تُدمر الأفكار والآراء المنافية للعلم سياستنا، أو هكذا تزعم شبكة مفكري الويب المظلم (IDW). من الأمثلة التي يوردها هؤلاء الزاعمون لمثل تلك الأفكار المُطالَبة العلنيّة المتزايدة بحقوق العابرين والعابرات جندريًا، وفقًا لـ (IDW) فإن العابرين والداعمين لهم يدمرون ركائز مجتمعاتنا بأفكار مثل: «النساء العابرات هن نساء أيضًا»، و«صيغة الخطاب المحايدة جندريًا» و«هناك أكثر من جندرين»، وهم بهذا يتجاهلون مفاهيم بيولوجية أساسية، فالعلم والحقائق لا تهمّها مشاعرك وآرائك.
تكمن المفارقة هنا في أن هذه الجماعة التي تسمي نفسها «حماة التنوير» تمارس نفس السلوك الذي ترفضه، ومع أنهم يُعَدّون غالبًا حركة هامشية في العالم الافتراضي فهم يروجون لادعاءات غير علمية مؤثرة في الثقافة والسياسة العامة. ما يثير القلق على وجه الخصوص أن هذه التأكيدات «الثقافية» تستخدمها جماعة غير علمية لإيجاد أسس علمية لتجريد العابرين والعابرات من إنسانيتهم.
وعواقب هذه الأفكار تتضح مع مرور الوقت، كمنع العابرين جندريًا من الاشتراك في الخدمة العسكرية والمخالفات التي تُسجل ضدهم في الحمامات العامة وطردهم من أماكن العمل والتفرقة التي يتعرضون لها في إجراءات الحماية الطبية. إضافةً إلى نسب محاولات الانتحار المرتفعة التي تبلغ 41-51% والعنف القاتل الموجه ضدهم، فالأمر تجاوز كونه مجرد تنمر افتراضي.
يساعدنا العلم على فهم التجربة الحقيقية للعبور الجنسي بأبعادها الثلاثة: الجينية والبيولوجية العصبية والهرمونية.
الجنس البيولوجي:
المعروف أن الكروموسومات XX تعطي أنثى والكروموسومات XY تعطي ذكرًا، هذا التبسيط المبالغ فيه طريقة جيدة لتعلُّم أهمية الكروموسومات، لكنه لا يتوافق مع حقيقة الجنس البيولوجية، فالاعتقاد السائد أن الجنس ينتج عن الكروموسومات خاطئ. الحقيقة أن الجنس البيولوجي ليس أمرًا ثابتًا، بل هو نظام حي قابل للتغيير. فالجنس البيولوجي أعقد بكثير من الكروموسومات XX وXY، أو حتى XXY وX. فالأفراد الذين يملكون كروموسومات XX قد تكون لديهم غدد تناسلية ذكرية، وقد يملك ذوو الكروموسومات XY مبايض. ويحدث ذلك عبر مجموعة معقدة من الإشارات الجينية التي تبدأ بمجموعة صغيرة من الخلايا الجذعية ثنائية القدرة وجين يُسمى SRY.
ينمو الجنين الملقح حديثًا دون تحديد الجنس، وتتجمع كتلة من الخلايا في الأسبوع الخامس تقريبًا مُشكّلة الخلايا الجذعية ثنائية القدرة، هذه الخلايا ليست ذكرية أو أنثوية، لكن يمكنها أن تتمايز إلى خصيتين أو مبيضين أو لا تتمايز إلى أي منهما. وبعد تشكل هذه الكتلة من الخلايا قد يُفعل الجين SRY وهو جين موجود على الكروموزوم Y الذي اكتُشف سنة 1990، بفضل مشاركة أفراد حاملين لصفات الجنسين، ذكور بكروموسومات XX وإناث بكروموسومات XY.
لا تزال العملية غير واضحة تمامًا، لكننا نعلم أن الجين SRY له دور في دفع كتلة الخلايا الجذعية ثنائية القدرة نحو تشكيل أعضاء ذكرية، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فهذه الآلية دقيقة التوقيت، إذ يجب أن تُعبّر مجموعة من الخلايا عن الجين في وقت محدد وإلا أصبح الجنين أنثى أو شيئًا آخر. إضافةً إلى أن جينات أخرى مثل DMRT1 وFOXL2 تحافظ على الصفات الجنسية بعد البلوغ، وإذا توقفت عن العمل تُظهر الغدد التناسلية صفات الجنس الآخر، أي أن عناصر الجنس البيولوجي قد تتغير إذا توقفت هذه العوامل عن نشاطها.
الدماغ:
يشير البعض إلى فكرة الدماغ الذكري أو الأنثوي دليلًا على فكرة الثنائية الجنسية، لكن أظهرت الكثير من الأبحاث التجريبية على مدار نصف قرن أدلةً تتعارض مع تلك الفكرة، إذ لا يوجد ما يُسمى الدماغ الذكري أو الأنثوي، وهذا لا يعني رفض وجود فروق واضحة، فبعض صفات الدماغ قد تكون ثنائية، أي موجودة بفروق بسيطة لدى الذكور والإناث. لكن فكرة «جنس الدماغ» لا تعطي تفسيرًا لهذه الفروق، وتعيق البحث العلمي.
من الأمثلة التي تذكر على ثنائية شكل الدماغ النوى في الباحة أمام البصرية، فهي أكبر لدى الذكور مقارنةً بالإناث، لكن لا يتضح هل يشير اختلاف الحجم إلى اختلاف وظيفي في الوصل العصبي في تلك المنطقة بين الذكور والإناث؟ إضافةً إلى أن الباحة أمام البصرية لدى الرجال المثليين أقرب إلى النساء المغايرات من الرجال المغايرين، ما ينفي فكرة الدماغ الذكري تمامًا.
محاولة ربط الجنس بالكروموسومات الجنسية والثنائية الجنسية غير مجدية لفهم خصائص الدماغ، فهرمون فازوبريسين مثلًا ثنائي الشكل لكنه يرتبط بالاختلافات والتشابهات السلوكية، أي أن فكرة الثنائية الجنسية ليست ذات فائدة علمية وهذا أوضح ما يكون في الدماغ، إضافةً إلى أن أدمغة العابرين جندريًا تثبت ذلك.
تسهل رؤية الثنائية الجنسية لكنها خاطئة، بفضل مشاركة العابرين جندريًا في الأبحاث العلمية أصبحنا قادرين على فهم العلاقة بين بنية الدماغ والجنس والجندر. بعض خصائص الدماغ كالحجم والترابط في الدماغ لدى العابرين تقع في المجال بين الصفات النموذجية للذكور والإناث المتوافقين قبل مرحلة العبور أو بعدها. ووجدت دراسة أخرى أن بعض مناطق الدماغ لدى العابرين مشابهة لمناطق الدماغ المتوافقين جنسيًا ممن لهم الهوية الجندرية نفسها، ووجدت الدراسة نفسها أن بعض المناطق المحددة من دماغ العابرين أقرب إلى مناطق دماغ الجنس الذي ولدوا به. ووجد باحثون آخرون أن العابرين يمتلكون بعض الاختلافات البنيوية الفريدة التي لا يملكها المتوافقون جنسيًا.
الجسم والدماغ والهرمونات
يوجد عامل بيولوجي آخر يؤثر في التعبير عن الجنس البيولوجي لدى الأفراد، وهو الهرمونات. يعرف الجميع مدى تأثير الهرمونات الجنسية في مرحلة البلوغ، لكن لا يمكن حصر دور الهرمونات بالفكرة البسيطة التي مفادها أن الإستروجين للإناث والتستوستيرون للذكور. فجميع البشر يملكون مستويات مختلفة من الإستروجين والبروجيسترون والتستوستيرون وهي اختلافات جنسية ليست بالوضوح الذي يُروج له. تبقى هذه الهرمونات في مرحلة الطفولة حتى البلوغ في حالة ثنائية الإمكانية دون اختلافات جنسية تذكر، وبعد البلوغ تميل هذه الهرمونات الجنسية تجاه الذكورة أو الأنوثة.
لكن لدى الراشدين تكون مستويات البروجيسترون والإستروجين متشابهة بين الرجال والنساء غير الحوامل، والتستوستيرون هو الهرمون الذي يمثل الفارق الأكبر بين الذكور والإناث. تظهر الدراسات الوراثية أن الجينات تفسر فقط 56% من مستوى التستوستيرون لدى الفرد. وتختلف مستويات الهرمونات الجنسية لدى الفرد بدرجة كبيرة حول «القيمة الوسطية» بصرف النظر عن تقارب الفترات التي قِيست فيها هذه المستويات أو تباعدها. فالنموذج ثنائي الجنس ليس فقط غير كاف لتوقع مستوى الهرمونات لدى الفرد بل غير مفيد أيضًا لوصف العوامل المؤثرة.
تؤثر العوامل البيئية والاجتماعية والسلوكية في الهرمونات الجنسية لدى الذكور والإناث، ما يعقد فكرة أن الهرمونات هي ما يحدد الجنس. فتختلف مستويات البروجيسترون مثلًا لدى الذكور استجابةً للمواقف الاجتماعية الذكورية التي تتطلب الهيمنة والمنافسة. أما الإستروجين الذي يرتبط عادةً بالسلوك الأنثوي يقوم أيضًا بدورٍ في المواقف الاجتماعية التي تتطلب القوة والهيمنة.
تؤثر العديد من العوامل الخارجية في مستويات التستوستيرون التي تكون عادةً مختلفة بين الذكور والإناث، مثل كون الفرد مسؤولًا عن تربية طفل أو لا، وقد تعطينا هذه المستويات المختلفة من التستوستيرون بين الذكور والإناث توقعًا عن بعض سلوكيات التربية. وقد تغير التخيلات الجنسية مستويات الهرمون. الحقيقة هي أن السلوك والبيئة المحيطة -كالمعايير والتوقعات الجندرية- تؤثر في الهرمونات الجنسية وبيولوجيا الجسم وحتى الدماغ.
العلم والمجتمع: أقوى معًا
الخلاصة أن العلم واضح وجازم، الجنس ليس ثنائيًا والأشخاص العابرون جندريًا موجودون وحقيقيون، وقد حان وقت اعترافنا بذلك. واستخدام «حقائق» مجردة من سياقها لوصف هوية الأشخاص أمر غير علمي وغير إنساني. توفر تجربة العبور الجندري فهمًا ضروريًا لعلم الجنس وتظهر علميًا أن الظواهر غير الشائعة وغير النموذجية ضرورية من أجل نظام معيشي ناجح، وحتى الجهود العلمية نفسها تصبح أنجح عندما تكون شاملة ومتنوعة. ومهما كانت آراء السياسيين أو المثقفين أو متنمري الإنترنت فإن العابرين جندريًا جزء أساسي من واقعنا المعاش، والعابرون يمثلون التنوع والتعقيد وهما ميزتان أساسيتان للحياة والتطور والطبيعة نفسها، تلك هي الحقيقة.
اقرأ أيضًا:
ما هو التحول الجنسي وكيف تتم عمليات تغيير الجنس؟
ترجمة: ليلان عمر
تدقيق: مازن النفوري
مراجعة: أكرم محيي الدين