لا يزال كتاب (تمهيد إلى الحتمية – Primer on Determinism 1986) للفيلسوف الفيزيائي (جون إيرمان – John Earman) أغنى مخزنٍ للمعلومات المتعلّقة بحقيقة الحتمية أو زيفها في مختلف النّظريات الفيزيائيّة، من الميكانيكا الكلاسيكيّة إلى ميكانيكا الكمّ والنّسبيّة العامّة، ولمزيد من المعلومات يمكن متابعة أحدث أبحاثه المتضمّن (جوانب من الحتميّة في الفيزياء الحديثة – Aspects of Determinism in Modern Physics 2007).
وفي هذا المقال سنطّلع فقط على مناقشة مختصرة لبعض القضايا الأساسيّة حول الحتميّة دون التّطرق للحتميّة السّببيّة، التي يمكن تلخيصها بأنّها تدور حول فكرة أنّ كل ّ حدث هو بالضّرورة تابع لسلسلة من الأحداث والظّروف السّابقة التي تحكم وقوعه ضمن قوانين الطّبيعة، ويمكن لمن يرغب من القرّاء بمزيد من التّفاصيل العودة إلى كتابات جون إيرمان أو أيّ مصادر أخرى في هذا المجال.
إنّ اكتشاف ما إذا كانت النّظريّات الرّاسخة تتبع الحتميّة أم لا (أو لأي مدى تتبع لها في حال كان وقوعها محصورًا بفترة قصيرة) لا يقدّم لنا الكثير من العون في معرفة ما إذا كان عالمنا يخضع إلى قوانين الحتميّة أم لا، كما أنّ نخبة نظرياتنا الحاليّة بما فيها النّسبيّة العامّة أو النّموذج القياسيّ لفيزياء الجسيمات، جميعها معيبة جدًا ويُساء فهمها وأقرب لأن تكون خاطئة في أيّ شيء يتعلق بما نسميه بالنّظريّة النّهائيّة.
ومع ذلك وكما أكد إيرمان فإنّ عمليات الاستكشاف قيّمة جدًا بسبب الطّريقة التي تغني فيها فهمنا واستيعابنا لثراء الحتميّة وتعقيدها.
1-الحتميّة في الميكانيكا الكلاسيكيّة:
رغم الاعتقاد السّائد بأنّ الميكانيكا الكلاسيكيّة (النّظريّة التي ألهمت لابلاس في تعبيره عن الحتميّة) هي نظريّة مثاليّة الحتميّة، فهي في الحقيقة غنيّة باحتماليّات حتميّة كفيلة بتمزيقها وتفكيكها.
– تعود إحدى المشاكل إلى عدم وجود حدّ أعلى يحكم سرعات الأجسام المتحرّكة، وفيما يلي نرى مسار جسم متسارع بلا حدود، لتصبح سرعته لانهائيّة في زمن محدود:
بحلول الوقت (t = t*) يختفي الجسم حرفيًا من العالم، لكنّ خطّه الزّمنيّ لا يصل أبدًا إلى الّنقطة الزّمنيّة العليا (t = t*)، (وبغضّ النّظر عن كيفيّة تسارع الجسم بهذه الطّريقة، هناك آليات ملائمة تمامًا للميكانيكا الكلاسيكيّة يمكنها القيام بهذا الفعل، وفي الحقيقة، أظهر (شيا – Xia 1992) أنّ تسارعًا كهذا يمكن أن يحدث بواسطة قوى الجاذبيّة، فقط من خلال خمسة أجسام محدودة، بشرط عدم وجود تصادمات، مع عدم وجود أيّ آليّة في مخطّطاته تفسّر شروط هذه التّجربة)
ومع شديد قلقنا فإنّ هذا <الهروب إلى اللّانهاية> لا يبدو حتّى الأن على أنّه انتهاك للحتميّة، ولكن يمكننا الآن القول إنّ الميكانيكا الكلاسيكيّة متناسبة زمنيًا: فكلّ نموذج له وقت معكوس والذي أيضًا يعتبر نموذجًا متناسقًا مع النّظريّة، ويدعى الوقت المعكوس لهروب جسمنا هزليًّا (الغازي الفضائيّ – Space Invader).
الغازي الفضائي قادم من اللانهائية المكانيّة
ومن المؤكد أنّ العالم الذي يحتوي على غازٍ فضائي ّيفشل في أن يكون حتميًا، فقبل الزّمن (t = t*) لم يكن هناك أي ّشيء في الحالة الماديّة ليمكننا من التّنبؤ بمظهر أو بنية الغازي الفضائيّ في الزمن (t = t*+)، وللوهلة الأولى فإننا نعتقد أنّ اللانهاية في الفضاء هي الملام ُعلى هذا السلوك الغريب، لكن من الواضح تمامًا أنّ هذا غير صحيح.
بشكل محدود فإنّ النّسخ الملتفّة أو الأسطوانية للغازي الفضائيّ النيوتوني (نيوتن) في الزّمكان ذات مسارات يمكن بناؤها، على الرغم من عدم وضوح وجود آلية معقولة تحكمها أو تسبّب حركتها.
– فئة ثانية من النّماذج تؤدّي إلى فشل الحتميّة على أساس ظواهر الاصطدام، والمشكلة الأولى هي اصطدامات الجسيمات المتعدّدة، والتي ببساطة ليس لدى ميكانيكا الجسيمات النّيوتونية أيّ توصيف لما يحدث فيها.
بالنظر إلى ثلاثة جسيمات في نقطة واحدة تصطدم مع بعضها البعض في زوايا 120درجة في وقت واحد، نجد أنّه من الممكن أن ترتدّ مجدّدًا على طول مساراتها السّابقة، ولكن من الممكن أيضًا وبنفس الاحتماليّة أن ترتد عن بعضها باتّجاهات مختلفة (ومرّة أخرى بزاوية 120 درجة بين مساراتها) ما دام زخم الدّفع ثابتًا وغير مهمل.
وعلاوة على ذلك، يوجد مؤلفات مزدهرة للأنظمة المادّيّة أو شبه المادّيّة والتي عادة ما توضعُ في سياق الفيزياء الكلاسيكيّة، رغم احتواها على ما يسمّى (مهام فائقة – Supertasks).
في كثير من الأحيان يكون اللّغز هو أن تقرر على أساس السّلوك المحدّد جيّدًا قبل الوقت (t = a) كيف ستكون حالة النّظام في النّقطة (t = a) نفسها، وإن فشلًا بسيطًا في الميكانيكا الكلاسيكيّة يمكن أن يحيل إلى نتيجة محدّدة جيّدًا، والتي بدورها تظهر لنا فشلًا في الحتميّة.
وفي <المهام الفائقة> كثيرًا ما نواجه أعدادًا لانهائيّة من الجسيمات ذات كثافة كتليّة لانهائيّة (أو غير محدودة)، وغيرها من الظّواهر اللانهائيّة المشكوك فيها، إلى جانب بعض المشاكل الأخرى في حتميّة الميكانيكا الكلاسيكيّة، والتي تجعل المرء يشعر أنّ أغلبيّة المشاكل في الحتميّة (إن لم تكن جميعها) تعتمد على خليط أو بعض من المفاهيم الرّياضيّة التّالية المشكوك فيها: (الفضاء اللانهائيّ، السّرعة غير المحدودة، الاستمراريّة، الجسيمات النقطيّة، الحقول الاستثنائيّة)، والمشكلة تمكن في صعوبة تخيّل أيّ فيزياء مفهومة (أقل بكثير من الميكانيكا الكلاسيكيّة) يمكنها أن تتجنّب أو تنفي كلّ هذه المفاهيم المذكورة.
كرة قد تبدأ بشكل عفوي انزلاقها لأسفل هذه القبة دون أي انتهاك لقوانين نيوتن
أخيرًا، أنشأ (جون نورتون – John Norton 2003) نموذجًا ممتازًا على انتهاك واضح للحتميّة في الفيزياء الكلاسيكيّة، كما هو موضّح في الشّكل السّابق.
تخيّل كرّة متوضعة في قمة قبّة عديمة الاحتكاك، ستكون معادلتها محدّدة باعتبارها تابعًا للمسافة الشّعاعيّة من النّقطة العليا التي تمثّل القبّة، وحالة السّكون الأوّليّة هذه تمثل أساس الشّروط الدّاخليّة لنظامنا هذا، وإذا تساءلنا حول كيف يجب أن يكون سلوكها مستقبلًا، فلن نجد سوى حلٍّ واضحٍ وحيدٍ تبقى فيه الكرة على القمّة في سكون إلى أجل غير مسمّى.
ولكن من الغريب أنّ هذا ليس الحلّ الوحيد ضمن قوانين نيوتن القياسيّة، فقد تبدأ الكرة بحركة انزلاقيّة من القبّة إلى الأسفل في أيّ لحظة من الزمن وفي أيّ اتّجاه شعاعيّ، وهذا المثال يعرض حركة غير معروفة الأسباب دون أن يناقش نورتون أيّ انتهاك لقوانين نيوتن بما فيها قانون نيوتن الأول، وهي (على عكس باقي أمثلة المهام الفائقة) ليست بحاجة لعدد لا نهائيّ من الأجسام.
ومع ذلك فإن ّالعديد من الفلاسفة لا يشعرون بالارتياح مع استنتاجات نورتن الافتراضيّة في مثاله عن الكرة في القبّة، مع الإشارة إلى أسباب التّشكيك في حالة هذه القبّة باعتبارها نظامًا نيوتونيًّا.
2-الحتميّة في النّسبيّة الخاصّة:
ميّزتان من ميّزات الفيزياء النّسبيّة الخاصّة جعلتاها بيئة مضيافة أكثر وأنسب للحتميّة في كلّ السّياقات النّظريّة الأساسيّة، بما فيها حقيقة أنّه لا يوجد عمليّة أو إشارة تُنتقل أسرع من الضّوء، وحقيقة السّكون، وبنية الزّمكان الثّابتة.
تتضمّن الميّزة الأولى حظرًا على (التكيونات – Tachyons) (هي أجسام افتراضيّة تسافر أسرع من الضّوء)، وتستبعد غوازي الفضاء وغيرها من النّظم غير محدودة السّرعة.
والميّزة الثّانية تجعل من الزّمكان نفسه مكانًا جميلًا مستقرًا غير متفرّد، على عكس ديناميكيّة الزّمكان في النّسبيّة العامّة كما سوف نرى لاحقًا.
أما بالنّسبة للحقول الكهرومغناطيسيّة عديمة المصدر في زمكان النّسبيّة الخاصّة، فإن صيغة جميلة من حتميّة لابلاس يمكن إثباتها، ولسوء الحظّ فإنّ الفيزياء المثيرة للاهتمام تحتاج إلى أكثر من الحقول الكهرومغناطيسيّة عديمة المصدر.
في احث (Earman 1986, chapter 2) نجد دراسات استقصائيّة في عمق مطبّات الحتميّة التي تنشأ فور السّماح للأشياء بأنّ تستحوذ اهتمامًا أكبر (مثل إضافة المزيد من الجزيئات في تفاعلاتها الجذبيّة المتبادلة).
3-الحتميّة في النّسبيّة العامّة:
إنّ تحديد صيغة مناسبة لحتميّة محتوى فيزياء النّسبيّة العامّة هو أمر صعب جدًا، وذلك بسبب كلّ من القضايا التفسيريّة الأساسيّة، ووفرة النّماذج لأشكال غريبة من الزّمكان والمسموح بها في معادلات الحقل النّظريّ.
الطّريقة الأبسط لمعالجة قضيّة الحتميّة في النّسبيّة العامّة هي القول وبشكل قاطع إنّ الحتمية فشلت، في كثير من الأحيان، وفي بعض النّماذج الأكثر إثارة للاهتمام.
وهنا سوف نصف باختصار بعض أهم التّحديات التي تنشأ عن الحتميّة، ولمزيد من التّفاصيل يمكن التّوجه إلى الأعمال (Earman 1986) و(Earman 1995).
3-أ-الحتميّة والنّقاط المتشعّبة:
في النّسبيّة العامّة نحدًّد نموذجًا للكون من خلال إعطاء ثلاثة مقادير رياضيّة (M, g, T) وتشير M إلى التّشعب (Manifold) المستمرّ، وذلك يعني نوعًا من الفضاء (أو الزّمكان) غير المنتظم، المكوّن من نقاط مفردة ذات استمراريّة، وأبعاد (عادة ما رباعيّة الأبعاد)، وبنية عالميّة، لكن دون أي هيكليّة أخرى.
ما هو الهيكل الإضافيّ الذي يحتاجه الزّمكان؟ عادة، نتوقع على الأقلّ أن يجري تمييز اتّجاه الوقت عن الاتّجاهات الفضائيّة، ونتوقع أن تكون هناك مسافات محددة بين النّقاط البارزة وهندسة محدّدة الأبعاد (مما يجعل مسارات محدّدة مستمرّة في M خطوطًا مباشرة)، وكلّ هذه الهيكليّة الإضافيّة يُرمز لها بـ g والتي تمثّل حقل المقياس أو حقل الجاذبيّة الافتراضيّ، لذلك فإنّ M وg تشيران معًا إلى الزّمكان.
وتمثل T محتوى المادة والطّاقة الموزّعة حول الزّمكان (إن كانت موجودةً أصلًا).
لأسباب رياضيّة لا صلة لها هنا تبيّن أنّ من الممكن اتّخاذ نموذج معين للزّمكان وإجراء تجربة رياضيّة تسمّى حفرة التّشتت (حفرة ديفيومورفيس – Hole Diffeomorphism) ويرمز لها في المعادلة ب h، حيث أن تأثير ديفيوموريس (أو تأثير التّشتت) هو الانتقال بين محتوى المادّة T والمقياس g بالنّسبة إلى التّشعب المستمرّ M، فإذا تم اختيار التّشتّت بشكل صحيح سيكون بمقدوره الانتقال حول T وg بعد وقت محدّد وهو t=0، ولكن بعد جعل كل شيء مستقلًا قبل ذلك الوقت.
وهكذا فإن النّموذج الجديد يمثل محتوى المادّة (h*T) والمقياس (h*g) المتموضع بشكل مختلف بالنّسبة لنقاط M التي تشكل الزّمكان.
ومع ذلك فإنّ النّموذج الجديد صالح تمامًا من النّاحية النّظريّة، ويبدو ظاهريًا كأنه شكل من أشكال اللاحتميّة، ومعادلات النّسبيّة العامّة لا تحدّد كيف سيتم توزيع الأجسام في الزّمكان في المستقبل، حتّى عندما يكون الماضي قبل وقت محدد t هو وقت ثابت، لا يمكن أن نحدّد ذلك.
عادة ما يقتصر التّغيير على منطقة محدّدة تسمى الحفرة (The Hole) ثمّ من السهل أن نرى أنّ حالة العالم في الوقت (t=0) (وكلّ التّاريخ الذي جاء قبلها) ليست كافية لتحديد ما إذا كان المستقبل سيكون نموذجنا الأول، أو نظيره المتحوّل من الأحداث المختلفة داخل الحفرة.
وهذا هو شكل من أشكال اللاحتمية التي سلّط الضوء عليها كل من إيرمان ونورتون عام 1987 باعتبارها صعوبة فلسفية في تفسير الواقعيّة المتعلّقة بوصف النّسبيّة العامّة للعالم، وخاصّة في ما يتعلق بنقطة التّشعب M، وأظهروا أنّ الواقعيّة المتعلّقة بالتّشعب هي جزء من أثاث الكون (والذي يطلق عليه اسم التّشعب الجوهري Manifold Substantivalism) والذي يصل بنا إلى لا حتمية تلقائيّة في النّسبيّة العامّة (كما هو موضح أعلاه)، واحتج إيرمان ونورتون على ذلك واعتبراه أمرًا غير مقبول.
في الوقت الرّاهن سوف نلاحظ ببساطة أنّ هذه اللاحتميّة (على عكس ما ناقشناه سابقًا في هذا القسم) لا يمكن الكشف عنها تجريبيًا: باعتبار وجود نموذجين (M, g, T) والنّموذج المتحوّل عنه (M, h*g, h*T) اللذين لا يمكن الكشف عنهما أو تمييزهما تجريبيًا.
3-ب-الحتميّة والتّفرّد:
إن الفصل (أو الوصل) بين هياكل الزّمكان بطريقة متشعّبة وقياسيّة يسهّل الوضوح الرّياضيّ بطرق كثيرة، لكنّه أيضًا ومن جهة أخرى يبدو كما لو أنّه يفتح صندوق باندورا (Pandora’s box) عندما يتعلق الموضوع بالحتميّة.
لا تمثل اللاحتميّة في الجدال المتعلّق بحفرة إيرمان ونورتون سوى قمّة الجبل، أمّا التفرديّات فإنّها تشكّل الكثير من بقيّة الجبل، وبصفة عامّة، يمكن التفكير بالتفرد على أنّه مكان تؤول فيه الأمور إلى الأسوأ بطريقة أو بأخرى في نموذج الزّمكان، وعلى سبيل المثال، قرب مركز ثقب شفارتسشيلد الأسود تزداد درجة الانحناء دون حدود وفي المركز نفسه تكون غير معرفة.
أي أنّه لا يمكننا اعتبار معادلات آينشتاين مفهومة في هذه الحالة، مما يعني (يمكننا قول ذلك) أنّ هذه النّقطة غير موجودة باعتبارها جزءًا من الزّمكان على الإطلاق، بعض الأمثلة المحددة تكون واضحة، لكنّ إعطاء تعريف عام للتفرّد (مثل تعريف الحتميّة نفسها في النّسبية العامّة) هو قضية شائكة جدًا.
ويمكن النّظر إلى (Earman 1995) للشّرح الموسّع، وإلى Callender and Hoefer 2001)) لنظرة عامّة موجزة، أمّا هنا لن نعرض جميع تعريفات التفرد وأنواعه المختلفة وسنكتفي ببعض التّبسيط.
جلبت أنواع مختلفة من التّفرّد أنواعًا مختلفة من التّهديدات للحتميّة، وفي حالة الثّقوب السّوداء الاعتياديّة المذكورة سابقًا فإن كلّ ما يقع خارج ذلك يسمّى أفق الحدث، والذي هو السّطح الكرويّ الذي يحدّ الثّقب الأسود، فمجرد دخول جسم أو إشارة ضوئيّة عبر أفق الحدث نحو المنطقة الدّاخليّة للثّقب الأسود لا يمكنها الهروب مرة أخرى.
وبشكل عام ليس هناك ما يلوح في الأفق حول انتهاكٍ للحتميّة خارج أفق الحدث، لكن ماذا عن الدّاخل؟ بعض نماذج الثّقوب السوداء تمتلك ما يطلق عليه أفق كوشي (Cauchy Horizons) داخل أفق الحدث، وكمثال على ذلك يمكننا أخذ السطوح المتموضعة خارج أفق كوشي والتي تنهار عندها الحتميّة.
طريقة أخرى يكوّن فيها نموذج الزّمكان التّفرد هو أن ذهاب نقاط أو مناطق معيّنة إلى الضّياع، وفي بعض الحالات استئصالها ببساطة، ولعل النموذج الأكثر مأساوية من هذا يشتمل أخذَ نموذج جميل مع سطح فضاء مشابه وقطع هذا السطح ورميه بعيدًا برفقة كل النّقاط لاحقًا وبشكل مؤقت، ويتلاءم الزمكان الناتج عن ذلك مع معادلات آينشتاين، لكن ولسوء حظ سكان الأرض فإن العالم يكون بذلك في طريقه إلى نهاية مفاجئة غير متوقعة عند الزمن E، وهذه خطوة مبتذلة جدًا لأن تعتبر التهديد الحقيقي للحتمية في النسبيّة العامّة، ويمكننا أن نفرض شرطًا معقولًا بأنّ الزّمكان لا يَنفذْ في هذه الطّريقة دون سبب من الأسباب المادّيّة (يجب أن يكون الزمكان متمدّدًا إلى حدّه الأقصى).
ويمكن مراجعة (Earman 1995, chapter 2) لمناقشة نسخ محدّدة لمثل هذا الشّرط ومعرفة ما إذا كان ناجحًا في القضاء على الفروق غير المرغوب بها.
أكثر أنواع التّفرّد إشكاليّة في حالة الحتمية هي التفرّدات المجرّدة (تفرّدات غير مخفيّة خلف فضاء الحدث)، عندما يتشكل التّفرد من انهيار الجاذبيةّ فإن النموذج المعتاد لمثل هذه العملية ينطوي على تشكيل فضاء حدث (مثل ثقب أسود)، أي وجود كون مع ثقب أسود اعتياديّ متفرّد، لكن وكما لاحظنا أعلاه، (خارج نطاق أفق الحدث على الأقل) فإنه لا يحدث أي شيء لا يمكن التنبؤ به كنتيجة لما يسبقه.
وعلى النقيض من ذلك فإن تفردًا مجرّدًا ليس له أي حاجز وقائي، في الطّريقة التي يمكن فيها لأي شيء أن يختفي بالوقوع في تفرد المنطقة المقتطعة، أو الظهور من ثقب أبيض (الثقوب البيضاء في الواقع هي بحد ذاتها تفرّدات مجردة من النّاحية التّقنية)، وهناك قلق من احتماليّة خروج أيّ شيء من الثّقوب البيضاء دون سابق إنذار (وهنا نجد انتهاكًا للحتميّة العابرة).
معظم نماذج الثّقوب البيضاء لها سطوح كوشي وبالتّالي يمكن القول إنّها حتميّة، بينما يوجد نماذج لتفرّدات مجرّدة أخرى تفتقر إلى هذه الخاصّيّة.
ويبقى الفيزيائيون في حالة اضطراب من الاحتمالات التي لا يمكن التنبؤ بها لمثل تفردات كهذه، في محاولة لإثبات مختلف الافتراضات الكونية المستخدمة التي تظهر (بأمل) تحت افتراضات مادّيّة مقبولة، مثل هذه الأمور لا تنشأ بانهيار نجميّ في النّسبيّة العامّة (وبالتالي فهي ليست عرضة للوجود في عالمنا).
حتى الأن لم يُثبت وجود أي أشكال عامة مقنعة من الفرضية، لذلك فإن احتمالات الحتمية في النسبية العامة باعتبارها نظرية رياضية لا تبدو جيدة بشكل مقنع.
4-الحتميّة في ميكانيكا الكمّ:
كما هو مبين أعلاه، يغلب على نطاق واسع الاعتقاد أنّ ميكانيكا الكم هي نظريّة لا حتميّة، ويشيع الاعتقاد (حتى بين معظم الفيزيائيين) أنّ ظوهر مثل التّحلل الإشعاعيّ وانبعاث الفوتونات وامتصاصها وغيرها الكثير من الظّواهر يمكن إعطائها وصفًا احتماليًا فقط، لأنّ النّظريّة لا تقول ماذا يحدث في حالة معينة ولكنّها فقط تعطي احتمالات مختلفة للنّتائج الممكنة.
لذلك وعلى سبيل المثال، وفقًا لميكانيكا الكمّ فإنّ الوصف الأشمل والأكثر احتمالًا لذرّة الراديوم (أو قطعة من الرّاديوم لهذه المسألة) لا يكفي لتحديد موعد تحلّل ذرة معيّنة ولا حتّى لمعرفة عدد الذرّات التي سوف تتحلّل من قطعة المادة في وقت من الأوقات، لكنّ النّظرية تعطينا فقط احتمالات التحّلل (أو عددها) التي سوف تحدث خلال فترة زمنيّة معيّنة.
ربما يعتقد آينشتاين والفيزيائيون الآخرون أنّ هذا خلل في النّظرية ويجب إزالتها في نهاية المطاف واستعاضتها بنظرية مخفيّة متغيّرة بديلة عنها لتستعيد حتميتها، لكنّ بعض الأعمال اللّاحقة أظهرت عدم وجود حسابات كهذه متغيرة مخفية، وعلى المستوى المجهريّ يُعتبر العالم ذا أساس غامض محفوف بالمخاطر.
وهذا ما آلت إليه الحكاية، لكن وكما الكثير من الروايات الشعبية، فإنّها خاطئة جزئيًا ومضلّلة، ولسخرية الموضوع فإن ميكانيكا الكمّ تعتبر واحدة من أهمّ الاحتمالات النّظريّة الحتميّة الأصيلة في العصر الحديث، وكل شيء متوقف على القرارات التّفسيريّة والفلسفيّة التي يتبنّاها الشّخص.
تعتبر معادلة شرودنغر (Schrödinger) القانون الجوهريّ والأساسيّ في قلب ميكانيكا الكم اللانسبيّة، وتطوّرات التوابع الموجية تصف النظام الفيزيائي تحت هذه المعادلة باعتباره وبشكل اعتيادي تامّ الحتميّة.
إذا تبنّى الشخص تفسير ميكانيكا الكم وفقًا لما هي عليه (مثلًا: لا شيء أبدًا يقطع تطور معادلة شرودنغر، والتوّابع الموجيّة المحكومة بالمعادلة تروي لنا القصّة الفيزيائيّة كاملة) وحينها تكون ميكانيكا الكمّ نظريّة حتمية تمامًا، وهناك العديد من التّفسيرات التي وضعها فيزيائيون وفلاسفة حول ميكانيكا الكم والتي تذهب جميعها في هذا الاتّجاه.
والأكثر شيوعًا (وهو جزء من أساسيّات الرّوايات الشّعبيّة) هو أنّ الفيزيائيّين توصّلوا إلى حلّ مشكلة القياس الكموميّة بافتراض بعض عمليات (انهيار تابع الموجة) تحدث أثناء القياسات أو الملاحظات التي تقطع تطوّر شرودنغر، وعملية الانهيار عادة ما تفترض أنّها لا حتميّة مع احتماليات لنتائج مختلفة قابلة للحساب على أساس نظام تابع الموجة، وذلك عن طريق قاعدة بورن (Born’s rule)، والمعيار الأوليّ لتفسيرات كوبنهاغن في ميكانيكا الكمّ يفترض مثل هذا الانهيار، والذي لديه الفضل في حلّ مشاكل معيّنة مثل مفارقة قطّة شرودنغر سيئة السّمعة.
ولكن عددًا قليلًا من الفيزيائييّن أو الفلاسفة يمكنهم أخذ الموضوع على محمل الجدّ باستثناء العازفين عن النّظرية منهم، والسّبب بسيط، فعملية الانهيار غير معرفة فيزيائيًا بشكل جيّد وموسومة بشروط نظريّات التّشكل البشريّ الغامضة، إضافة إلى أنّها تبدو مخصّصة لتكون جزءًا أساسيّا من قوانين الطّبيعة.
في عام 1952 أنشأ (ديفيد بوهم – David Bohm) تفسيرًا بديلًا لميكانيكا الكم اللانسبيّة (وربما يفضّل التّفكير بها باعتبارها نظرية بديلة) والتي أدركت حلم آينشتاين بنظرية خفيّة متغيّرة وباستعادة الحتميّة والوضوح للواقعيّة المكرويّة.
في ميكانيكا الكم البوهميّة وخلافًا لجميع التّفسيرات الأخرى فإنّ من المفترض امتلاك كلّ الجسميات وفي كل الأوقات مواقعَ وسرعاتٍ محدّدة، وبالإضافة إلى معادلة شرودنغر، طرح بوهم معادلة توجيهيّة تُحدد (على أساس نظام تابع الموجة والمواقع الدّاخليّة للجسيمات وسرعاتها) ماذا سوف يكون موقعها المستقبلي وسرعتها، وتُعتبر نظريّة بوهم نظريّة حتميّة بمقدار أيّ نظرية كلاسيكيّة تشرح حركة الجزيئات في حقول الطّاقة.
والمثير للدهشة أنّه كان قادرًا على إظهار ذلك طالما أنّ التّوزيع الإحصائيّ للمواقع والسّرعات الدّاخليّة للجزيئات تلبّي شروط التّوازن الكمومي، و تعتبر نظريته نظيرًا تجريبيًا لميكانيكا الكمّ المقياسيّة لكوبنهاغن.
من جهة، يمكننا القول إنها كابوس الفلاسفة: بوجود نظريّة تجريبيّة حقيقيّة بالقوّة التي حصل عليها بوهم يبدو أن الدلائل التجريبية لا يمكنها إخبارنا أيّ من تفسيرات الواقع هو الصّحيح، (لحسن الحظ يمكننا أن نفترض بأمان أنها جميعًا غير صحيحة بشكل كامل ونأمل أن تكون نظريتنا النهائية ليس لها ندّ بين النّظريّات التّجريبيّة البديلة).
ومن جهة أخرى فإنّ نظرية بوهم هي حلم الفلاسفة الذي تحقّق بإزالة الكثير (وليس الكلّ) من غموض ميكانيكا الكمّ المعياريّة، وإعادة الحتميّة إلى فيزياء الذّرّات والفوتونات.
هذه الدّراسة العامّة لحالات الحتميّة في بعض النّظريّات الفيزيائيّة الشّهيرة، كما هو مبين أعلاه، لا تخبرنا حقيقة أيّ شيء حول ما إذا كانت الحتميّة صحيحة في عالمنا، وبدلًا عن ذلك فقد أظهرت احتمالات أخرى مثيرة للقلق الوقت الذي سوف نحصل فيه على نظريّتنا النّهائية (إذا جاء وقت مثل هذا)، وعند قدوم ذلك الوقت فإننا: أولًا من الممكن أن نواجه صعوبة في تعيين ما إذا كانت نظريّتنا النّهائيّة حتميّة أم لا.
وهذا يعتمد على ما إذا كانت النّظريّة مصحوبة بتفسيرات غير محلولة أو معضلات رياضيّة، وثانيًا من الممكن أن يكون لدينا أسبابنا للقلق من النّظريّة النّهائية، إذا كانت لا حتميّة، وليس لها نظريّة حتميّة تجريبيّة منافسة لها (كما هو الحال في ميكانيكا الكمّ البوهميّة).
- ترجمة: حيدر علي ضغام.
- تدقيق: ملك عفونة
- تحرير: أحمد عزب
- المصدر