تاريخ العمل المصرفي
كان العمل المصرفي موجودًا منذ صرف العملات الأولى وربما حتى قبل ذلك بطريقة أو بأخرى، لا سيما عندما بدأ نظام العملات المعدنية وأضيف إلى نظام الضرائب. ومع توسع الإمبراطوريات، كانت الأنظمة الوظيفية للعمل المصرفي مطلوبة لجمع الضرائب وتوزيع الثروة.
فهم تاريخ العمل المصرفي
لقد بدأ تاريخ العمل المصرفي حين كانت الإمبراطوريات في حاجة إلى وسيلة لدفع ثمن السلع والخدمات الأجنبية بالاستعانة بشيء يمكن تبادله بسهولة، وفي نهاية المطاف حلت عملات معدنية متنوعة الأحجام والمعادن محل الأوراق النقدية الهشة غير الدائمة.
ولكن كان يلزم الاحتفاظ بالعملات المعدنية في مكان آمن، ولم تكن البيوت القديمة تحتوي على خزائن فولاذية. فوفقًا لموسوعة التاريخ العالمي، كان الأغنياء في روما القديمة يحتفظون بعملاتهم المعدنية والمجوهرات في قبو المعابد. ووجود الكهنة أو عمال الهيكل -الذين كانوا من المفترض مخلصين وصادقين- والحراس المسلحين أضاف شعورًا بالأمان.
السجلات التاريخية من اليونان، وروما، ومصر، وبابل القديمة تشير إلى أن المعابد كانت تقرض المال بالإضافة إلى حفظه آمنًا. وكون معظم المعابد تعمل أيضًا مراكز مالية لمدنها بات سببًا رئيسيًا لنهبها خلال الحروب.
فقد كان من الممكن تكديس العملات النقدية بسهولة أكبر من غيرها من السلع الأساسية، وعلى هذا فقد لجأت مجموعة من التجار الأثرياء إلى إقراض العملات، وكانت المعابد تتولى عادة تقديم القروض الضخمة لمختلف الجهات السيادية، أما مقرضي الأموال التجارية الأثرياء فقد تعاملوا مع بقية الفئات.
البنك الأول
كان الرومان خبراء في البناء والإدارة، بدأوا بإخراج المصارف من المعابد وأضفَوا عليها طابعًا رسميًا ضمن مبانٍ متميزة. وفي تلك الأيام كان المقرضون ما يزالون يستفيدون، كما تفعل القروض اليوم، لكن جرت العادة في التجارة الشرعية والإنفاق الحكومي على استعمال مصرف مؤسسي.
وفقًا لموسوعة التاريخ العالمي، سمح يوليوس قيصر -في أحد المراسيم التي غيرت القانون الروماني بعد استلامه- للمصرفيين بمصادرة الأراضي بدلًا من سداد القروض، وكان هذا تحولًا هائلًا للسلطة في العلاقة بين الدائن والمدين، فقد كان النبلاء الذين تم الاقتراض منهم لا يمكن المساس بهم، فكانوا ينقلون الديون إلى أحفادهم إلى أن ينقرض الدائن أو أنساب المدين.
انهارت الإمبراطورية الرومانية، ولكن بعض مؤسساتها المصرفية عاشت في هيئة المصرفيين البابويين الذين ظهروا في الإمبراطورية الرومانية المقدسة وفرسان الهيكل أثناء الحروب الصليبية. وغالبًا ما كان مقرضو المال غير المتفرغين الذين تنافسوا مع الكنيسة يستنكرون الربا.
لاحظ مختلف الملوك الذين حكموا أوروبا نقاط القوة التي تتمتع بها المؤسسات المصرفية، وبما أن البنوك كانت قائمة بفضل المواثيق والعقود الصريحة أحيانًا التي تحكم السيادة، فقد بدأت القوى الملكية بالحصول على القروض للتعويض عن الأوقات العصيبة في الخزانة الملكية، وغالبًا وفق شروط الملك. هذا التمويل السهل قاد الملوك إلى إسراف لا لزوم له، وحروب مكلفة، وسباقات تسلّح مع ممالك مجاورة كانت تؤدي غالبًا إلى سحق الديون.
في سنة 1557، حمّل فيليب الثاني ملك إسبانيا مملكته الكثير من الديون (نتيجة لحروب عديدة لا طائل منها) حتى أنه سبب أول حالة إفلاس وطني في العالم. وقد حدث ذلك لأن 40 % من الناتج القومي الإجمالي للبلد كان يتجه نحو خدمة الدَين.
آدم سميث والمصارف الحديثة
كان العمل المصرفي راسخًا بالفعل في الإمبراطورية البريطانية عندما قدّم آدم سميث نظرية «اليد الخفية» عام 1776. وبفضل آرائه في اقتصادٍ ذاتي التنظيم، تمكن المقرضون والمصرفيون من الحد من انخراط الدولة في القطاع المصرفي والاقتصاد عمومًا، وقد وجدت رأسمالية السوق الحرة والمصارف التنافسية أرضًا خصبة في العالم الجديد، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية على وشك أن تظهر.
في البداية، لم تكن أفكار سميث مفيدة للصناعة المصرفية الأمريكية. كان متوسط العمر الافتراضي لأي بنك أمريكي خمسة أعوام، وبعد ذلك أصبحت أغلب الأوراق النقدية الواردة من البنوك المختلفة عديمة القيمة. والواقع أن هذه البنوك التي تستأجرها الدولة لا تستطيع في نهاية المطاف إلا أن تصدر الأوراق النقدية في مقابل العملات الذهبية والفضية التي تحتفظ بها في الاحتياطي.
وكان السطو على البنوك يعني أكثر من ذلك كثيرًا في عصر التأمين على الودائع ومؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية. وأدت الأزمة النقدية الدورية في أمريكا إلى تفاقم هذه المخاطر.
فقد أنشأ ألكسندر هاملتون، وزير الخزانة الأسبق، بنكًا وطنيًا يقبل أوراق نقدية للأعضاء بالأسعار الاسمية، وبالتالي ينقذ البنوك في الأوقات العصيبة. وبعد توقفات عديدة وبداية وإلغاء وإحياء مرة أخرى، أنشأ هذا البنك الوطني عملةً وطنية موحدة وأنشأ نظامًا دَعمتْ البنوك الوطنية بموجبه أوراقها المالية بشراء سندات الخزانة، وبالتالي خلق سوقًا سائلة. فقد دفعت البنوك الوطنية المنافسة من طريق فرض الضرائب على بنوك الدولة التي تعاني من انعدام القانون نسبيًا.
ولكن الضرر كان قد وقع بالفعل، فقد أصبح الأمريكيون العاديون بالفعل غير واثقين من البنوك والمصرفيين عمومًا. وهذا الشعور كان من شأنه أن يدفع ولاية تكساس إلى تجريم بنوك الشركات وهو القانون الذي ظل قائمًا حتى عام 1904.
البنوك التجارية
سقطت بين أيدي البنوك التجارية الكبرى أغلب الواجبات الاقتصادية التي كان النظام المصرفي الوطني ليتولاها، فضلًا عن الأعمال المصرفية العادية مثل القروض وتمويل الشركات، وذلك لأن النظام المصرفي الوطني كان متقطعًا. وخلال هذه الاضطرابات التي استمرت حتى عام 1920، فرضت هذه البنوك التجارية علاقاتها الدولية على السلطة السياسية والمالية.
وكانت هذه البنوك تشمل في الأصل جولدمان ساكس وكوهن ولوب وشركاه، وجي بي مورجان وشركاه، وكانت تعتمد كثيرًا على عمولات مبيعات السندات الأجنبية من أوروبا، مع تدفق راجع صغير من تجارة السندات الأمريكية في أوروبا، وهذا سمح لهم ببناء رأس المال.
وفي ذلك الوقت، لم يكن أي بنك ملزمًا قانونيًا بالكشف عن احتياطياته من رأس المال، وهو ما يشير إلى قدرته على تحمل خسائر كبيرة تفوق المتوسط في القروض. وكانت هذه الممارسة الغامضة تعني أن سمعة البنك وتاريخه أكثر أهمية من أي شيء آخر. ورغم أن البنوك البادئة كانت تأتي وتذهب، فإن هذه البنوك التجارية التي تسيطر عليها الأسر كانت تتمتع بتاريخ طويل من المعاملات الناجحة. ومع ظهور الصناعات الضخمة وخلق الحاجة إلى تمويل الشركات، لم يكن من الممكن توفير كميات رأس المال المطلوبة من قبل أي بنك منفرد، وعلى هذا فقد أصبحت العروض العامة الأولية وعروض السندات المقدمة إلى عامة الناس الوسيلة الوحيدة لجمع رأس المال المطلوب.
لم يكن عامة الناس في الولايات المتحدة، والمستثمرون الأجانب في أوروبا، يعرفون إلا قليلًا جدًا عن الاستثمار لأن الإفصاح عن المعلومات لم يكن مفروضًا قانونيًا. ولهذا السبب، تم تجاهل هذه القضايا إلى حد كبير، وفقًا لتصور عامة الناس عن البنوك المؤمّنة. ونتيجة لهذا فإن العروض الناجحة كانت سببًا في زيادة سمعة البنك ووضعه في موقف يسمح له بطلب المزيد من الدعم لضمان العرض. وبحلول أواخر عام 1800، طلبت العديد من البنوك منصبًا في مجالس إدارة الشركات الساعية إلى الحصول على رأس المال، وإذا ثبت أن الإدارة تفتقر إلى القدرة على إدارة الشركات، فإنها تدير الشركات بنفسها.
جي بي مورجان والاحتكار:
ظهر جي بي مورجان وشركاه على رأس البنوك التجارية أواخر عام 1800، وكانت مرتبطة مباشرة بلندن، التي كانت آنذاك المركز المالي العالمي، وتتمتع بنفوذ سياسي كبير في الولايات المتحدة. فقد أنشأت شركة مورغان وشركاه شركات الصلب الأمريكية، وشركة AT&T، وشركة هارفيستر الدولية، فضلًا عن الشركات المزدوجة وشبه الاحتكارية في صناعات السكك الحديدية والنقل البحري، من خلال الاستخدام الثوري للهيئات الائتمانية وعدم الاكتراث بقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار.
ورغم أن فجر عام 1900 شهد تأسيس بنوك تجارية راسخة، فقد كان من الصعب على المواطن الأمريكي العادي أن يحصل على القروض. وكانت العنصرية أيضًا واسعة الانتشار، ورغم أن المصرفيين اضطروا إلى العمل معًا في قضايا كبيرة، فإن زبائنهم كانوا منقسمين على أسس عرقية واضحة. فقد تركت هذه البنوك القروض الاستهلاكية للبنوك الأقل حجمًا التي كانت ما تزال تعاني من العجز بمعدل ينذر بالخطر.
ذعر 1907:
تسبب انهيار أسهم صندوق ائتمان النحاس في إثارة الذعر، والانفضاض عن البنوك، وبيع الأسهم، ما أدى إلى هبوط الأسهم. وفي غياب بنك الاحتياطي الفيدرالي لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتهدئة الناس، فقد وقع الأمر على جيه بي مورجان لوقف الذعر. ولقد استخدم مورجان نفوذه الكبير في جمع كل اللاعبين الرئيسيين في وول ستريت للمناورة حول الائتمان ورأس المال الذي يسيطرون عليه، تمامًا كما يفعل بنك الاحتياطي الفيدرالي اليوم.
نهاية عصر:
ومن عجيب المفارقات أن هذا الاستعراض للقوة العليا في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي كان السبب في عدم تمكن أي مصرفي خاص من استغلال هذه السلطة مرة أخرى. ولأن جيه بي مورجان كلف بإنقاذ الاقتصاد رغم أنه كان مصرفيًا مكروهًا من قبل قسم كبير من أمريكا لأنه كان واحدا من البارونات اللصوص إلى جانب كارنيجي وروكفلر، فقد أنشأت الحكومة بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 1913. ورغم أن البنوك التجارية أثّرت على بنية بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإنها ساعدت على تشكيله.
وحتى مع تأسيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، كانت القوة المالية والسلطة السياسية المتبقية تتركز في وول ستريت. عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، تحولت أمريكا إلى مقرض عالمي وحلت محل لندن مركزًا للعالم المالي بحلول نهاية الحرب. ولكن من المؤسف أن الإدارة الجمهورية كانت تفرض بعض القيود غير التقليدية على القطاع المصرفي. وأصرت الحكومة على ضرورة أن تسدد جميع الدول المدينة قروضها الحربية التي كان تُلغى عادةً وخاصة في حالة الحلفاء قبل أن تقدم أي مؤسسة أمريكية المزيد من القروض.
ولقد أدى هذا إلى تباطؤ التجارة العالمية وجعل العديد من البلدان معادية للبضائع الأمريكية. وعندما تحطمت سوق الأسهم يوم الثلاثاء الأسود في عام 1929، انهار الاقتصاد العالمي الذي كان بطيئًا بالفعل. ولم يتمكن بنك الاحتياطي الفيدرالي من احتواء الانهيار وفشل في إيقاف الكساد؛ وكانت العواقب المترتبة على ذلك مباشرة بالنسبة لكل البنوك.
رُسم خط واضح بين البنوك والمستثمرين في عام 1933، فلم يعد يسمح للبنوك بالمضاربة في الودائع، كما تم سن لوائح المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC) لإقناع عامة الناس بأن العودة آمنة، ولكن لم ينخدع أحد واستمر الكساد.
الحرب العالمية الثانية ومرحلة الإنعاش:
بالرغم من الدمار الناتج عن الحرب العالمية الثانية لكنها ربما أنقذت الصناعة المصرفية من الدمار الكامل. فقد نجحت الحرب العالمية الثانية وما ولدته من مجهود في وقف دوامة الانحدار التي ابتليت بها الولايات المتحدة واقتصادات العالم.
وبالنسبة للبنوك وبنك الاحتياطي الفيدرالي، كانت الحرب تتطلب مناورات مالية باستخدام مليارات من الدولارات. ولقد عملت عمليات التمويل الضخمة هذه على خلق شركات ذات احتياجات ائتمانية ضخمة، الأمر الذي دفع البنوك بالتالي إلى الاندماج لتلبية الطلب. وقد امتدت هذه البنوك الضخمة إلى الأسواق العالمية.
والأهم من ذلك أن العمل المصرفي المحلي في الولايات المتحدة قد استقر أخيرًا إلى النقطة التي يصبح عندها الفرد قادرًا غالبًا على الوصول إلى الائتمان مع ظهور التأمين على الودائع والرهن العقاري.
فوائد العمل المصرفي
باستثناء الأثرياء للغاية، فإن قلة من الناس يشترون بيوتهم بمعاملات نقدية، والأغلبية في حاجة إلى رهن عقاري، أو شكل من أشكال الائتمان، للقيام بمثل هذا الشراء الضخم.
لقد قطعت البنوك شوطًا طويلًا بعيدًا عن معابد العالم القديم، ولكن ممارساتها التجارية الأساسية لم تتغير. وتصدر البنوك الائتمان أو القروض للأشخاص الذين يحتاجون إليها، ولكنها تطالب بفوائد على رأس سداد القرض. ورغم أن التاريخ غيّر العديد من النقاط في نموذج العمل، فإن الغرض من البنك يتلخص في تقديم القروض وحماية أموال المودعين. حتى اليوم بعد أن حلّت البنوك الرقمية والتمويل محل المواقع التقليدية من الطوب، فإن البنوك ما تزال موجودة لأداء هذه المهمة الأساسية.
اقرأ أيضًا:
الفوائد على القروض: ما الفرق بين الفائدة البسيطة والفائدة المركبة؟
ترجمة: عمرو سيف
تدقيق: حسين جرود