لطالما أخفى كوننا أسرارًا لم نتمكن من فهمها، ولعل هذا ما يظهره تاريخ البشرية العلمي الطويل، بدءًا بإسحاق نيوتن، ووصولًا إلى أينشتاين، فقد وُجدت العديد من المسائل التي شكلت تحديًا لنا، من بينها الجاذبية، فوصفها نيوتن بأنها قوة ما، بينما توجه أينشتاين لتطوير هذا المفهوم عبر نظرية النسبية، ليثبت بأن الجاذبية ما هي إلا انحناء الزمكان الذي تنتج عنه موجات الجاذبية.
في عام 2015، رصد الباحثون أول موجة جاذبية باستعمال مرصد ليغو LIGO، وقد توجهوا منذ ذلك الحين نحو رصد المزيد من هذه الموجات من أجل فهمٍ أفضل للجاذبية المؤسسة لكوننا.
لقد توجه فريق من الباحثين مؤخرًا نحو دراسة الثقوب السوداء الثنائية والأجرام الكبيرة التي تدور حول بعضها بغية رصد موجات جاذبية يُتوقع أن يصل طولها إلى سنين ضوئية، وقد لجؤوا في أثناء هذه الدراسة إلى استعمال تلسكوب فيرمي لأشعة غاما لرصد البيانات من كل أنحاء الكون.
بالعودة إلى البيانات التي رصدها تلسكوب فيرمي، تلك المتمثلة بأجرام مختلفة بما فيها النجوم النابضة والأشعة المنبعثة منها، وعبر تحليل هذه الأشعة التي تُرصد بصفتها أشعة غاما، حاول الباحثون إيجاد أي دليل على تصادم هذه الأشعة بموجات الجاذبية الكونية، ما قد يؤدي إلى تغيرٍ في سرعتها وتوقيت وصولها نحونا، إلا أن هذا الدليل لم يُرصد.
رغم فشل رصد أي دليل، فإن هذه الدراسة قد أثبتت قدرة تلسكوب فيرمي على إيجاد طريقةٍ لرصد موجات الجاذبية.
يقول ماثيو كير، الباحث في مختبرات الدراسات البحرية في واشنطن، بأن مقدرة تلسكوب فيرمي على رصد موجات الجاذبية ذلك كانت مفاجئة، ويضيف: «لقد اعتدنا استعمال التلسكوبات الراديوية لرصد موجات الجاذبية، إلا أن تلسكوب فيرمي يمتاز بعدة خصائص تمكنه من تحقيق ذلك أيضًا».
إن تسارع الأجرام الضخمة يؤدي إلى ظهور موجات الجاذبية التي تنتقل بسرعة الضوء. لقد تمكن ليغو من رصد هذه الموجات، وذلك بفضل التكنولوجيا عالية الحساسية التي طورها الباحثون، ورصد هذه الموجات التي يصل طولها الموجي إلى مئات الكيلومترات، وفي المقابل، فإن مقياس التداخل الذي يعمل عليه الباحثون حاليًا سيتمكن من رصد موجات جاذبية يصل طولها الموجي إلى مليارات الكيلومترات.
يتجه ماثيو بمساعدة فريقه نحو رصد الموجات التي يمتد طولها إلى سنين ضوئية، وهي تتطلب وقتًا طويلًا للمرور بجانب الأرض. يعود مصدر هذه الموجات الطويلة على الأرجح إلى ثقبين أسودين يدوران حول بعضهما جراء اندماج مجرتين في كوننا.
لكن رصد هذه الموجات يحتم وجود نجوم نابضة تدور بسرعة فائقة، إذ إن هذه النجوم تقذف أشعة غاما والأشعة الراديوية بانتظام في أثناء دورانها الشديد، ونحن نرصد هذا الانتظام باستعمال مختلف التلسكوبات.
يعتمد الباحثون على رصد تغيرٍ في انتظام الأشعة التي يصدرها النجم، ما يرجح مرورها في موجة جاذبية أدت إلى إبطائها، وعبر رصد هذه التغيرات، يتوقع الباحثون وجود رابط بينها وبين الطول الموجي.
يستعمل الكثير من الباحثين هذه الطريقة الفعالة، إلا أنها تقع تحت تأثير العديد من المتغيرات بسبب وجود العديد من التأثيرات على البيانات في أثناء رصدها في الفضاء، فمثلًا، يوجد في الفضاء كمية كبيرة من الإلكترونات التي تؤثر في الموجات الراديوية وتغير الطريق التي تسلكه الأخيرة، ما يؤدي إلى التأثير في توقيت وصول الموجات، ما يؤثر بدوره في ترددها.
من جهةٍ أخرى، أظهرت موجات غاما قابلية لتخطي هذه المشاكل، ما يعطيها الأفضلية على غيرها من الموجات في أثناء الدراسة.
يقول أديتيا بارثاساراثي، المشارك في الدراسة والباحث في معهد ماكس بلانك لعلم الفلك، بأن كفاءة النتائج التي أظهرها تلسكوب فيرمي تصل إلى 30% مثلما أصدرتها التلسكوبات الراديوية على مدى سنوات، ما يرجح نجاح موجات غاما بصفتها بديلًا فعالًا، ويؤكد أديتيا بأن مواصلة العمل مع هذه الموجات ستؤدي إلى تحسين النتائج ورفع الكفاءة، ما سيساهم بالتأكيد في رصد موجات الجاذبية الكبيرة.
يأمل الباحثون بأن التطور التكنولوجي المستمر سيساهم في الوصول إلى درجةٍ تسمح باستشعار موجات الجاذبية من الثقوب السوداء العملاقة.
تؤكد جوديث راكوسين، الباحثة في مشروع فيرمي العائد لوكالة ناسا، بأن التلسكوب ما زال يفاجئ الباحثين ببياناتٍ وقدراتٍ لم يكن متوقعًا أن يصل إليها، وتضيف قائلة: «نحن بالتأكيد نأمل الوصول إلى اكتشافٍ جديد آخر باستعمال هذا التلسكوب».
اقرأ أيضًا:
باحثون يقترحون استعمال مدار القمر لرصد موجات الجاذبية
اكتشاف ست موجات جاذبية جديدة خلال ستة أشهر فقط!
ترجمة: محمد علي مسلماني
تدقيق: سمية بن لكحل
مراجعة: لبنى حمزة