أحرزت دراسة جديدة تقدمًا مهمًا في حل لغز كيفية حساب دماغ الذبابة اتجاه حركتها، عندما يركز الرأس على اتجاه معين، ويتحرك الجسم باتجاه آخر.
توجد تحديات عدة تعيق تنقل الذبابة كما هو مخطط له، لذا فهي تمتلك أسلوبًا معينًا يمكنها من الطيران عندما تعاكس الرياح حركتها باتجاه الأمام. تتعامل الحيوانات الأخرى مع تحديات مماثلة، إذ نجد أن الأسماك تسبح عكس اتجاه النهر، وأن السلطعون يتحرك جانبيًا بسرعة، وحتى البشر يستطيعون الاتجاه يسارًا بينما ينظرون إلى اليمين.
وجد الباحثون في دراسة جديدة أن دماغ الذبابة يملك مجموعة من الخلايا العصبية تحدد الاتجاه الذي يتحرك به الجسم، بصرف النظر عن الاتجاه الذي يشير إليه الرأس. تصف نتائج الدراسة تفاصيل حساب الدماغ لهذه الإشارة، بواسطة المعلومات الحسية الأساسية الواردة.
يقول غابي ميمون، عالم الأعصاب من جامعة روكفيلر: «لا تشير هذه الخلايا العصبية إلى الاتجاه الذي سيتحرك به الجسم فقط، بل تقوم بذلك في إطار مرجعي متمركز حول العالم المحيط».
يقول تشينغ ليو، المؤلف الأول للدراسة وطالب الدراسات العليا في مختبر ميمون: «لاحظنا أن هذه الحشرات تحول المدخلات الحسية المرتبطة بالجسم إلى إشارات مرتبطة بالعالم المحيط، فتعرف الذبابة أن عليها أن تتحرك مثلًا 90 درجة يمينًا أو يسارًا».
حتى عندما نغلق أعيننا أو نكون في الظلام، نظل قادرين على تحديد مكاننا في الغرفة واتجاهنا، إذ تكوّن أدمغتنا وعيًا ذاتيًا بموقعنا.
اكتشف العلماء في ثمانينيات القرن الماضي مجموعة من الخلايا عُرفت بخلايا الاتجاه الرأسية، التي تؤدي دورًا مفتاحيًا في معرفة التوجه الزاوي، واكتُشفت حديثًا خلايا تملك وظيفةً مشابهة عند الذباب. يحدد نشاط تلك الخلايا الزاوية التي يشير إليها الرأس، إذ يشبه ذلك تحديد إبرة البوصلة للاتجاه في البيئة المحيطة.
تكون الأمور مستقرة بينما نسير في الاتجاه ذاته الذي يتجه إليه الرأس، وكذلك الأمر عند الذبابة، فالخلايا الرأسية تحدد المعلومات الحسية الداخلية عن الاتجاه الذي يتجه إليه الكائن، لكن عند المشي في اتجاه والنظر في اتجاه آخر، مثل المشي باتجاه الشمال والنظر شرقًا، أو عندما تطير الذبابة باتجاه الأمام، بينما تدفعها الرياح إلى الخلف، فإن خلايا الاتجاه الرأسية ستشير عندها إلى الاتجاه الخاطئ.
مع ذلك، ما زال النظام يعمل، فالذباب يبقى قادرًا على الطيران، ولا يتزعزع رغم تيارات الرياح، والبشر لا يضلون طريقهم عندما يلتفتون ليتأملوا المشهد المحيط بهم. تساءل الباحثون عن كيفية معرفة الذبابة الاتجاه الذي تذهب إليه، مع أن خلايا الاتجاه الرأسية تنقل معلومات غير صحيحة كما هو متوقع.
للإجابة عن ذلك وضع ليو لجامًا مصغرًا على رؤوس ذباب الفاكهة، وترك أجنحتها حرة الحركة لكي تتنقل بحرية ضمن بيئة افتراضية، وسجل نشاط أدمغتها في أثناء تحركها، ووضع عدة إشارات مرئية تضمنت ضوءًا ساطعًا يمثل الشمس، وحقلًا من النقاط الخافتة لتشعر الذبابة بأنها مدفوعة من الخلف أو الجانب.
كما كان متوقعًا، فقد حددت خلايا الاتجاه الرئيسية جهة حركة الذبابة باتجاه الشمس، بتحفيز من الضوء الساطع واعتمادًا على حركة النقاط الخافتة. إضافةً إلى مجموعة خلايا الاتجاه الرأسية اكتشف الباحثون مجموعةً جديدةً من الخلايا العصبية، تحدد الطريق الذي سلكته الذبابة، والاتجاه الذي تشير إليه رؤوسها.
مثلًا، إذا توجه الذباب مباشرةً باتجاه الشمس -شرقًا- بينما تدفعه الرياح إلى الخلف، ستشير هذه الخلايا إلى أن الذباب كان فعليًا يتحرك غربًا، يقول ميمون: «هذه المجموعة من الخلايا أول خلايا معروفة تحدد الطريق الذي يسلكه الحيوان، وفق إطار مرجعي متمركز حول العالم المحيط به».
ظل حساب دماغ الحيوان لاتجاه الحركة على المستوى الخلوي محل تساؤل عند الفريق، للتوصل إلى إجابة تعاون ليو وميمون مع لاري أبوت عالم النظريات من معهد زوكرمان التابع لجامعة كولومبيا، وتوصلوا إلى أن دماغ الذبابة يجري نوعًا من الحسابات الرياضية.
يُدرس مسار حركة الأشياء في الفيزياء بتقسيمه إلى مكونات الحركة، وتمثيله في مخطط إحداثي، وبشكل مشابه في دماغ الذبابة يقسم مسار حركة الذبابة -الذي تحدده أربع مجموعات من الخلايا العصبية الحساسة للحركة المرئية- إلى أربع محاور للحركة، تمثل كل مجموعة عصبية مُتجهًا رياضيًّا تشير زاويته إلى اتجاه المحور المرتبط به، ويشير طوله إلى سرعة طيران الذبابة في ذلك الاتجاه.
يقول ميمون: «تدير الدائرة العصبية في دماغ الذبابة هذه المحاور الأربعة حتى تصطف مع زاوية الشمس، ثم تجمعها معًا، ونتيجةً لذلك يشير الشعاع الخارجي إلى اتجاه حركة الذبابة باتجاه الشمس».
تُعد رياضيات المُتجهات أكثر من مجرد تمثيل للحسابات الحاصلة. يُجري دماغ الذبابة حرفيًا عمليات رياضيةً شعاعية، إذ تمثل مجموعات الخلايا العصبية في هذه الدائرة بوضوح متجهات مثل موجات للحركة. يعبر اتجاه الموجة عن زاوية المتجه، وارتفاعها عن طوله. لاختبار هذه الفكرة عدّل الباحثون بدقة طول المتجهات الأربعة الداخلة، واتضح أن المتجه الخارج يتغير كما لو أن الذباب يجمع المتجهات بالفعل.
يقول ميمون: «نمتلك الآن حجةً قوية عن أن ما يقوم به دماغ الذبابة هو تطبيق واضح لرياضيات المتجهات، وقد أظهرت هذه الدراسة برهانًا واضحًا أن الدوائر العصبية تقوم بالعمليات الرياضية بدقة نسبيًا، وهذا ما جعل الدراسة فريدةً من نوعها».
أوضح البحث كيفية معرفة الذباب للطريق الذي يسلكه في لحظة بعينها، وستدرس الأبحاث المستقبلية كيفية تتبع هذه الحشرات مسار حركتها بمرور الوقت لمعرفة وجهتها النهائية.
يقول ليو: «يبقى الهدف الرئيسي لدينا معرفة كيف يدمج الدماغ الإشارات المرتبطة باتجاه حركة الحيوان وسرعته بمرور الوقت لتشكيل الذكريات. يمكن الباحثين استخدام نتائجنا منهجًا لدراسة عمل الذاكرة العاملة في الدماغ».
يمكن تطبيق نتائج الدراسة على الأمراض البشرية، مثلًا بسبب التشوش المكاني الذي يُعد علامةً باكرةً على مرض ألزهايمر، يسعى علماء الأعصاب لفهم كيفية إنشاء الدماغ للشعور الداخلي بالفضاء المحيط به. أوضح ميمون أن الأدمغة الصغيرة لتلك الحشرات تملك معرفةً واضحةً باتجاه حركتها، ما يدفع العلماء للبحث عن إشارات وعمليات مشابهة في أدمغة الثدييات.
يفيد هذا الاكتشاف في الكشف عن جوانب الخلل الوظيفي المسبب لمرض ألزهايمر وغيره من الاضطرابات العصبية التي تؤثر في الإدراك المكاني.
اقرأ أيضًا:
صورة ثُلاثيّة الأبعاد تكشف خلايا عصبيّة خفيّة في مخ ذبابة الفاكهة
إنجاز كبير: علماء الأحياء يبطؤون شيخوخة ذبابة الفاكهة ويطيلون عمرها
ترجمة: هادي سلمان قاجو
تدقيق: منال توفيق الضللي