استمر البشر في تغيير الغلاف الجوي من سطح الأرض لما يقارب قرنين من الزمان، لكن الآن في عصر الفضاء نقوم بتغييره من الفضاء الخارجي أيضًا.
اكتشف علماء الغلاف الجوي مؤخرًا آثارًا لمعادن غير متوقعة الوجود في طبقة الستراتوسفير التي تُعد ثاني أقرب طبقات الغلاف الجوي لسطح الأرض، حيث يوجد غاز الأوزون وتحترق النيازك متحولةً إلى شهب. وأثبت الباحثون أن هذا التلوث جاء من المركبات الفضائية في أثناء عودتها إلى الغلاف الجوي للأرض، وذلك في بحث نُشر في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences.
يقول سليمان بيكي، عالم الغلاف الجوي في مختبر LATMOS، الذي لم يشارك في هذا العمل الجديد، إن هذه الدراسة هي: «أول دليل رصدي على أن الأنشطة الفضائية هي مصدر أساسي جدًا للتلوث الجسيمي في طبقة الستراتوسفير»، ويضيف: «الأهم من ذلك أنه لا أحد يعرف تأثير هذه الجزيئات على طبقة الأوزون»، مشيرًا إلى أهمية هذه الطبقة في حماية الإنسان من الأشعة فوق البنفسجية الخطيرة.
عادةً ما يكون الاهتمام الرئيسي لمخطِطي المهمة هو ضمان عدم ارتطام الحطام الفضائي بالأرض، فقد يؤذي الأشخاص أو الهياكل. ويشير هذا البحث إلى أن ما يتبخر في طبقة الستراتوسفير قد يكون له تأثير، لكن يجب أن تبقى هذه المواد في مكان ما. لذا يبدو أنها باقية في طبقة الستراتوسفير.
يقول دان تشيكزو، المؤلف المشارك وعالم الغلاف الجوي في جامعة بوردو في بيان صحفي: «لقد وجدنا هذه المواد التي صنعها الإنسان في ما نعدّه منطقة نقية من الغلاف الجوي، فإذا كان هناك شيء يتغير في طبقة الستراتوسفير (هذه المنطقة المستقرة من الغلاف الجوي)، فإن ذلك يستحق النظر فيه».
طار فريق البحث عبر طبقة الستراتوسفير عابرًا الولايات المتحدة في طائرات مصممة خصيصًا للطيران على ارتفاعات عالية، ومجهزة بأدوات لتحليل الهواء في مخاريط في مقدمتها.
تحلق هذه الطائرات الفريدة (ER-2 وWB-57 التابعة لناسا) على ارتفاع يبلغ نحو 65 ألف قدم، أي ما يقرب من ضعف ارتفاع طائرات الركاب التقليدية. وتحلق المركبة البحثية أيضًا على ارتفاع يصل إلى 70 ألف قدم، وقد تصل كتلتها إلى ما يزيد عن 99% من كتلة الغلاف الجوي للأرض.
في طبقة الستراتوسفير، سجلت معدات الجمع الموجودة على هذه الطائرات آثارًا للمعادن الثقيلة النيوبيوم والهافنيوم، ولا توجد هذه العناصر طبيعيًا في الغلاف الجوي، لكنها تُستخدم عادةً في الصواريخ وقذائف المركبات الفضائية. وقام الفريق أيضًا بقياس تركيز أعلى من المتوقع لأكثر من 20 معدنًا بما في ذلك النحاس والليثيوم والألومنيوم والرصاص. وإجمالًا، إن نحو 10% من جزيئات الهباء الجوي الموجودة في طبقة الستراتوسفير تحتوي على معادن.
الهباء الجوي هو جزيئات صلبة دقيقة أو قطرات سائلة عالقة في الهواء أو في غاز آخر. وقد يكون الهباء الجوي طبيعيًا أو من صنع الإنسان. ويشير مصطلح الهباء الجوي عادةً إلى خليط الهواء أو الجسيمات بدلًا من المادة الجسيمية وحدها.
لم يتأكد علماء الغلاف الجوي تمامًا من كيفية تأثير هذه التغييرات في الأرض، إذ تحتوي طبقة الستراتوسفير على نقاط صغيرة من حمض الكبريتيك، التي أصبحت الآن مملوءة بالمعادن الموجودة في المركبات الفضائية القديمة.
إن وجود تلك المعادن قد يغير كيمياء طبقة الستراتوسفير، بما في ذلك حجم نمو قطرات حمض الكبريتيك، وحتى أصغر تلك التغيرات قد يؤثر في الطريقة التي ينحني بها الضوء أو تنتقل بها الحرارة أو كيفية نمو بلورات الجليد.
السؤال الأهم هو كيف ستؤثر هذه التغييرات في حياة الإنسان على سطح الأرض؟
لسوء الحظ، لا توجد إجابة واضحة على ذلك السؤال، لكن في الماضي أدت تغييرات صغيرة في الستراتوسفير إلى تأثيرات كبيرة مثل إضافة مركب الكلوروفلوروكربون (CFC)، ما أدى إلى تآكل طبقة الأوزون.
في نهاية المطاف، قد تكون هناك حاجة إلى اتخاذ احتياطات بيئية إضافية لرحلات الفضاء لمنع الإضرار بطبقة الستراتوسفير. ويوضح جيمي شوتلر، عالم الغلاف الجوي بجامعة إكسيتر، الذي لم يكن جزءًا من فريق البحث: «الطريقة الوحيدة لعدم ظهور هذه الجسيمات في الغلاف الجوي العلوي هي عدم إطلاق الأقمار الصناعية في المقام الأول. فكل ما يمكننا فعله هو تقليل عمليات الإطلاق، وجعل الأقمار الصناعية تدوم فترة أطول (وبذلك سنحتاج الى عمليات إطلاق أقل) أو التشجيع على جعل مكونات الأقمار الصناعية معروفة للعامة (حتى نتمكن من توجيه الشركات المصنعة فيما يتعلق بالآثار الضارة المحتملة)»، ويضيف أن هذه النتيجة الجديدة «تؤكد قلقنا» بشأن تلوث طبقة الستراتوسفير.
يقول المؤلف الرئيسي دانييل ميرفي أيضًا، عالم الغلاف الجوي في الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، قبل أن نتمكن من حل هذه المشكلة: «يجب التفكير أكثر في أن المركبات العائدة إلى الأرض قد تؤثر أيضًا في طبقة الستراتوسفير»، وشدد على أن هذه الفكرة ما زالت جديدة على نحو لا يصدق، وتتطلب المزيد من البحث لفهم حجم هذا التلوث وعواقبه المحتملة.
من المتوقع أن تزداد التأثيرات المحتملة مع تسارع معدل إطلاق المركبات الفضائية وإعادة دخولها. ففي الأعوام الخمس الماضية أطلقت وكالات الفضاء والشركات الخاصة أكثر من 5000 قمر صناعي، بحسب ما أشار مارتن روس، المؤلف المشارك في هذا العمل وعالم المناخ في شركة أيروسبيس، في بيان صحفي قائلًا: «ستعود معظم هذه المركبات في الأعوام الخمس المقبلة، لذا نحن بحاجة إلى معرفة كيف يؤثر ذلك تأثيرًا أكبر في الهباء الجوي في الستراتوسفير؟».
يتوقع الفريق أن نسبة الجسيمات التي تحتوي على معادن قد تنمو من 10% إلى أكثر من 50% في العقود القليلة المقبلة، وذلك بفضل الخطط القادمة لتقليل الحطام الفضائي بإعادته إلى الغلاف الجوي.
مع ذلك، يجب أن تكون هذه الجهود وعمليات الإطلاق القادمة على علم بالتأثيرات المحتملة في الأرض، لذا يحتاج الباحثون إلى بذل المزيد من الجهد لتحديد مدى تلك التأثيرات، إذ يقول تشيكزو: «إن فهم كوكبنا هو أحد الأولويات البحثية الأكثر إلحاحًا على الإطلاق».
اقرأ أيضًا:
الفضاء يعج بالمخلفات الفضائية.. ولا أحد مهتم بتنظيفها!
ترجمة: يوسف الشيخ
تدقيق: منال توفيق الضللي
مراجعة: هادية أحمد زكي