النظرية العلمية كما نفهمها هي تصور شمولي حول مجال معرفة معين، إذ تعتمد على مفاهيم ومصطلحات محددة تربط بينها علاقات واضحة وعينية، وللنظريات العلمية صفات عديدة، الأساسية منها أنها “تحاول” تفسير الظواهر في مجال معين من المعرفة العلمية بواسطة وصف الواقع العميق الذي يربط كل الظواهر أو التجارب في هذا المجال ويضعها تحت تفسير مترابط coherent و متجانس self consistent، ولكنها في نفس الوقت بسيطة نسبيًا، بمعنى أنها تصف مجمل الظواهر الطبيعية والتجارب تحت عدد قليل من العلاقات الأساسية التي تختزل هذا المجمل إلى واقع أبسط وأساسي أكثر.
هذا كما ذكرت سابقًا هو ما ميز نظرية نيوتن التي فسرت ظواهر لا تُعد ولا تُحصى تحت مظلة قوانين الحركة وقانون الجاذبية العام، أي أن قوانينه فسرت الواقع ووحدته من خلال نظرية واحدة بسيطة، وتُعد نظرية نيوتن النموذج المعياري للنظريات العلمية.
في الحقيقة فوظيفة النظريات العلمية تتعدى وصف الواقع بكثير، إذ إن أحد جوانبها الأساسية هو التنبؤ بحقائق جديدة لم نكن نعرفها من قبل، بل ويدعي بعض الفلاسفة، وعلى رأسهم فيلسوف العلوم كارل بوبر Karl Popper أن هذا هو الجانب الأساسي للنظريات العلمية، أي قدرتها على التنبؤ بحيثيات جديدة لم نكن نعرفها من قبل، تُشكل هذه التنبؤات الامتحان الحقيقي لهذه النظريات، لأنها إن لم تكن صحيحة ستُمكننا من دحض النظرية تمامًا، أي يجب أن يكون للنظرية العلمية إسقاطات غير متوقعة تغير نظرتنا للواقع.
على سبيل المثال عندما وضع ديميتري مندلييف Dmitri Mendeleev الترتيب الدوري للعناصر الكيميائية، الذي يعتمد على وزنها الذري، استطاع تفسير الصفات المختلفة لهذه العناصر. لكن إضافةً إلى ذلك فقد لاحظ مندلييف وجود فجوات في هذا الترتيب، ولقد عزى ذلك إلى وجود عناصر لم تُكتشف بعد، واستطاع بواسطة نظريته عن ترتيب العناصر أن يتنبأ بوجود ثلاثة عناصر جديدة وتوقع صفاتها بدقة، وهي الغاليوم Gallium والجرمانيوم Germanium والسكانديوم Scandium والتي اكتُشفت بالفعل لاحقًا بتأثير ترتيبه الدوري. بالنسبة لأغلب العلماء فهذه صفة أساسية للنظريات العلمية والتي لا تستحق النظريات دونها تسمية «نظرية».
إضافةً إلى تفسير المعطيات الرصدية والتجريبية والتنبؤ بحقائق جديدة، نتوقع من النظرية العلمية أن تفتح مجالات جديدةً من الأبحاث، أي أنها تؤدي لتوسيع آفاق معارفنا.
توسيع مجالات البحث القائمة وخلق مجالات بحث جديدة هي بمثابة إنشاء برامج بحثية Research Programs لم تكن قائمةً من قبل، هذا هو الجانب الذي شدد عليه الفيلسوف الإنجليزي هنغاري الأصل، إيمري لاكاتوش Imre Lakatos.
لتوضيح هذا لنعُد إلى نظرية نيوتن عن الحركة، طوّر نيوتن هذه القوانين لتفسير حركة جسم معين، لكنها فتحت عدة برامج بحثية مثل تطبيق هذه القوانين على السوائل والغازات التي أدت إلى نشوء الجانب النظري للمجال العلمي الكبير الذي يسمى «ديناميكا الموائع» Fluid Dynamics، والذي يصف حالة وحركة السوائل والغازات. هذا أيضًا ما حدث عندما أتى أينشتاين بنظرية النسبية العامة واستنتج بأن مسار الضوء يحيد عن الخط المستقيم نتيجةً للجاذبية، وهي ظاهرة جديدة لم نرصدها من قبل، إذ فتح هذا التنبؤ برنامجًا بحثيًا جديدًا في فيزياء الفلك يسمى «العدسات الجاذبية» Gravitational Lensing.
هناك أيضًا ميزة خاصة للنظريات العلمية، وهي قدرتها على التفاعل مع بعضها البعض والإثراء المتبادل فيما بينها، وحتى الانخراط معًا لتكوين كلٍّ أكثر تكاملًا من مجموعة المعارف السابقة، أي أن النظريات العلمية تشكل عادة بناءً متكاملًا وتدعم بعضها البعض، بل وأكثر من ذلك فإن تناسقها وتراصّها البنيوي الداعم يفتح المجال أمام نشوء مجالات بحثية ومجالات معرفية جديدة.
هذه الميزة للنظريات العلمية ليست صحيحة دائمًا، فأحيانًا تأتي نظرية جديدة تتناقض أو لا تتجانس مع النظريات السابقة، في مثل هذه الحالة قد يدخل مجال الأبحاث هذا في أزمة تؤدي إلى تغيير ما في النظريات التي تحكم هذا المجال من المعرفة، وقد يتراوح هذا التغيير من تعديل طفيف للنظرية إلى انقلاب تام يؤدي إلى ثورة في هذا المجال.
لتوضيح ما أقصده لنأخذ مثالًا من تاريخ العلوم: عرض تشارلز داروين في عام 1859 نظريته الشهيرة في كتاب «أصل الأنواع» The Origin of Species وفي نفس الوقت تقريبًا نشر غريغور مندل Gregor Mendel مقالًا بعنوان «تجارب على تهجين النباتات» Experiments on Plant Hybridization عرض فيه قوانينه الوراثية. لسوء الحظ وعلى الرغم من التزامن بين الرجلين، فإن داروين لم يكن على معرفة بأبحاث مندل، ذلك رغم أن مشكلة توارث الصفات من جيل إلى آخر شكلت عقبةً كبيرةً في حينه أمام نظرية التطور. اكتُشفت أعمال مندل في النهاية من جديد في بداية القرن العشرين ودُمجت مع نظرية داروين باعتبارها وحدةً علمية واحدة حلت أغلب الإشكاليات التي كانت تواجهها، وأصبحت تعرف هذه النظرية باسم «الداروينية الجديدة» Neo-Darwinism. وهذا مثال على نظريات علمية طُوّرت بصورة مستقلة عن بعضها البعض وأصبحت تشكل -بعد أن اندمجت مع بعضها- وحدةً جديدة ذات قيمة أكبر من مجموع كل جزء منها على حدة.
إحدى مقومات هذا التوحيد الذي تطوّر في بداية القرن العشرين هي نظرية الجينات التي عُرفت على أنها الوحدات الوراثية التي تنتقل من جيل إلى آخر. فهم ماهية هذه الوحدة وتركيبها أتى مع تطور نظرية البيولوجيا الجزيئية Molecular Biology وبالذات فك لغز جزيء الحمض النووي الريبوزي منقصوص الأكسجين DNA عام 1953 وفهم مبناه. أدى هذا التطور إلى دمج البيولوجيا الجزيئية مع الداروينية الجديدة لتكون كلًّا متكاملًا جديدًا. وتدخل هذه النظرية في كثير من المجالات الأخرى مثل الطب، وتاريخ الإنسان القديم وتطوره وأنماط هجرته واختلاط الشعوب القديمة على مر العصور، وعلم المتحجرات وإلى آخره من مجالات تدعم وتغني بعضها وأحيانًا كثيرةً تتحدى بعضها.
الجانب الأخير من صفات النظريات العلمية الذي أود التنويه إليه هو الجانب العملي، إذ إن معظم النظريات العلمية لها جانب تطبيقي يمكننا من السيطرة على مجريات الأمور، وهي ليست سيطرة بمفهوم أننا نستطيع أن نغير القوانين التي تأتي بها النظرية العلمية، بل هي سيطرة بمفهوم أننا نتحكم بالظروف بشكل يجعل هذه النظريات تخدمنا في تحقيق أهداف تكنولوجية عملية. فمثلًا لا نتردد في السفر بالطائرة من دولة إلى أخرى لأننا نعرف ما هي القوانين التي تحكم هذه الحركة ونستطيع أن نتحكم في الشروط التي تمكننا من استغلال هذه القوانين لكي نطير. ينطبق هذا حتى على نظريات تبدو لأول وهلة من غير جوانب تطبيقية على الأرض، مثل نظرية النسبية العامة التي أصبحنا نستعملها بشكل روتيني في نظام التموضع العالمي Global Positioning System; GPS. يعطي هذا الاستعمال اليومي الروتيني، الذي نتعامل معه من غير تفكير أو تردد، للنظريات العلمية وجودًا قوي جدًا في حياتنا اليومية.
قبل أن أنهي أود أن أقف حول الفرق بين مفهوم «النظرية» كما نفهمها في السياق العلمي ومفهومها حين نستعملها في لغتنا اليومية.
من الواضح أن الاستعمالين مختلفان تمامًا، ففي حياتنا اليومية «النظرية» هي مجرد تخمين أو محاولة تفسير ظاهرة أو وضعية اجتماعية أو حدث معين، وهي غير مدعومة عادةً بإثباتات، وقد تكون صحيحة أو غير صحيحة لأنها مجرد تخمين قد لا يمت للواقع بصلة، لهذا نحن دائمًا نتعامل معها على أنها “مجرد نظرية”.
من الواضح أن هذا المفهوم اليومي للنظرية لا ينطبق على مفهوم النظرية العلمية. هذا المفهوم المزدوج، القائم أيضًا في لغات أجنبية، يؤدي إلى بلبلة بين المفهومين في أعين الناس، وتُستغل أحيانًا هذه البلبلة بشكل سيئ من قبل البعض بشكل مقصود من أجل تسخيف الفهم العلمي للواقع، وهذا يذكرنا بأوثان فرنسيس بيكون Francis Bacon والتي نصحنا بالتخلص منها، وبالذات ما أسماه «أوثان السوق» التي تلوث اللغة وتجعلنا نخلط المصطلحات بعضها ببعض.
على الطرف الآخر هناك مصطلح «النظرية الرياضية»، وهو أيضًا يحمل معنًى ووزنًا مختلفًا عن النظرية العلمية. النظرية الرياضية تعتمد على مجموعة مسلمات أساسية وتُستنتج النظرية بشكل منطقي من هذه المُسلمات، أي أن النظريات الرياضية تعتمد على الاستنباط Deduction، وتنتج صحتها بشكل حتمي من المسلمات الأساسية، كنظرية فيثاغورس مثلًا والتي في إطار مُسلمات الهندسة المستوية (هندسة إقليدس) هي نتيجة محتمة. لهذا فمعنى مفهوم «نظرية» في هذا السياق هو أيضًا مختلف، لأنها تُعد في الرياضيات حقيقةً حتميةً تنتج بشكل تلقائي من الفرضيات الأساسية وقوانين المنطق.
إعداد البروفيسور سليم زاروبي – تدقيق علي قاسم
اقرأ أيضًا: 7 كلمات علمية يساء فهمها