إذا كُنت ممن يُحبّون الشراب، فلا ننصحُكَ (بزجاجة كلاين – Klein bottle) لأنها ليست المناسبة لك، قد تبدو بشكلٍ مُبهم كزجاجة، لكنّها في الحقيقة لا يمكنها أن تحصُر أيَّ حجمٍ، مما يعني أنه من غير الممكن أن تحجز سائلًا داخلها؛ وباختصار نستطيع القول أنَّه مهما سكبتَ سائلًا داخلها سيعود إليها مرّةً أخرى.
الآن يَكْمُن السؤال؛ كيف يمكننا صنع مثل هذا الشيء الغريب، ولماذا نرغب بصنعه في المقام الأول؟
وصفَ عالم الرياضيات (فيليكس كلاين- Felix Klein) الذي اكتشفَ الزجاجةَ عام 1882، بأنه سطحٌ يُمكن تصوّره عن طريق قَلبِ جزءٍ من أنبوبٍ مطّاطي والسماح له بالمرور عبر نفسه بحيث تلتقي النهايات مع بعضها البعض.
يتم تشكيل زُجاجة كلاين عن طريق ضمّ جانِبَيّ صفحة لتُصبح بشكل أسطوانة (أنبوب)، ثم فتلِ إحدى نهايتيها لتدخل عبر نفسها ويلتقي داخل الأسطوانة ( المُمثل باللون الأخضر) مع خارجها ( المُمثل باللون الأبيض) ليلتصق الطرفين معًا في نهاية المطاف.
قد تبدو زُجاجة كلاين مثلِ الأجسام الكرويّة المعروفة؛ أي أنها سطحٌ مُغلق، ومحدودٌ بحيثُ يمكن مُلائمتها في منطقة مُحدودة من الفضاء، ولكن بالرغم من ذلك، حتّى النملةُ إذا ما تجوّلَت عليها، ستبقى في حالة حركة أبديّة دون أن تُصادِف أي حدٍ لها أو حافة وتسقُطَ منها.
وعلى عكسِ الجسم الكروي والذي يحوي سطحًا داخليًّا وآخرَ خارجيّ، فإن لزُجاجة كلاين سطحٌ أو جانبٌ واحدٌ فقط، بحيث يمكن لتلك النملة أن تمشي عليه وتصلَ إلى جانبيّ كُل نقطة من السطح، وهذا هو السبب وراء عدم إمكانيّة زُجاجة كلاين من حصرِ أي حجمٍ داخلها، بالإضافة لأنه يُجيب على التساؤل (لماذا)؛ لكونِ زجاجة كلاين من الأشكال أحادية الوجه والتي لا نُصادف العديد منها في الطبيعة.
لربما يكونُ هذا الأمر مُربِكًا بعض الشيء، لكن لا بأس بذلك، يُمكننا التفكير في مثال أبسط عن السطوح أحادية الجانب مثل ( شريط موبيوس – Möbius strip) الشهير، إذا يمكنك صنع نموذج عنه بشكل بسيط وذلك عن طريق أخذ شريطٍ ورقيّ من أحدِ طرفيه ونعطيه إلتواءً ثم نُلصقه مع النهاية الأخرى.
وعن طريق استخدام شريط ورقيّ بلونين مُختلفين على كل جانب أخضر وبرتقالي، فيصبح من السهل أن تُقنع نفسك بأن شريط موبيوس الناتج هو أحاديّ الجانب، وحالما تَلوِيه وتُلصقه، ستلاحظ أنَّه بإمكانك الوصول لكل نُقطة برتقاليّة من كُلِ نُقطة خضراء دون أن تخترق الورقة أو تصعدَ لحافّتها.
تُظهر الصورة شكلًا لـ ( شريط موبيوس – Möbius strip)
وعلى عكسِ زُجاجة كلاين، فإن لشريط موبيوس حدود، إذ يتألف من زوجٍ من الحافّات التي لم تُلصَق من الشريط الورقي، ولكن مع ذلك هنالك صلة وصلٍ بين الاثنين؛ فإذا أخذت شريطَي موبيوس وكوّنت بهما شكلًا مُغلقًا عن طريق ضمِّ حدودهما باستخدام شريطٍ عاديٍ ثنائيّ الجوانب، فسوف تحصل على شكل زُجاجة كلاين بالضبط كما هو مُبيّنٌ في الفيديو التالي:
وهنالك ميزةٌ غريبةٌ أخرى لزجاجة كلاين، إذ يتقاطع مع نفسه، مما يعني أنه من الصعب صُنعه من أنبوبٍ مطاطيّ واحد كما اقترح كلاين، وبمعنىً أدق، فإن الجسم المتقاطع مع نفسه الذي وُصفَ سابقًا هو ليس بزجاجة كلاين إذ أوضحَ كلاين بأنه مجرّد تخيّل لتلك الزجاجة.
ولتقريب الفكرة إلى إذهاننا فلْنفكّر في كعكة الدونات والمعروفة رياضيًا باسم ( الطارة الدورانيّة – Torus) ، حيثُ يمكنك صنع هذه الطارة من قطعة مطاطيّة مربّعة الشكل وذلك عن طريق لصق جانبيها المُتقابلين لتشكيل أسطوانة ومن ثم لصق نهايتا الأسطوانة مع بعضهما لتكوين الطارة بشرط الحفاظ على نفس النقاط المتقابلة مع كلّ حد من حدودها.
وإذا وجدتَ اللصق أمرًا مُزعجًا، بإمكانك بكل بساطة التفكير بالطارة على أنّها مُربعٌ مع الأخذ بالحُسبان أن النقاط المُتقابلة هي ذاتها على الأوجة المُتقابلة، لذا فعندما تزلِقُ شكًلا مرسومًا على مُربع في حافّته العلويّة، فإنَّ الشكل سيظهرُ مجددًا في الحافّة السفليّة، وإذا كان على الحافّة اليُمنى سيظهر على الحافة اليُسرى ( والعكسُ بالعكس).
أما للحصول على زُجاجة كلاين الحقيقيّة، فإنها تبدأ بنفس الطريقة، عن طريق تحديد النقاط المُتقابلة على كل زوجٍ من الجوانب المُتقابلة للمربع (الشاقوليّة كما في هذه الصورة أدناه)، أما بالنسبة للجوانب الأخرى فلا تحدد النقاط المتقابلة بشكل مباشر وإنما النقاط المُتقابلة قطريًا كما هو مبيّن في الصورة أدناه:
إذا تم ترقيم النقاط على الضلعين العلوي والسفلي بالأرقام من 0 إلى 1 باتجاهٍ من اليسار إلى اليمين، فإن أيَّ نقطة ذاتُ الرقم (x) من الضلع العلوي، تقابلها نقطة على الضلع السفليّ وتحمل الرقم 1 مطروحًا منه (x) وبالتالي فإنَّ المُجسّم الناتج هو زجاجة كلاين.
وبالعودةِ للتفكير بالشكل المربّع، مع الأخذ بعين الإعتبار كون النقاط على الحدود هي ذاتها، فإذا ما حرّكتَ شكلًا مرسومًا فوق أحد الحواف التي تم تحديد نقاط مقابلة لها ( الشاقوليّة كما في الصورة أعلاه) فإنّها تظهر مُجددًا على الجانب الآخر وكأنها صورةُ من مرآةٍ للشكل الأصليّ.
لذا فإن الطريقة الوحيدة لصنع هذا الشكل في فضاءٍ ثلاثيّ الأبعاد ولصق النقاط مع بعضها البعض هي من خلال السماح للشكل أن يتقاطع مع ذاته، وهذا يشير لتحديد أزواجٍ من النقاط في باطن المربع الأصلي، وبمعنىً أدق، إن الشكل الناتج هو ليس كزجاجة كلاين بالضبط والتي لديها نقاط حدوديّة محددة، لكنها مجرّد طريقة واحدة لتمثيل زُجاجة في الفضاء ثلاثيّ الأبعاد.
ومن الغريب أن مفاهيمًا (كالداخل والخارج) بالإضافة (لأحاديّ الجانب) تعتمد على الفضاء المُحيط الذي يقع فيه الجسم، فعلى سبيل المثال، إذا صوُّرت عقدةُ على قطعة ورق في فضاءٍ ثنائيّ الأبعاد فإن ( الداخل والخارج ) معروفين جيّدًا، أما إذا تم هذا الأمر في فضاءٍ ثلاثيّ الأبعاد فلا يكونان معروفين.
وهذا هو السبب وراء عدم قدرتنا على التحدّث عن أحاديّ الجانب حتّى نقرر أولًا كيفيّة ترسيخ/دمج السطح في فضاء ثلاثي الأبعاد، ومع ذلك فهنالك خاصيّة جوهريّة بالنسبة للشكل والذي لا يعتمد على الفضاء المحيط، حيث يسمّى السطحُ بـ (السطح الموجّه – Orientable) إذا لم يكن بالإمكان زلقُ شكلٍ مرسوم عليه وإعادته للمكان الذي بدأ منه تمامًا لذا عندها تبدو كصورة مرآة.
وكما رأينا في صورة الوجه السابقة، فإن شريط موبيوس يعتبر من السطوح (غير القابلة للتوجيه – non-orientable) ويمكننا وصفه رياضيًّا بأنه سطحٌ مغلق غير قابل للتوجيه.
- ترجمة: رامي الحرك
- تدقيق: أسمى شعبان
- تحرير: ناجية الأحمد
- المصدر