ينظر الكثير من المؤرخين إلى خطة مارشال على أنها إحدى أولى الخطوات نحو التكامل الأوروبي. إذ تصورت إدارة ترومان نموذج الولايات المتحدة الأوروبية المشابه لأميركا. ووقّعت الكثير من الدول الست عشرة المُشاركة في الخطة معاهدة بروكسل للدفاع المشترك عام 1948 التي كانت أساس تشكيل حلف الناتو في العام التالي.
ما خطة مارشال؟
كانت خطة مارشال برنامجًا طُبق في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بهدف إعانة الدول الأوروبية المدمَّرة. رعت الولايات المتحدة هذا البرنامج، ورسم معالمه وزير خارجيتها جورج مارشال في كلمة ألقاها في جامعة هارفارد عام 1947. ثم أقرها الكونغرس تحت اسم برنامج التعافي الأوروبي.
الهدف من خطة مارشال
كانت الخطة محوريةً في إعادة إحياء اقتصادات الدول الأوروبية، ومن ضمنها ألمانيا وإيطاليا، بعد الحرب. ومع نهاية الخطة عام 1951، فاق النشاط الاقتصادي -في الدول التي تلقت مساعدات فاقت قيمتها 13 مليار دولار- المستويات التي كان عليها قبل الحرب.
آمن مارشال بضرورة استقرار الأوروبيين الاقتصادي من أجل ضمان استقرار حكوماتهم. ومع حاجة أوروبا إلى إعادة بناء قطاعات النقل والزراعة والصناعة والمدن التي دمرتها الحرب الطويلة، وبقاء الولايات المتحدة القوة الوحيدة التي لم تتعرض إلى الدمار، فرض المنطق أن تكون أميركا هي من يساعد على إعادة إعمار الدول الأوروبية.
تاريخ الخطة
في ظل توسع نطاق النفوذ السوفييتي في أثناء الحرب، وما تلاها من تعاظم التوتر بين شطري أوروبا الشرقي والغربي، رأى مارشال في الشيوعية خطرًا يهدد الاستقرار الأوروبي. في المقابل، اعتقد السوفييت أن خطة مارشال ما هي إلا محاولة تدخل في شئون البلدان الأوروبية الخاصة. وبالنتيجة، امتنعت بعض الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي، مثل تشيكوسلوفاكيا وبولندا، عن قبول المساعدات الأميركية. وتسبب ذلك، ولو جزئيًا، في تخلف اقتصاد الاتحاد السوفييتي عن نظرائه في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
بدأ تنفيذ الخطة بشحنات رست في موانئ هولندا وفرنسا وهي تحمل الأغذية والمواد الأساسية. تبع ذلك وصول كثير من المعدات الصناعية مثل الجرارات والتوربينات وآلات التشكيل -المخارط- إضافةً إلى الوقود اللازم لتشغيل تلك المعدات. وقد شكل ما تعهدت به الولايات المتحدة من مساعدات بين عامي 1948 و1951 نسبة 5% من ناتجها المحلي الإجمالي.
كان للخطة أهداف أبعد من أهدافها الاقتصادية، إذ اعتقدت الخارجية الأميركية أن التنسيق بين الدول الأوروبية سيفضي إلى مزيد من الانسجام بينها. وقد قادت الخطة فعلًا إلى تشكيل حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي وقِعت معاهدة إنشائه في 4 أبريل 1949 ليكون حلفًا دفاعيًا بين 30 دولة من أوروبا وأميركا الشمالية.
غيرت الخطة مستقبل المنطقة تغييرًا دائمًا. فقد أدى الاعتماد على المساعدات الأميركية إلى ازدهار التجارة بين أوروبا وأميركا، وبنى الأوروبيون شبكةً واسعةً من السكك الحديد والطرق السريعة والمطارات، لم تكن لتوجد لولا تلك المساعدات. ومع ازدياد الدعوات إلى الوحدة تشكلت فكرة الاتحاد الأوروبي.
عُدت الخطة من أكثر مبادرات الخارجية الأميركية نجاحًا، وبرنامج المساعدات الأكثر فعالية. قال عنها الرئيس ترومان: «إن أميركا هي الأولى من بين الدول العظمى التي تدعم وترعى أعداءها المدحورين». حاز مارشال لاحقًا على جائزة نوبل للسلام مكافأةً له على جهوده.
أمثلة على خطة مارشال
وضعت الخطة مجموعة من الأهداف غرضها تحقيق غاية الحد من انتشار الشيوعية ودعم إيجاد اقتصاد عالمي صحي ومستقر. تضمنت تلك الأهداف إنماء الإنتاج الزراعي والصناعي الأوروبي، واستعادة متانة أنظمة الدول الأوروبية النقدية وموازناتها وماليتها، وتشجيع التجارة الدولية فيما بين تلك الدول والتجارة مع بقية دول العالم.
عُهِدت مهمة تنفيذ الخطة من الجانب الأميركي إلى إدارة التعاون الاقتصادي-ECA، ومن الجانب الأوروبي إلى منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبية.
وفرت إدارة التعاون الاقتصادي منحًا فوريةً إلى الدول التي استخدمتها في دفع ثمن السلع والخدمات وتكاليف شحنها من الولايات المتحدة بطريقة أساسية.
وطلب من تلك البلدان إيداع ما يعادل مبلغ المنحة بالعملات المحلية في صندوق مُواز يُستخدم في تمويل مشاريع البنية التحتية مثل الطرق ومحطات الطاقة ومشاريع الإسكان والمطارات. وكان على هذه المشاريع أن تحوز موافقة إدارة التعاون الاقتصادي.
في بريطانيا، صُرف مليارا دولار من هذه الصناديق على تخفيض الدين، إضافةً إلى استثمار 4.8 مليار في البنية التحتية على النحو التالي: 39% منها في المرافق العامة والنقل والاتصالات ومن ضمنها السكك الحديد ومحطات الطاقة. 14% استُثمرت في الزراعة، و16% في التصنيع. 10% استُثمرت في استخراج الفحم والصناعات الاستخراجية. و 12% في مرافق سكنية منخفضة التكلفة.
استخدمت نسبة قليلة من أموال تلك الصناديق في شراء بعض المواد الأولية التي احتاجتها الولايات المتحدة أو إيجاد مصادر إمداد جديدة لها. قاد هذا إلى تطوير الكثير من المشاريع مثل إيجاد النيكل في كاليدونيا الجديدة والكرومايت في تركيا والبوكسايت في جامايكا.
تضمن مشروع مارشال برنامجًا آخرًا وفر للأوروبيين تدريبًا تقنيًا على طرق الإنتاج الأميركية. إذ بلغ عدد الأوروبيين الذين سافروا إلى أميركا، لدراسة طرق زيادة الإنتاج والمتانة، أكثر من 6000 في نهاية عام 1951.
أسئلة متداولة عن الخطة
كيف أنتجت الخطة نموًا اقتصاديًا؟
أنتجت خطة مارشال نموًا اقتصاديًا عبر توفير التمويل اللازم للكثير من الدول الأوروبية واليابان لإعادة بناء نفسها. إذ أفقرت الحرب معظم أوروبا الغربية وتسببت في نقص حاد في الغذاء والوقود عبر القارة. وعانت الدول لإيجاد التمويل لشراء السلع المستوردة من الولايات المتحدة. وعملت خطة مارشال على دعم الإنتاج وتشجيع التبادل التجاري الدولي بين الدول الأوروبية وبين أوروبا وباقي العالم.
هل نجحت خطة مارشال؟
لم تكن برامج المساعدات في خطة مارشال ناجحة فحسب، بل غير مسبوقة أيضًا. إذ لم تكد تنقضي ثلاث سنوات على الخطة، حتى كان الناتج القومي الإجمالي في كل من النمسا وألمانيا الغربية وإيطاليا قد نما بنسبة 33.5%. وفي العقود الثلاثة التي تلت الحرب، شهدت الدول المشاركة ارتفاعًا في مستوى المعيشة بنسبة 150% بعد أن كان قد هوى بشدة في سنيّ الحرب. وبعد أن كانت هذه الدول على شفير الانهيار الاقتصادي، بدأت في تلمس طريقها نحو عصر النمو الذهبي.
كيف أثرت خطة مارشال في البنك الدولي؟
انبثق كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عن اتفاقية بريتون وودز في نهايات الحرب العالمية الثانية. وكان الذهب في تلك الاتفاقية أساسًا للدولار الأميركي، في حين رُبطت بقية العملات بقيمة الدولار.
وبينما انفرط عقد اتفاقية بريتون وودز في سبعينيات القرن الماضي، ظل البنك وصندوق النقد الدوليين دعامتي نظام صرف العملات العالمي القويتين. وسرعان ما استُبدل دور البنك الدولي، الذي أُنشئ لمساعدة الدول الأوروبية على إعادة الإعمار، بمؤسسات خطة مارشال التي قادت العلاقات المالية الدولية في مرحلة ما بعد الحرب.
ما خطة مولوتوف؟
انسحب مولوتوف، وزير خارجية الاتحاد السوفييتي، من المحادثات مع فرنسا وبريطانيا، رافضًا توسيع نطاق خطة مارشال لتشمل مساعدات تُقدم إلى الاتحاد السوفييتي. وكانت الاعتراضات السوفييتية على الخطة كثيرة، أهمها تعنتهم ضد حصول ألمانيا على أية معونة.
لم تكن لدى فرنسا وبريطانيا نفس المواقف. عندها ضغط السوفييت ونجحوا في دفع حلفائهم في أوروبا الشرقية إلى رفض خطة مارشال، وعرضوا في المقابل خطتهم للمساعدة عام 1947 وأسموها خطة مولوتوف، التي تضمنت إنشاء مجلس التعاون الاقتصادي المتبادل وهو نظام من الاتفاقيات والأحلاف الاقتصادية الثنائية بين الدول الاشتراكية في المعسكر الشرقي.
ما المشترك بين مبدأ ترومان وخطة مارشال؟
مهد مبدأ ترومان الطريق لخطة مارشال. إذ أعلن الرئيس ترومان نيته تمرير مساعدات طارئة بقيمة 400 مليون دولار إلى الدول التي كانت ستقع ضحية المد الشيوعي ما لم تمتد لها يد معونة خارجية. تضمنت تلك الدول تركيا واليونان.
ثم اقترح مارشال في يونيو عام 1947 توسيع نطاق المساعدات لتشمل كامل أوروبا. وكان أن وافق الكونغرس على خطة مارشال التي سميت «برنامج التعافي الأوروبي»
اقرأ أيضًا:
ترجمة: مالك عوكان
تدقيق: حسام التهامي