تتشارك كل من الفئران والجرذان والخنازير بقوة خارقة خفية: جميعها يمكنها التنفس عبر الأمعاء، وقد اكتشف العلماء ذلك بعد ضخ الأكسجين في مؤخراتها؛ ربما تتساءل: لمَ قد تُجرى تجارب كهذه من الأساس؟
أراد الباحثون إيجاد بديل محتمل للتهوية الميكانيكية، وهي طريقة طبية علاجية يضخ فيها جهاز ميكانيكي الهواء إلى داخل رئتي المريض عبر القصبة الهوائية. تعمل أجهزة التنفس الصناعي على إيصال الأكسجين إلى الرئتين وتساعد على إزالة ثاني أكسيد الكربون من الدم، غير أن هذه الأجهزة ليست متوفرة دائمًا.
مثلًا، واجهت المستشفيات في مطلع جائحة كوفيد-19 نقصًا حادًا في أجهزة التنفس الصناعي، وفقًا لتقرير نيويورك تايمز، وفي حين أن الأطباء قادرون على الاستعانة بتقنية أخرى تسمى الأكسجة الغشائية خارج الجسم (ECMO)، التي يُضَخ فيها الدم إلى خارج الجسم وتعاد أكسجته في جهاز، فإن هذه التقنية ليست خالية من المخاطر؛ إذ قد يحدث نزيف أو جلطات دم، إضافةً إلى أن أجهزتها أقل توفرًا من أجهزة التنفس الصناعي، وفقًا لمؤسسة مايو كلينك.
بحثًا عن حلول أخرى، استمد فريق الدراسة الإلهام من بعض الحيوانات البحرية، مثل خيار البحر وأسماك الشبوط التي تعيش في المياه العذبة، وتستخدم أمعاءها للتنفس. لم يتضح في ذلك الوقت إذا كانت للثدييات أيضًا القدرات ذاتها، رغم محاولة بعض العلماء الإجابة عن هذا السؤال في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
يقول أبرز كتاب الدراسة والبروفيسور في جامعة طوكيو للطب وطب الأسنان، الدكتور تاكانوري تاكيبي: «درسنا في بادئ الأمر نظام فأر نموذجي للتحقق من قدرتنا على إيصال غاز الأكسجين عبر فتحة الشرج، وقد تفاجأنا للغاية في كل مرة أجرينا فيها التجارب».
دون التهوية المعوية، لم تنجُ الفئران الموضوعة في بيئة منخفضة الأكسجين سوى لمدة 11 دقيقة، أما بعد التهوية عبر فتحة الشرج، نجا 75% منها لمدة 50 دقيقة، وذلك بفضل وصول الأكسجين من القناة الهضمية إلى القلب.
جرب الفريق بعدئذ استخدام سائل مؤكسج عوضًا عن الغاز مع فئران وجرذان وخنازير، وتوصلوا إلى نتائج واعدة بالقدر ذاته؛ يشير الفريق إلى أنه ثمة حاجة إلى إجراء مزيد من البحوث للتحقق من أمان العملية وفعاليتها عند البشر، وفقًا لما ورد في ورقة بحثية لنتائجهم نُشرَت في الرابع عشر من شهر مايو عام 2022 في دورية ميد.
يقول الدكتور كايلب كيلي، عالم وطبيب في كلية الطب في جامعة ييل: «لقد سلطت الجائحة الضوء على حاجتنا إلى توسيع خياراتنا في التهوية والأكسجة في حالات المرض الحرجة، وستستمر هذه الحاجة حتى عند انتهاء الجائحة؛ إذ ستكون هناك أوقات يصبح فيها التنفس الاصطناعي غير متوفر أو غير كافٍ لوحده».
«إذا أصبحت التهوية المعوية في نهاية المطاف ممارسة شائعة في وحدات العناية المركزة بعد مزيد من البحث، فإن المؤرخين سيعتبرون هذه الدراسة الجديدة مساهمةً علمية كبيرة في هذا الجانب».
بأخذ ذلك في الاعتبار، درس فريق من الباحثين في روسيا فكرة استخدام التهوية المعوية لدى المرضى البشر وأجروا تجربة سريرية في عام 2014 حسبما ورد في مجلة European Journal of Anaesthesiology، وقد ابتكر الفريق ذاته وسائل ومعدات لإيصال غاز الأكسجين إلى الأمعاء، بقيادة الدكتور فاديم مازورك، بروفيسور ورئيس قسم التخدير وقسم العناية المركزة في مركز ألمازوف الوطني للبحوث الطبية.
من المرجح أن يركز تاكيبي وزملاؤه على استخدام السائل المؤكسج مع المرضى البشر في تجاربهم السريرية المستقبلية، ولكن يشكل عمل مازورك وفريقه سابقة في هذا النهج.
قبل بدء تجاربهم على القوارض، أمعن تاكيبي وزملاؤه في دراسة أمعاء أسماك الشبوط؛ تستقبل هذه الأسماك الأكسجين عبر خياشيمها، ولكنها أحيانًا عندما تتعرض إلى ظروف منخفضة الأكسجين، تستخدم جزءًا من أمعائها للتبادل الغازي عوضًا عن الخياشيم.
في الواقع، تتغير تركيبة الأنسجة المعوية المحيطة بفتحة الشرج استجابةً إلى نقص الأكسجين؛ إذ تزداد كثافة الأوعية الدموية المجاورة ويقل إفراز السوائل المتعلقة بالهضم، وفقًا لتاكيبي.
يقول تاكيبي: «تتيح هذه التغييرات الطفيفة لسمك الشبوط شفط الأكسجين بفعالية أكبر. إضافةً إلى ذلك، تُعَد الطبقة الطلائية الخارجية لأمعاء الشبوط رقيقة للغاية؛ ما يعني أن الأكسجين يمكنه اختراق النسيج بسهولة ليصل إلى الأوعية الدموية في الأسفل».
من أجل تحفيز هذه التغيرات التركيبية لدى الفئران التي استخدموها في تجاربهم، رقق الفريق النسيج الطلائي المعوي لدى تلك القوارض باستخدام مواد كيميائية وعمليات ميكانيكية متنوعة، ثم عرّضوا الفئران إلى ظروف منخفضة الأكسجين إلى حد كبير، واستخدموا أنبوبًا لضخ غاز الأكسجين في مؤخرات الفئران وفي داخل أمعائها الغليظة.
مقارنةً بمجموعة الفئران التي لم يُرقَّق نسيجها الطلائي المعوي، تمكنت المجموعة ذات الأنسجة الطلائية الرقيقة من النجاة مدة أطول إلى درجة ملحوظة في التجربة، إذ نجى معظمها لمدة 50 دقيقة مقارنةً بـ 18 دقيقة لدى المجموعة الأخرى، بينما لم تنجُ الفئران التي لم تُعطَ أي أكسجين سوى مدة 11 دقيقة تقريبًا.
إضافةً إلى نجاة مجموعة الفئران ذات الأنسجة الطلائية الرقيقة لمدة أطول، فإنها أظهرت علامات على أنها لم تعد تتضور إلى الأكسجين؛ إذ توقفت عن اللهث للهواء أو إظهار أي علامات على السكتة القلبية، إضافةً إلى تحسن ضغط الأكسجين في أوعيتها الدموية الرئيسية.
على الرغم من أن هذه التجربة الأولية أشارت إلى أن الأكسجين قد يمر من خلال الأمعاء إلى الدورة الدموية، فإن ترقيق النسيج الطلائي لدى البشر على الأرجح لن يكون ممكنًا، لا سيما لدى المرضى ذوي الحالات الحرجة.
يقول تاكيبي: «من المنظور العلاجي، أرى أن الضرر الإضافي للأمعاء قد يكون خطيرًا حقًا، ولكن على طول التجارب، أدركنا أن الأمعاء السليمة تحظى أيضًا ببعض القدرة على التبادل الغازي، ولكنها ليست فعالة حقًا»، ما يعني أنه قد تكون هناك طريقة لإدخال الأكسجين عبر الأمعاء دون ترقيق الأنسجة أولًا.
لذلك عوضًا عن استخدام غاز الأكسجين، جرب الفريق في تجربة أخرى بيرفلورو الديكالين، وهو فلوروكربون سائل يمكن تشبيعه بكمية كبيرة من الأكسجين، ويُستخدَم هذا السائل بالفعل مع البشر، فهو يُستخدَم مثلًا في رئتي الرضع الذين يعانون متلازمة الضائقة التنفسية الحادة، وفقًا لما ورد في تقرير الباحثين.
يعمل السائل أيضًا فاعلًا بالسطح (Surfactant)، بمعنى مادة تقلل من التوتر السطحي، ونظرًا إلى وجود فاعل بالسطح يبطن الحويصلات الهوائية في الرئتين ويساعد في تعزيز التبادل الغازي فيهما، فإن بيرفلورو الديكالين قد يؤدي دورًا مشابهًا في الأمعاء.
على غرار ما لوحظ في تجارب غاز الأكسجين، تبين أن بيرفلورو الديكالين المؤكسج أنقذ الفئران من تأثيرات الظروف منخفضة الأكسجين؛ ما أتاح لها التحرك في أرجاء قفصها أكثر من الفئران التي لم تُعالَج ببيرفلورو الديكالين، وبعد حقنة واحدة فقط بحجم 1 ملليلتر من السائل، استمر التحسن لدى الفئران نحو 60 دقيقة.
يقول تاكيبي: «لسنا متأكدين بالضبط من سبب استمرار هذا التحسن لمدة فاقت التوقعات المبدئية، ولكنها مشاهدة قوية جدًا وقابلة للتكرار»، إذ توقع الباحثون أن تزول التأثيرات فقط في غضون دقيقتين.
انتقل الفريق بعد ذلك إلى دراسة الفشل التنفسي عند الخنازير، إذ أبقوا خنازير تجربتهم على جهاز تنفس صناعي بمستوى منخفض من الأكسجين، ثم حقنوا بيرفلورو الديكالين في مؤخرات الخنازير عبر أنبوب طويل.
مقارنةً مع الخنازير التي لم تُحقَن ببيرفلورو الديكالين، تبين أن مستوى تشبع الدم بالأكسجين تحسن لدى نظيرتها التي عولجت ببيرفلورو الديكالين، إضافةً إلى أن لون جلدها وحرارتها عادا إلى الدرجة الاعتيادية؛ استمرت هذه التحسنات عند استخدام حقن بحجم 400 ملليلتر لمدة تتراوح بين 18 و19 دقيقة، وقد وجد الفريق أنه بإمكانهم تزويد الجرعات للخنازير دون إحداث أعراض جانبية ملحوظة.
اختبر الفريق كذلك أمان إعطاء جرعات متكررة للجرذان، فوجدوا أنه رغم ارتفاع مستويات الأكسجين لديها، فإنها لم تُظهِر أي آثار جانبية ملحوظة، أو مؤشرات على تلف الأعضاء، أو تراكم بيرفلورو الديكالين في خلاياها.
بعد نجاح تجاربهم على الحيوانات، يقول تاكيبي إن فريقه يأمل البدء في التجارب السريرية على البشر في وقت ما من العام المقبل، وسيبدؤون على الأرجح باختبار أمان العملية لدى متطوعين أصحاء ثم البدء في تحديد المستويات المقبولة من الجرعات، غير أنه من أجل الانتقال من الحيوانات إلى المرضى البشر، ينبغي على الفريق أولًا أن يواجه عددًا من الأسئلة المهمة.
مثلًا، قد تثير المعالجة العصب المبهم، وهو عصب طويل يربط بين الجهاز الهضمي والدماغ، لذلك يجب على منظمي التجربة أن يحذروا من الأعراض الجانبية التي قد تترتب عن ذلك، مثل انخفاض ضغط الدم والإغماء.
فضلًا عن ذلك، يحتوي الجزء السفلي من القناة الهضمية على كمية قليلة من الأكسجين بالمقارنة مع أعضاء الجسم الأخرى، وقد تكيفت مجتمعات البكتيريا والفيروسات التي تستعمر هذه المنطقة مع ظروفها منخفضة الأكسجين، لذلك قد يتسبب حقن الأكسجين المفاجئ في زعزعة تلك المجتمعات الميكروبية، وفقًا لتاكيبي.
يوافقه كيلي فيقول: «إن عواقب عكس نقص الأكسجين الفيزيولوجي هذا ليست معروفة. في حالة البشر، سيكون من المهم تحديد عدد جرعات السائل المؤكسج التي يمكن حقنها بأمان في القناة الهضمية دون إحداث تغيرات غير مرغوبة في البيئة المعوية».
«إلى جانب ذلك، لا تجسد حيوانات تجارب هذه الدراسة ما يتعرض له مرضى الحالات الحرجة في أثناء الفشل التنفسي، وهي حالة تتزامن في أغلب الأحيان مع العدوى والالتهاب وانخفاض تدفق الدم».
لذلك قد تكون هناك عوامل إضافية يجب أخذها في الاعتبار مع مرضى الحالات الحرجة والتي لم تكن ذات أهمية لدى القوارض والخنازير، ويجب أيضًا ضبط جرعة بيرفلورو الديكالين مع كل مريض على حدة وفقًا لحالته المرضية، وينبغي تقييم جميع هذه التفاصيل بحرص في التجارب المستقبلية.
اقرأ أيضًا:
توصل العلماء لطريقة حقن الأكسجين وريديًا في مجرى الدم!
نقص الأكسجين: أسباب نقص الأكسجين وتشخيصه وعلاجه
ترجمة: رحاب القاضي
تدقيق: نور عباس