هاجر الناس من أفريقيا نحو شبه الجزيرة العربية في المرحلة الأولى من موجة الهجرة الكبرى التي أُطلِق عليها اسم «التشتت الجنوبي» وهي أحدث موجات هجرة أجدادنا المسماة «الخروج من أفريقيا».
تشير الاكتشافات الجديدة في هذا المجال إلى طرق غير مُتوَقّعة سلكها أجدادنا تتناقض مع معلوماتنا السابقة عن هجرتهم هذه، وتجعلنا نعيد النظر في هذا الفصل المُعقّد من عصر ما قبل التاريخ. لكننا مع هذا نملك ما يكفي من المعلومات التي تُؤكّد أن هجرة التشتت الجنوبي قد حدثت، وأن الظروف البيئية في كل من أفريقيا وشبه الجزيرة العربية صعّبت رحلة المهاجرين.
كانت المنطقة في هذه الفترة منذ 55000 إلى 65000 سنة تعاني القحط الشديد الذي أدى إلى نُدرة في الغطاء النباتي ونقص في أعداد الثدييات كبيرة الحجم فلم يجد الصيادون وجامعو الثمار ما يصطادونه أو يجمعونه.
يدفعنا هذا إلى التساؤل: على ماذا اعتمد المهاجرون من أفريقيا في غذائهم في أثناء رحلة التشتت الجنوبي ، عندما هاجروا من شرق أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية وقطعوا البحر الأحمر عبر ما يُعرَف اليوم بمضيق باب المندب؟
الإجابة -بحسب البعض- هي مصادر الغذاء البحرية، إذ وفّر لهم البحر قوتهم الضروري في وقت عجزت فيه الأرض عن ذلك، وقد اختلف الباحثون حول صحة هذه الفرضية إذ لا توجد أدلة قوية تدعمها، خاصة وأن هذه المناطق الساحلية من فترة ما قبل التاريخ مغطاة حاليًا بالمياه بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر.
يقول عالم الآثار الساحلية نيكلاس هاوسمان من جامعة يورك في المملكة المتحدة في ورقته البحثية الجديدة التي وضعها مع فريق من الباحثين: «لا نعرف أهمية الموارد الغذائية البحرية للمهاجرين القدامى، ومدى توافر هذه الموارد وسهولة الوصول إليها. من الضروري أن نعرف فائدة هذه الموارد وكمياتها لنتوصل إلى فهم واضح لأنواع الغذاء التي اعتمد عليها الإنسان القديم وهو ما سيساعدنا بدوره على تكوين فهم أفضل لأنماط الهجرة البشرية على المدى الطويل».
حلَّل هاوسمان مع فريقه بقايا أصداف من أكثر من 15000 عينة لحلزون بحري يُسمى Conomurex fasciatus عاش في البحر الأحمر. فُحِصَت البقايا المأخوذة من تلال الأصداف -في مكب نفايات بشرية- في جزيرة فرسان في المملكة العربية السعودية يتراوح عمرها بين 5000 و7000 سنة.
هذه البقايا أحدث بكثير من بقايا المحار الذي استهلكه المهاجرون منذ 50000 إلى 70000 سنة، لكن منطقة البحر الأحمر عانت منذ 8000 سنة جفافًا مشابهًا للجفاف الذي عانته في أثناء التشتت الجنوبي ، وهذا ما يجعل بقايا المحار المُكتَشفة من تلك الحقبة دليلًا يمكن الاستعانة به لإثبات هيمنة الظروف المناخية نفسها في أثناء الهجرة الكبرى.
بحث أعضاء الفريق عن اختلافات ملحوظة في حجم الأصداف بين آلاف بقايا الرخويات التي يُحتمل أن يكون اصطياد البشر المكثف لها قد أثّر في أعدادها وأدى بدوره إلى صعوبة الاعتماد عليها موردًا أساسيًا في الغذاء لعدم توافرها بأعداد كافية.
إن التوصل إلى دليل كهذا في بقايا «بطنيات الأقدام» -وهي الطائفة الحيوية للرخويات التي تنتمي إليها القواقع والأصداف- منذ 5000 إلى 7000 سنة سيدحض بدوره فرضية اعتماد مهاجري التشتت الجنوبي -منذ وقت أطول بكثير- على أصداف البحر الأحمر موردًا للغذاء، لكن فريق البحث لم يجد هذا الدليل.
الأمر الذي يُرجّح وجود أعداد وفيرة من المحار يُحتمَل أن البشر منذ 70000 سنة اعتمدوا عليها في غذائهم مثل اعتمادهم عليها في الأزمنة اللاحقة.
حتى في الأوقات التي شهدت صيدًا مكثفًا لهذه الحيوانات على مدار العام في أثناء فترات الجفاف الطويلة، لم يتأثر تعداد المحار تأثرًا سلبيًا باستهلاك البشر له.
يقول هاوسمان: «تشير بياناتنا إلى أنه في فترات نُدرة معظم الموارد الغذائية على اليابسة استطاع البشر الاعتماد على الموارد المحلية المتوافرة من المحار، تقول الدراسات السابقة إن البشر في منطقة جنوب البحر الأحمر تناولوا المحار طوال السنة على مدى آلاف السنين، ونعلم الآن أن هذا المورد الغذائي لم ينفد بسببهم، بل استطاعت حيوانات المحار الحفاظ على أعداد طبيعية في هذه الفترات».
رغم أننا لا نستطيع أن نعدّ ما ذُكِر آنفًا دليلًا دامغًا على أن مهاجري الخروج من أفريقيا تناولوا كميات كبيرة من المحار ليحافظوا على بقائهم في ظروف قاسية، فهذا هو أفضل ما استطعنا الوصول إليه حتى الآن في هذا الخصوص.
يقول الباحثون: «نظن أن هذه السلوكيات كانت سهلة على الإنسان الحديث، وأن البشر قد تناولوا الرخويات في الأماكن التي توافرت فيها. كان لوجود مصدر غذاء بحري وفير يمكن التنبؤ به والوصول إليه -في جنوب البحر الأحمر- دور كبير في حركة الإنسان، وقد أضاف هذا بعدًا جديدًا لدراسة رحلة الخروج من أفريقيا».
اقرأ أيضًا:
الصورة التقليدية التي يستخدمها الجميع لتوضيح نظرية التطور خاطئة
فرضية جديدة في نظرية التطور تشرح لماذا تتحرك الجينات على الكروموسومات
ترجمة: علي المغربي
تدقيق: وئام سليمان