في السادس من مايو عام 1937، انفجر المنطاد الألماني ، مالئًا سماء نيوجيرسي بالضباب والنار.
تحول هيندنبورغ إلى رمادٍ في أقل من دقيقة، ساقطًا على الأرض، ومن أصل 97 شخصًا كانوا على متنه، ألقى بعضهم بنفسه للنجاة، واحترق البعض الآخر، نجى 62 شخصًا.
في ذلك الوقت، كان من المفترض لهيندنبورغ أن يكون مبشرًا بعصرٍ جديدٍ من التنقل بالمناطيد، ولكن عوضًا عن ذلك، أوصل التحطمُ هذا العصر إلى نهايته، وفتح الطريق نحو الطيران المدني.
كان التحطم أول كارثة تكنولوجية هائلة صُورت، مخلدًا المشهد في عقول المشاهدين.
وأصبح قول المذيع المذعور: «أوه، البشرية!» بشكلٍ ما عبارةً مؤثرةً في كل مكان، شكلت التكهنات حول سبب التحطم الموضوع الرئيس لعدد هائل من الكتب والأفلام.
يقول دان غروسمان، عالمٌ في تاريخ المناطيد، والمؤلف لـ «منطاد هيندنبورغ»: «كانت كالتيتانك».
سفينة ضخمة فارهة في السماء
طور الكونت فرديناند فون زبلين، الضابط في الجيش الألماني، أول المناطيد الصلبة في أواخر 1800، شاهد المناطيد الهوائية في الولايات المتحدة خلال الحرب الأهلية، وبنى منطاده الأول Lz-1 عام 1899، وارتبط اسمه مع مرور الوقت بكل المناطيد الصلبة.
هيندنبورغ -المسمى بشكل رسمي LZ-129 هيندنبورغ- كان المنطاد التجاري الأكبر الذي بُني على الإطلاق، والأكثر تطورًا أيضًا في ذلك الوقت، كان طوله 245 مترًا، وقطره 41.2 متر.
كان أكبر بثلاث مرات من بوينغ 747، وحجمه أربعة أضعاف حجم جوديير بليمب، كان يمكن أن يصل إلى سرعة طوفان تصل إلى 122 كم بالساعة، وسرعة قصوى تصل إلى 135 كم بالساعة.
وقد وفّر أسرَّة لـ 72 راكبًا في غرفٍ مُدفَّأة، غرفة طعام بورق جدرانٍ من الحرير، غرفة جلوس، غرفة للكتابة، بار، غرفة تدخين، كما زود بنوافذ يمكن فتحها خلال الرحلة، صُمم الأثاث باستخدام الألمنيوم الخفيف.
اتُخذت تدابير خاصة لضمان سلامة غرفة التدخين، بما في ذلك قفل هوائي مزدوج للباب وذلك لمنع الهيدروجين من الدخول، وفقًا لمنظمة American Enterprise.
سُمي «الهيندنبورغ» تيمنًا بالرئيس الألماني الجمهوري Paul von Hindenburg (1847-1934)، وقام برحلته الأولى في مارس 1936، وطار 63 مرة بشكل أساسي من ألمانيا إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، حسب قول غروسمان.
التكنولوجيا والتطوير
مناطيد المراقبة الصغيرة، والمناطيد الصلبة، ومناطيد الهواء الساخن هي جميعًا أمثلة على المناطيد الأخف من الهواء، تبقى جميعها معلقة عن طريق غاز رافع، مثل الهيليوم، والهيدروجين، والهواء الساخن.
تمتلك المناطيد الصلبة -بما فيها هيندنبورغ- إطارًا صلبًا مصنوعًا من الإطارات والعوارض الطولية، وتسمح خلايا الغاز لها بالمحافظة على شكلها، على عكس مناطيد المراقبة الصغيرة ومناطيد الهواء الساخن، وفقًا لـ space.com.
كان الإطار مصنوعًا من الديورلامين (خليطٌ يحتوي الألمنيوم)، كان هيندنبورغ أعرض من غيره من المناطيد ما جعله أكثر رصانة، وقامت أربعة محركات بتوليد الطاقة لهيندنبورغ.
ست عشرة خلية غازٍ مصنوعةً من القطن المجلتن هي ما أبقت هيندنبورغ مرفوعًا، صُممت هذه الخلايا بحيث تمتلئ بالهيليوم، والذي كان معروفًا بكونه أكثر أمانًا من الهيدروجين، وذلك لأنه غير قابلٍ للاشتعال.
ولكن الألمان لم يكن باستطاعتهم الحصول على الهيليوم، وذلك لأنه كان باهظ الثمن، ويتطلب مشغّلات أكثر، وحمولة أقل.
والأهم -وفقًا لـ غروسمان- لم يمتلك أحد الهيليوم في ذلك الوقت سوى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
«لا أحد كان يتعامل مع السوفييت، أما الولايات المتحدة فكانت تمتلك قانونًا ينص على منع تصدير الهيليوم وذلك للكلفة الباهظة لاستخراجه، تقول شائعةٌ أيضًا أن الهيندنبورغ لم يمتلك الهيليوم لأن الولايات المتحدة كانت ترفض بيعه للنازيين.
وهذا ليس صحيحًا، فقد تم نص المنع قبل ست سنوات من تولي النازيين الحكم، وبحلول عام 1936 كانت الولايات المتحدة تمتلك المزيد من الهيليوم، ما أمكنها بيعه للألمان، ولكنهم لم يطلبوه أبدًا».
الكبرياء النازيّ، الضعف الاقتصادي الألمانيّ، وصعوبة الحصول على أي نفع مادي بواسطة المناطيد المرفوعة بالهيليوم، كل هذا منع الألمان -حسب غروسمان- من محاولة استخدام الهيليوم لهيندنبورغ.
التحطم
في رحلته الأخيرة، حلق هيندنبورغ من فرانكفورت-ألمانيا في الثالث من مايو عام 1937. كانت الرحلة سلسة رغم الرياح التي أخرت الموعد المقرر للهبوط بـ 12 ساعة.
كان الطقس السيء متوقعًا في نيوجيرسي حيث كانت الأعاصير تضرب كل اليوم، طالب الكابتن Max Pruss وضباط آخرون على متن الهيندنبورغ بتأخير الهبوط وقتًا أطول، وقاموا بالتحليق فوق الشواطئ بانتظار تحسّن ظروف الطقس بشكلٍ ما، وفقًا لـ Airships.net.
اقترب هيندنبورغ من Lakehurst في السادس من مايو بعد السابعة مساءً، واعتقادًا بأن ظروف الطقس ستتدهور وتواجه أنماط متغيرة من الرياح، قرر المسؤولون تنفيذ التفافة حادة على شكل حرف S وذلك ليحطّوا باتجاه أفضل بناءً على الظروف الراهنة، وبعد أن نُفّذ الالتفاف، أُنزلت حبال الهبوط إذ استخدم المتحكمون على الأرض هذه الحبال ليساعدوا في التحكم بالهبوط، كان هيندنبورغ على ارتفاع يقارب الـ 55 متر في الهواء.
بعد بضع دقائق من إنزال الحبال، شاهد أعضاء من الفريق الأرضيّ ما وصفوه بأنه «ارتجاجٌ شبه موجيّ» تحت نسيج السفينة قرب مؤخرتها، غالبًا بسبب الهيدروجين الذي تسرب من خلاياه، وفقًا لـ the royal Society of Chemistry.
في السابعة و25 دقيقة مساءً، ظهرت النيران على ذيل الهيندنبورغ، وخلال ثوانٍ، غطت النيران الذيل بأكمله، نزل الذيل نحو الأرض وارتفعت المقدمة نحو السماء لبعض ثوانٍ قبل انهيارها وامتلائها بالنيران، وفقًا لآدمز دون، عالمُ تاريخ في جمعيةNavy Lakehurst Historical Society التي حافظت على مكان تحطم هيندنبورغ.
النسيج الذي يغطيه كان قد زال تمامًا، مبقيًا على الهيكل المصنوع من الدورالومين الذي صمد لثوانٍ قبل أن يتحطم هو الآخر.
يقول آدمز: «استغرق الأمر 34 ثانية ليحترق، دائمًا ما يندهش الناس بسبب هذا (فقط 34 ثانية)».
بسبب سرعة التحطم، اعتمدت النجاة على مكان وجود الركاب والطاقم لحظة بدء الحريق. معظم الناس على المحيط الخارجي للسفينة استطاعوا القفز بسلام، ومعظم الركاب الذين كانوا في غرفهم ماتوا.
هلك أشخاصٌ من الطاقم أكثر من الركاب؛ وذلك لأنهم كانوا موزعين على جسم السفينة، في حين كان معظم الركاب متجمعين حول النوافذ لمشاهدة الهبوط.
صُوّر التحطم عن طريق أربع شركات إخبارية -مع هذا- لم تتمكن أيٌّ منها تصوير اللحظات الأولى للحريق.
يقول آدمز: «دائمًا ما كان هناك صحفيون وطواقم تصوير أفلام عند هبوطه، وذلك لأن المشاهير كانوا على متنه، وكانت الموضة في تلك الأيام، فالآلاف كانوا سيأتون لمشاهدة الهبوط».
كانت شهادة Herbert Morrison هي الأكثر شهرة من موقع الحدث، والتي أُذيعت في اليوم التالي، خلالها، وصف المشهد بتفاصيله معلقًا عليه بجملته الشهيرة: «أوه، البشرية!».
ما الذي سبب التحطم؟
هناك العديد من النظريات حول السبب، ولكن عندما يأتي الأمر إلى أساسيات ما حدث، فليس هناك أي جدلٍ بين المختصين، هناك اتفاق على حدوث تسرب في خلايا الوقود، تسرب الهيدروجين واختلاطه بالأكسجين، مكونًا خليطًا شديد الاشتعال، والذي تم تحفيزه مسببًا الحريق.
لا توجد أي أدلة على أن سهمًا أو قنبلة أُلقيت على هيندنبورغ، ولا يوجد أي دليل على أن خليطًا كيميائيًا آخر -عدا الأكسجين- تسبب في الحريق.
يقول غروسمان الذي كتب مقالًا حول الأساطير الخاصة بهيندنبورغ: «أكثر النظريات المعتوهة المعروفة هي أن النسيج كان قابلًا للاشتعال بشدة، لم يكن كذلك، لا يوجد دليل على هذا، فالمناطيد بشكل عام -وهيندنبورغ بشكل خاص- ضُربت بالصواعق بما فيه الكفاية لتشكل ثقوبًا في الغلاف، ولكنها لم تتسبب بحريق، وذلك لأن الهيدروجين لم يكن متسربًا».
شيءٌ وحيدٌ بقي غير مؤكد، هو سبب تسرب الهيدروجين وما تسبب باشتعاله.
يقول آدمز: «هناك العديد من التكهنات حول سبب تسرب الهيدروجين».
يقول غروسمان: «تقول إحدى النظريات الشائعة إن الالتفاف الحاد على شكل حرف S تسبب بقطع حبلٍ وإحداثه ثقبًا في خلية الهيدروجين، ولكن تُنفى هذه النظرية بشكلٍ ما، بناءً على أن كل الأدلة قد حُرقت، فنحن على الأرجح لن نعلم أبدًا سبب التسرّب.
يمتلك الخبراء فكرة جيدة عمّا سبب الاشتعال، هناك نظريتان أساسيتان: «تفريغ الكهرباء السكونية (الإلكتروستاتيكي)، ونيران St. Elmo».
اتفق كل من آدمز وغروسمان على نظرية التفريغ الإلكتروستاتيكي للاشتعال.
إذ يقول غروسمان: «إلى المدى الذي يمكنك فيه قول أي شيء بشكلٍ مؤكد وأنت تعيد بناء حادث، في كلتا النظريتين، لعبت الشحنات الكهربائية الهائلة في ذلك اليوم والناتجة عن العواصف الرعدية دورًا مهمًا.
كان لا يزال بإمكانك رؤية البرق عندما حطت السفينة، كان هناك الكثير من الكهرباء في الهواء حتى إن مصانع المطاط في الجوار أغلقت أبوابها (غبار المطاط قابل للانفجار بشكلٍ كبير».
امتلكت السفينة أثناء طيرانها في السماء شحنة موجبة، وعندما لمست حبال الهبوط الأرض، تلقت شحنة سالبة.
يقول آدمز: «الأمر كما لو أنك تسير على سجادةٍ وتلمس مقبض الباب، أنت الشحنة الموجبة ومقبض الباب هو السالبة، وفي أي وقت يكون هناك فرق جهد، فإن شرارةً من المرجح أن تحدث».
يضيف غروسمان: «إن طبيعة نظرية التفريغ الإلكتروستاتيكي -والتي أجدها الأكثر إقناعًا- تتوافق مع كل الأدلة المادية التي عرفناها عن الحادث، كان هناك فرق في الجهد الكهربائي بين الفلز المكون لجسم السفينة الذي كان موصولًا بالأرض عن طريق حبال الهبوط، والنسيج الذي يغطي السفينة والذي كان معزولًا عن جسمها.
لم يكن من الممكن أبدًا للشحنة في النسيج أن يتم تفريغها أو أن تتعادل لأنها لم تكن موصلة بأي شيء ناقل بل بحبال غير ناقلة وأخشاب، وبالتالي كان لدينا شحنة كهربائية هائلة على النسيج وشحنة كهربائية غير منتظمة على الجسم وذلك لأن السفينة كانت على ارتفاع 60 – 80 مترًا في الهواء، ولكن الإطار كانت شحنته هي شحنة الأرض».
نوّه غروسمان إلى أن نيران (St. Elmo – سانت إلمو)، والتي يسببها الاختلاف في الشحنة الكهربائية بين جسمٍ ما والهواء، كان يمكن أن تحدث بسهولة، ولكن كلتا الظاهرتين لم تكونا خطرتين لولا تسريب الغاز.
ما بعد الحادثة
تحطمُ هيندنبورغ أنهى عصر المناطيد.
يقول آدمز: «لم يرغب أي أحد في السفر عن طريق مناطيد الهيدروجين بعد ذلك، كانوا خائفين، ليس هذا فحسب، عندما تعاظمت قوة هتلر، لم يرغب الناس في السفر عبر مناطيد نازية».
يقول غروسمان: «خططت شركات ألمانية وأمريكية لبناء مناطيد أكثر، وكانت تنظر لهيندنبورغ على أنه تجربة لاستثماراتها، ولكن بعد التحطم، أُلغيت هذه الخطط».
ولكن التطورات التكنولوجية أيضًا ساهمت في إنهاء هذا العصر، إذ يضيف غروسمان: «كان الهيندنبورغ إنجازًا عظيمًا في عام 1928، ولكن بحلول عام 1936، كان الوقت فات لذلك بسبب الطيارات الأثقل من الهواء.
عندما تم إطلاقه، كانت هناك ملاحة جويّة أصلًا يمكنها أن تطير بشكل أسرع، تحمل الحمولة ذاتها، تطير بكلفة أقل، وبطاقم أقل، وكانت أفضل بكل الطرق».
«حتى لو لم يحترق الهيندنبورغ، كان سيتم إهماله بفضل الملاحة الجوية».
- ترجمة: أسماء الدويري
- تدقيق: تسنيم المنجّد
- تحرير: يمام اليوسف
- المصدر