذ بدء الخليقة، باعتبارها حلم عالِم الأحياء الجزئية. لكن ما زالت الفكرة غير واضحة، إذ كيف ينبثق الحمض النّووي الريبوزي المتجانس نسبيًّا من مزيج غير متجانس يحوي مختلف المواد الأولية؟».
قبل سنوات، استطاع زوستاك وفريقه إيجاد أدلة على أن التسلسلات الهجينة من نوعي الحمض النووي (الريبوزي والريبوزي منقوص الأكسجين) تشرح لماذا أصبح الحمض النّووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA هو المهيمن على الجينوم البشري، متفوقًا على القدرات المزدوجة للحمض النووي الريبوزي RNA.
يمثل البحث الأخير استكمالًا لهذا الاكتشاف، إذ يثبت عدم الحاجة إلى تفسير آلية النشوء المنفصل للحمض النووي الريبوزي أو الحمض النّووي الريبوزي منقوص الأكسجين في ظل الظروف الكيميائية الملائمة لكل منهما.
يقول زوستاك: «لم تكن هناك حاجة إلى مجموعة أساسية من اللبنات الأساسية».
أضف إلى ذلك، إن وجود مُختلَف أنواع الأحماض النووية -بما في ذلك الأنواع التي استغنت عنها الكائنات الحية- قد يؤدي إلى هيمنة الحمض النووي الريبوزي النقي، والسماح له بتولي المهام الحيوية الأساسية، ليصبح بذلك الشكل الأول من أشكال الحياة.
قال زوستاك: «لعل جوهر عمل الحمض النووي الريبوزي في نسخه للخصائص الكيميائية قد أدى، مع مرور الوقت، إلى صناعة المزيد من أجزائه المتجانسة تصاعديًّا».
سيكشف العمل المستقبلي في هذا المجال تفاصيل تفاعل الأحماض النووية مع الكيمياء الحيوية المزدهرة، ذات الأهمية المتزايدة، ما سيجيب بعض الأسئلة المتعلقة بأصل الحياة بصفتها تجمعًا من الحمض النّووي الريبوزي منقوص الأكسجين، والحمض النووي الريبوزي، وحمض النووي الأرابيني، وربما تجيب هذه الأبحاث عن بعض المتغيرات التي قد لا يكون بمقدورنا اليوم حتى أن نتخيلها في مختبراتنا.
في حين أنه ليس بمقدورنا سوى تخمين كيفية نشأة الحياة على الأرض قبل مليارات السنين، يأتي العثور على ما يفسر أصولنا محطةً أساسية تساعدنا على فهم أُسس كيفية نشأة الحياة في أي مكان في الكون عمومًا، إضافةً إلى قدراتنا التي قد تمكننا من ابتكار بدائل اصطناعية في مجال علم الأحياء على كوكبنا الأم. وحتى ذلك الحين، فربما يجب علينا افتراض أن فرضية عالم الحمض النووي الريبوزي هي في الواقع ليست صحيحة.
اقرأ أيضًا:
الحمض النّووي الريبوزي (الريبي) RNA
ما هو الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA ؟
ترجمة: سارة ياسين
تدقيق: أكرم محيي الدين