للبشر علاقة متضاربة مع الشمس، فهم يحبون أشعتها، ولكنهم في الوقت ذاته معرضون إلى الشعور بحرارتها، التي قد تكون مزعجة وتؤدي إلى دخول قطرات العرق في أعينهم، فضلًا عن اضطرارهم إلى اتباع جميع التدابير الوقائية من الشمس، مثل استخدام واقي الشمس وارتداء القبعات والنظارات الشمسية لحماية البشرة من مشكلات التعرض الزائد إلى الشمس مثل الحروق الشمسية. لكن هل كنا موسوسين دائمًا بالأضرار التي قد تسببها الشمس في أجسامنا؟
وفقًا لعلم الأنثروبولوجيا البيولوجية، لم يضطر البشر القدامى إلى مراعاة التأثيرات الضارة للشمس؛ إذ وفرت لهم بشرتهم الحماية الكافية لدهور.
الحاجز الوقائي الذي توفره البشرة
تطور البشر المعاصرون (هومو سابينز) تحت أشعة الشمس، التي كانت بدورها عاملًا ثابتًا في حياتهم، وفرت لهم الدفء ودلّتهم على الوقت، وقد أمضوا معظم عصور ما قبل التاريخ والعصور التأريخية خارجًا في الهواء الطلق، وكانوا غالبًا عراة، لذا مثلت البشرة صلتهم المباشرة مع العالم المحيط.
تطورت البشرة عند البشر حسب الظروف التي تعرضت لها، اتخذ البشر القدامى ملاجئهم في الكهوف والملاذات الصخرية أينما وجدوها، ثم أصبحوا قادرين على صنع الملاجئ القابلة للنقل من الخشب وجلود الحيوانات وغيرها، وفي أثناء الليل، كانوا يحتشدون معًا ويغطون أجسامهم بأغطية من الفرو، أما خلال النهار، فقد كانوا يمضون وقتهم خارجًا، كاشفين الجزء الأكبر من بشرتهم.
تتنوع استجابة البشرة للتعرض اليومي للشمس خلال حياتنا؛ مثلًا، قد تزداد الخلايا في طبقة البشرة السطحية (أو الأدمة الخارجية) لتصبح أكثر سمكًا، ويصبح لون البشرة لدى العديد من الأشخاص أغمق تدريجيًا نتيجة لنشاط الخلايا المتخصصة بإنتاج صبغة «الميلانين السوي» الوقائية.
يحفز التعرض إلى أشعة الشمس إنتاج المزيد من الميلانين السوي، الذي يزيد اسمرار البشرة. يمتص جزيء الميلانين معظم الضوء المرئي، ما يعطيه لونًا بنيًا غامقًا قريبًا من الأسود، وهو يمتص كذلك الأشعة فوق البنفسجية الضارة.
تعتمد كمية الميلانين السوي التي ينتجها كل شخص على جيناته، إذ يملك بعض الأشخاص كمية كبيرة منه وبإمكانهم إنتاج كمية أكبر عند تعرض بشرتهم إلى الشمس، في حين يملك غيرهم كمية أقل من الميلانين السوي ويقل إنتاجهم للصبغة عند تعرض بشرتهم إلى أشعة الشمس.
تقول عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية نينا جابلونسكي: «بينت أبحاثي التي تناولت تطور اصطباغ بشرة الإنسان أن لون البشرة لدى البشر القدامى في عصور ما قبل التاريخ تماشت مع المستويات المحلية من الأشعة فوق البنفسجية. مثلًا، تمتع الأفراد الذين كانوا يعيشون في المناطق ذات الدرجة المرتفعة باستمرار من الأشعة فوق البنفسجية -مثل المناطق القريبة من خط الاستواء- ببشرة داكنة اللون مع قابليتها الكبيرة إلى الاسمرار؛ لقدرتها على إنتاج الكثير من الميلانين السوي. في حين كان لون البشرة لدى سكان المناطق المتعرضة إلى درجة منخفضة من الأشعة فوق البنفسجية -مثل شمال أوروبا وشمال آسيا- فاتحًا، وكانت قدرة بشرتهم على إنتاج الميلانين محدودة».
نظرًا إلى انعدام وسائل النقل، لم يتنقل أسلافنا المبكرون كثيرًا خلال حياتهم، وتكيفت بشرتهم مع التغيرات الموسمية الطفيفة في شدة ضوء الشمس والأشعة فوق البنفسجية عبر إنتاج المزيد من الميلانين السوي، ما كان يجعل البشرة أكثر اسمرارًا في أثناء الصيف، وأقل سمرةً خلال فصلي الخريف والشتاء حين تصبح أشعة الشمس أقل حدةً.
في ذلك الوقت، كانت الحروق الشمسية المؤلمة نادرةً جدًا حتى بين الأشخاص ذوي البشرة الفاتحة، لأنهم لم يتعرضوا إلى أشعة الشمس القوية على نحو مفاجئ بعد المكوث طويلًا في الأماكن المغلقة؛ إذ عند ازدياد شدة أشعة الشمس في فصل الربيع، تزداد في المقابل سمك طبقة البشرة السطحية تدريجيًا خلال أسابيع أو شهور من التعرض إلى الشمس.
غير أن هذا لا يعني أن بشرة أسلافنا القدامى لا يمكن أن تتأذى بالظروف الحالية؛ إذ قد يُذهَل أطباء الجلدية بمظهر بشرة أسلافنا التي كانت سميكة ومجعدة نتيجة التعرض الشديد لأشعة الشمس. كانت البشرة في ذلك الوقت تشيخ بسرعة، ويتغير لونها باستمرار تماشيًا مع تغير مستويات الأشعة الشمسية خلال المواسم المختلفة. ينطبق هذا أيضًا على الأشخاص الذين يعيشون اليوم حياةً تقليدية في الأماكن المفتوحة في مختلف أنحاء العالم.
لا توجد بشرة قديمة محفوظة منذ آلاف السنين كي يدرسها العلماء، لكن يمكننا الاستدلال بالضرر الذي تسببت به الشمس عند أسلافنا بالنظر إلى تأثيراتها السلبية المشابهة في البشرة اليوم.
قد يؤدي التعرض المزمن لأشعة الشمس إلى سرطان الجلد، وهو يسبب نادرًا سرطان الميلانوما، الذي يعد مميتًا خلال سن الإنجاب.
العيش في الأماكن المغلقة غَيّر البشرة
عاش البشر قبل 10,000 سنة على جمع الطعام وصيد الحيوانات والأسماك، وتغيرت علاقتهم مع أشعة الشمس كثيرًا بعد أن بدأوا باتخاذ مساكن دائمة ليستقروا فيها. تزامنت الزراعة وتخزين الطعام مع صنع أبنية ثابتة وغير قابلة للنقل، وبدأ البشر مع حلول سنة 6000 قبل الميلاد بقضاء جزء كبير من وقتهم في مساكن مغلقة.
في حين أن معظم الأشخاص استمروا في قضاء معظم وقتهم خارجًا، فإن بعضهم كانوا يمكثون في البيوت كلما سنحت لهم الفرصة، وبدأ العديد منهم بحماية أنفسهم من أشعة الشمس كلما اضطروا إلى الخروج.
مع حلول سنة 3000 قبل الميلاد، ازدهر مجال صناعي كامل مخصص للوقاية من الشمس، وأنتج مختلف الوسائل الوقائية، مثل الشمسيات والقبعات والخيم والمظلات والملابس؛ من أجل حماية الناس من حدة أشعة الشمس واسمرار البشرة الناتج عن التعرض الطويل لها.
في حين أن بعض تلك الوسائل كانت مخصصة في الأصل للطبقة النبيلة، مثل الشمسيات والمظلات في الصين ومصر القديمة، سرعان ما بدأ تصنيعها واستخدامها على نطاق أوسع.
في بعض أجزاء العالم، ابتكر البشر كذلك معاجين وقائية تشبه واقي الشمس الحديث مصنوعة من المعادن والرواسب النباتية، لحماية بشرتهم المكشوفة، وما زال بعضها مستخدمًا حتى اليوم، مثل معجون ثاناكا الذي يستخدمه شعب ميانمار.
من أهم تداعيات هذه الطقوس في المجتمعات الزراعية القديمة أن الأشخاص الذين أمضوا معظم وقتهم في البيوت اعتبروا أنفسهم مميزين عن غيرهم، وكان لون بشرتهم الفاتح سمةً دالة على مكانتهم؛ لم تكن سمرة المزارعين جذابة، إذ ارتبط لون البشرة الداكن بأداء الأعمال الشاقة خارج المنزل، لذا لم تكن سمرة البشرة علامةً على قضاء عطلة صيفية ممتعة حينئذ، وإنما ارتبطت بالحياة الكادحة، لا سيما في بريطانيا والصين واليابان والهند.
اتسع نطاق تنقل البشر في القرون الأخيرة وازدادت سرعته، وازداد كذلك الوقت الذي يمضونه داخل البيوت، بيد أن بشرتهم لم تتمكن من مواكبة تغير مواقعهم وأساليب حياتهم، إذ لم يتكيف مستوى إنتاج الميلانين السوي في البشرة مع المستوى المحلي لأشعة الشمس، ما أدى إلى عجزها عن توفير الحماية ذاتها التي كانت توفرها لأسلافنا القدامى.
لا يستثنى الأشخاص ذوو البشرة الداكنة أو القابلة للاسمرار من ذلك أيضًا، إذ إن جميع البشر معرضون إلى الضرر الناتج عن التعرض الزائد لأشعة الشمس، لا سيما بعد الامتناع طويلًا عن الخروج تحت الشمس.
تقول جابلونسكي: «إن التعرض المفاجئ والقوي للأشعة فوق البنفسجية في العطل الصيفية سيئ بالفعل، لأن الحروق الشمسية تشير إلى ضرر في البشرة لن يُرمَّم على نحو كامل أبدًا؛ ورغم أنه قد يبدو مشكلةً بسيطة في بادئ الأمر، فإنه قد ينبئ بشيخوخة مبكرة للبشرة أو إصابة بسرطان الجلد. لا يوجد اسمرار صحي، فالاسمرار لا يقي الناس من أضرار الشمس، بل إنه علامة على الضرر ذاته».
قد يحب البشر المعاصرون أشعة الشمس، ولكن علينا الإقرار بحقيقة أن بشرتنا ليست صامدة مثل بشرة أسلافنا، ونظرًا إلى تغير علاقتنا مع الشمس، ينبغي علينا تغيير سلوكياتنا أيضًا لحماية بشرتنا من أضرارها.
اقرأ أيضًا:
هل يقي الواقي الشمسي فعلًا من سرطان الجلد لدى ذوي البشرة الملونة أم هي خرافة
ترجمة: رحاب القاضي
تدقيق: أسعد الأسعد
مراجعة: نغم رابي