عام 2005 اكتشف فلكيون تجمعًا كثيفًا من النجوم يُشبه عنقودًا نجميًا في كوكبة العذراء ، لكن عمليات مسح لاحقة أظهرت أن بعض هذه النجوم يتجه نحونا، وبعضها الآخر يبتعد عنّا، وهذا يخالف توقع العلماء عن تحرك العناقيد النجمية، ما يعني أن ما اكتشفه الفلكيون لم يكن مجرد عنقود نجمي. بيّنت دراسة أُجريت سنة 2019 أن ذلك التجمع الكثيف من النجوم ليس عنقودًا نجميًا، بل بقايا نجمية -تُسمى «تيار العذراء النجمي»- لمجرة كروية قزمة اندمجت مع درب التبانة.
أظهر بحث جديد -شارك فيه بعض باحثي الدراسة السابقة- تاريخ ذلك الاندماج وكيفية حدوثه، وحددوا بعضًا من البقع صدفية الشكل التي نتجت منه.
نشر الباحثون برئاسة المؤلف الأول توماس دونلون ورقتهم العلمية في مجلة الفيزياء الفلكية تحت عنوان «البنى الصدفية في درب التبانة تكشف تاريخ اصطدام مباشر»، وفيها صرح العلماء أنهم حدّدوا لأول مرة تجمعات نجمية كثيفة على شكل أصداف نتجت من اندماج مباشر بين مجرتنا درب التبانة وكوكبة العذراء.
لعمليات الاندماج في الوسط بين المجري أنواع مختلفة، فوفقًا للورقة التي طُرحت سنة 2019، كان الاندماج الذي خلّف ذلك التجمع النجمي الكثيف في كوكبة العذراء مباشرًا وعنيفًا.
تُوضّح هايدي جو نيوبيرج، أستاذة الفيزياء والفيزياء التطبيقية وعلم الفلك في جامعة رينسيلار، المؤلفة الرئيسية للورقة البحثية المنشورة سنة 2019 في مجلة الفيزياء الفلكية: «كان لهذه المجموعة من النجوم سرعات مختلفة، وهو أمر مدهش، لكن بعد مراقبة تحركها الجماعي أصبحنا اليوم نفهم سبب اختلاف تلك السرعات، ولماذا تتحرك بتلك الطريقة».
تعتمد الورقة الجديدة على بحث «نيوبيرج» وتُضيف مزيدًا من التفاصيل، إذ جاء فيها أن المجرة القزمة اصطدمت بدرب التبانة وخلّفت نجومًا تتراص بانحناء وترتد عبر مركز مجرتنا، أٌطلق على هذا الحدث اسم «اصطدام برج العذراء المباشر».
تتطاير المجرة القزمة إلى الجانب الآخر من مركز مجرتنا بعد أن تصطدم به، ثم تُسحب مجددًا نحوه بفعل الجاذبية، مخلفةً في كل مرة عند أبعد نقطة عن المركز بعض نجومها التي تتكتل معًا مشكلةً تلك البقع الصدفية.
صمم الفريق عمليات محاكاة باستخدام بيانات الرصد، وحسب عدد مرات اصطدام المجرة القزمة وارتدادها عن المركز ذهابًا وإيابًا، ومتى اندمجت أول مرة مع درب التبانة.
استخدم الباحثون بيانات من مصادر مختلفة، منها البيانات التابعة لمسح سلون الرقمي للسماء، ومهمة غايا التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، وبيانات التليسكوب الصيني لاموست، ما أدى إلى اكتشاف تجمعين من النجوم على شكل بقعتين صدفيتين في التيار النجمي لكوكبة العذراء، وتجمعين آخرين في منطقة سحابة هرقل-العُقاب.
أظهرت النمذجة الحاسوبية أن الاندماج بدأ عندما مرت المجرة القزمة أول مرة عبر مركز مجرة درب التبانة قبل 2.7 مليار سنة.
ليس اندماج المجرات حدثًا نادرًا، فالمجرات الهائلة مثل مجرتنا تضخمت كثيرًا بعد التحامها بمجرات أصغر، بل إن درب التبانة حاليًا في طور عمليتي اندماج، إحداهما مع مجرة الرامي الإهليجية القزمة، والأخرى مع سحابتي ماجلان الكبرى والصغرى.
كل هذه الاصطدامات والاندماجات تركت بصماتها على بنية درب التبانة، فمثلًا، أغلب النجوم التي تشكل الهالة المُحيطة بالأذرع الحلزونية لمجرتنا هي نجوم مهاجرة من مجرات أخرى التحمت بدرب التبانة.
بمرور الوقت، تعمل قوى المد والجزر الخاصة بالمجرة على تجميع تلك النجوم المهاجرة في تيارات نجمية تتحرك بتناسق معًا، لكن هذا الاندماج كان مختلفًا، فالاصطدام والاندماج الذي وقع في قلب درب التبانة كان مباشرًا وعنيفًا، ما جعل المجرة القزمة ترتد عدة مرات مخلفةً تكتلات صدفية الشكل.
أوضح المؤلف الرئيس توماس دونلون أن الفريق لم يمعن البحث عن دليل على عمليات الاندماج المباشر. قال دونلون: «توجد مجرّات أخرى عادةً ما تكون كروية أكثر ولها بنى صدفية الشكل واضحة جدًا، لذا فنحن نعلم أن مثل هذه الحوادث تقع، لكننا بحثنا ولم نرصد حتى الآن في درب التبانة أي بنى نجمية عملاقة صدفية الشكل».
تمكّن فريق البحث من تحديد حركة النجوم في تلك التجمعات الكثيفة في كوكبة العذراء ، وذلك بناءً على نموذجهم الحاسوبي، وهو ما دفعهم لاعتبار الاندماج المباشر سببًا في تلك الحركة، الذهاب والإياب عبر مركز المجرة.
قال دونلون: «أدركنا أن هذا النوع من الاندماج هو نفسه الذي يسبب هذه البنى الصدفية الكبيرة، مع أنها تبدو مختلفة، لأننا داخل مجرة درب التبانة، لذلك لدينا منظور مختلف، إضافةً إلى أن مجرتنا قرصية، وليس لدينا العديد من الأمثلة على البنى الصدفية في المجرات قرصية الشكل».
يلقي هذا الاكتشاف الضوء على بعض الجوانب الأخرى المتعلقة بشكل بعض البُقع في درب التبانة، متضمنةً «نقانق غايا»، وهي بقايا مجرة قزمة أخرى التحمت بدرب التبانة منذ 8-10 مليارات سنة وأضافت إلى درب التبانة 8 عناقيد نجمية ونحو 50 مليار كتلة شمسية من النجوم والغاز والمادة المظلمة، وتُسمى هذه البقايا النجمية «نقانق» لشكل مداراتها المميز.
اعتقد الفلكيون سابقًا أن الاندماج المباشر لكوكبة العذراء وبقايا «نقانق غايا» هما نتيجة نفس الحدث الكوني، لكن هذا خطأ، لأن تقدير عمر اندماج كوكبة العذراء أصغر مقارنةً بعمر اندماج المجرة القزمة التي خلفت «نقانق غايا»، ما يعني أنهما حدثان منفصلان.
قد يسلط هذا العمل أيضًا الضوء على مواقع أخرى في درب التبانة، مثل «حلزون غايا»، وهو تجمع نجمي حلزوني الشكل قرب الشمس، يُشتبه أن تكون له صلة بالاندماج المباشر لكوكبة العذراء.
وقد يثير أيضًا أسئلة حول ما يُعرف بـ «البقعة»، وهي بنية في نسيج قرص درب التبانة بالقرب من شمسنا، تمتلك عددًا كبيرًا من النجوم الغنية بالمعادن تدور في الهالة الداخلية للمجرة. ما زال أصل «البقعة» مجهولًا، لكن البحث الأخير يشير إلى أن الاندماج المباشر لكوكبة العذراء قد يكون سببًا له.
قالت نيوبيرج: «أثمرت هذه الدراسة نتائج ذات صلة محتملة بأبحاث كثيرة. يفتح الاندماج المباشر لكوكبة العذراء الباب أمام فهم أفضل للظواهر الأخرى التي نراها ولا نفهمها إطلاقًا، والتي قد تكون قد تأثرت بشيء ما في منتصف مجرتنا منذ أقل من 3 مليارات سنة».
اقرأ أيضًا:
رحلةٌ لاستكشاف تاريخ وبنية الكون
ماذا يحدث إذا تصادمت العناقيد المجرية؟ تعرف على العواصف الكونية
ترجمة: رضوان بوجريدة
تدقيق: أكرم محيي الدين