قبل 90 عامًا، أجبر جنود يابانيون موجودون في شمال الصين رجلًا صينيًا على مساعدتهم على بناء جسر عبر نهر سونغهو في مدينة هاربن. وبينما لم يكن المشرفون منتبهين وجد الرجل كنزًا: جمجمة بشرية كاملة مدفونة في ضفة النهر، غطّاها وأخفاها في حفرة ليمنع الجنود اليابانيين من العثور عليها. اليوم خرجت الجمجمة أخيرًا من مخبأها وحملت اسمًا جديدًا هو: الرجل التنين ، أحدث عضو في العائلة الإنسانية، الذي عاش قبل أكثر من 146 ألف عام.
في ثلاث أوراق نشرت في صحيفة (innovation) أطلق عالم الأحفوريات كيانج جي من جامعة هيبي وفريقه تسمية «هومو لونجي» (homo longi) –تعني (long) تنين باللغة الصينية- على النوع الجديد، ويعتقدون أنه يعود للمجموعة الشقيقة للإنسان العاقل، وعليه فإنه أقرب للإنسان الحالي من «النياندرتال». شكك باحثون آخرون في صحة اعتقاد الفريق بالنوع الجديد وتحليلهم لشجرة العائلة الإنسانية. لكنهم يعتقدون أن الجمجمة الكبيرة لها هوية لا تقل إثارة، وهي أنها جمجمة «دنيسوفان» وهو سلف إنساني من آسيا عُرف أساسًا من الحمض النووي.
تقول عالمة الأحفوريات مارتا ميرازون لار من جامعة كامبريدج، غير المشاركة في الدراسة، إنها متشككة بشأن التصريحات المشيرة إلى السلف الأخوي الإنساني الضائع، في حين يتحمس آخرون، يقول عالم الأحفوريات جان-جاك هوبلن من مؤسسة ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري: «إنها جمجمة رائعة، أعتقد أنها أفضل جمجمة دنيسوفان قد نراها».
جلب أحفاد الرجل الصيني هذه الجمجمة المدهشة بعد أن أخبرهم عنها على فراش موته، إذ حصلوا عليها وسلّموها لمتحف علوم الأرض في جامعة هيبي. توفي الرجل الصيني قبل أن يتمكن جي من سؤاله عن المكان الدقيق للعثور عليها، تاركًا الباحثين في حيرة من أمرهم فيما يتعلق بالسياق الجيولوجي لمكان وجودها الأول.
دون سياق جيولوجي، اضطر جي لتوظيف عدة باحثين للمساعدة على تحديد تأريخ الجمجمة. استطاع عالم الأحفوريات رينر غرون من جامعة غريفث في نيثن- أستراليا وزملاؤه أن يجدوا صلة بين ترسبات نظائر عنصر السترونتيوم الموجودة داخل التجاويف الأنفية للجمجمة وتلك الموجودة في طبقات محددة حول الجسر، ويرجع تأريخها إلى 138,000-309,000 عام. ويخبرنا أيضًا تحديد سلسلة اليورانيوم بأنها وُجدت قبل 146 ألف عام على الأقل.
حاول بعدها الباحثون التعرف على الجمجمة، إذ كان عالم الأحفوريات شيجون ني من الأكاديمية الصينية للعلوم وجامعة هيبي في حيرة من أمره، فللجمجمة الكبيرة دماغ مقارب في الحجم لدماغ الإنسان الحديث، لكن ليس من المحتمل أن يكون أحد أنواع الإنسان العاقل، إذ يمتلك محاجر عيون كبيرة، تقريبًا مربعة الشكل وحواف حاجبية سميكة وفمًا واسعًا وأضراسًا ضخمة.
استخدم ني طرق إحصائية حسابية لبناء وتحليل مجموعة بيانات شملت 600 سمة للجمجمة، منه: قياسات طولية وحجم الحواجب ووجود بعض السمات أو غيابها مثل ضرس العقل، ثم قارن بين 55 سمةً لـ 95 متحجرةً أُخرى شملت جماجم وفكوك وأسنان من الجنس الإنساني من حول العالم، رتب الحاسوب المتحجرات في أشجار عائلية، ووجد أن الشجرة التي تتناسب مع البيانات تمتلك أربع مجموعات رئيسية، وُجدت الجمجمة في مجموعة شملت فروعها عدة جماجم من أواسط العصر الحديث في الصين، وذلك قبل 789,000–130,000 عام عندما عاش أنساب عدة من أشباه البشر معًا.
ارتبطت الجمجمة الجديدة ارتباطًا وثيقًا بعظم الفك الذي وجد في كهف شاهي في هضبة التبت، إن البروتينات في عظم الفك والحمض النووي الذي وجد في ترسبات داخل الكهف، يشيران بشدة إلى أنه دنيسوفان، وهو قريب للنياندرتال عاش في كهف دنيسوفا في سيبيريا على نحو متقطع من 280,000 إلى 55,000 عام وترك آثارًا من حمضه النووي في الإنسان الحديث. حتى الآن كل ما تم التعرف عليه من الدنيسوفان هو إصبع خنصر وسن وجزء من عظام الجمجمة، إلا أن الأضراس الكبيرة الغريبة الخاصة بالجمجمة الحديثة كما وصفها عالم الاحفوريات بنس فيولا من جامعة تورنتو تشبه الأضراس التي وُجدت في دنيسوفا بعد أن حللها مع عالم الأحفوريات هوبلن.
يقر الناشرون للأوراق البحثية المذكورة آنفًا أن الجمجمة قد تعود للدنيسوفان، يقول كريس سترنجر عالم الأحفوريات في متحف لندن للتاريخ الطبيعي صراحةً: «أعتقد أنها قد تعود لدنيسوفان».
لم يحاول الفريق بعد استخراج الحمض نووي أو البروتينات من الجمجمة أو الأضراس أن يختبروا صحة هذه الفكرة، في الوقت الحالي أظهر التحليل أن مجموعة المتحجرات الصينية كانت أقرب للإنسان العاقل الأول من قربها للنياندرتال الذين وُجدوا في نفس الحقبة الزمنية، يقول عالم الأحفوريات ني: «يعود النياندرتال إلى نسب منقرض هو الأقرب لنوعنا الحالي -الإنسان العاقل- وهذا هو الاعتقاد السائد، إلا أن هذا الاكتشاف يقترح أن النسل الجديد الذي تم التعرف عليه والذي يشمل الرجل التنين هو مجموعة شقيقة للإنسان العاقل».
انتقد الكثير من الباحثين التحليلات التي أُجريت، رغم اندهاشهم من الحجم والحالة الممتازة للجمجمة، قال عالم الأحفوريات هوبلن: «عندما اطلعت على التحليل، كانت مفاجأة مذهلة لي». تساءل الباحثون كيف كان للجمجمة صلة وثيقة بعظم الفك لجمجمة شاهي، في حين لا توجد سمات متناظرة للمقارنة؟
إذ إن الجمجمة الحديثة تفتقد عظم الفك، إضافةً إلى أن دراسات الحمض النووي وجدت أن الإنسان الحديث أقرب إلى النياندرتال من الدنيسوفان، فإذا كان عظم الفك في كهف شاهي يعود بالفعل لدنيسوفان فإن الجمجمة الجديدة أقرب صلةً للنياندرتال، لا للإنسان العاقل.
تقول عالمة الأحفوريات ماريا مارتينون- تورس من المركز القومي لبحث التطور البشري في إسبانيا: «إنه من المبكر جدًا تسمية نوع جديد، خصوصًا أن الأحفورة لم توجد ضمن سياق معين، مع وجود تناقضات في مجموعة البيانات المستخدمة في التحليل».
حاليًا، يقول الباحثون إنهم يتجنبون المخاطرة بتدمير السن أو أي عظم آخر للحصول على الحمض النووي أو البروتين، عبّر باحثون آخرون عن آمالهم في أن يتم العمل بأقرب فرصة ممكنة، إذ قال عالم الأحفوريات فيولا إنه يتمنى يومًا ما أن ينظر إلى عيني دنيسوفان.
اقرأ ايضًا:
هل سيتطور الجنس البشري أكثر في المستقبل؟ وكيف سيصبح؟
حفريات عمرها 2 مليون سنة تكشف عن بداية تطور قدرات البشر السمعية
ترجمة: علي صالح
تدقيق: لبنى حمزة