في علم الاقتصاد، كثيرًا ما نلاحظ اختلاف الرأي بين العلماء حول كيفية إدارة الاقتصاد وحل مشكلاته وأزماته، ما أدى لوجود عدة نظريات ومدارس فكرية ولكل منها أتباعها، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالسؤال الجوهري: هل من الأفضل التدخل عند وقوع مشكلة أو منعها من الوقوع بالأساس؟ أم هل من الأفضل أن يقتصر التدخل الحكومي المباشر على الإدارة السلسة للمشكلة وترك السوق يعالج نفسه؟
من بين هذه الخلافات بين المدارس، خلاف المدرسة الكينزية -أتباع جون كينز- والمدرسة النقدية -أتباع ميلتون فريدمان- فيما يتعلق بكبح ومواجهة التضخم. سوف ندرس في هذا المقال بروز نهج النقديين وطريقتهم في التحكم بالتضخم، ونتعرف على مؤيدي هذا النهج ونجاحه وفشله.
أسس النقدية
النقدية نظرية في الاقتصاد الكلي تنتقد المدرسة الكينزية، ونالت اسمها لتركيزها على دور النقود في الاقتصاد، ما يختلف كثيرًا عن الرأي الكينزي الذي يؤكد على الدور الذي تلعبه الحكومة بالإنفاق الحكوميﻻ بالسياسات النقدية.
فيرى النقديون -أتباع هذه المدرسة- أن أفضل دور لإدارة الاقتصاد يتمثل بمراقبة المعروض النقدي -أي كمية النقد المتاحة للتداول في السوق- وترك السوق تتدبر أمرها، فبالنهاية الأسواق أكثر كفاءةً في حل مشكلة التضخم والبطالة نظريًا.
كان ميلتون فريدمان -الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل- يدعم المدرسة الكينزية سابقًا، ولكنه كان من الأوائل الذين انشقوا عن مبادئها التي كانت نهجًا سائدًا. وناقش في كتابه -المشترك مع زميلته الاقتصادية آنا شوارتز- عام 1971 بعنوان: التاريخ النقدي للولايات المتحدة 1867-1960، أن المسبب الرئيسي للكساد العظيم الذي أصاب الولايات المتحدة لم يكن المشاكل المتعلقة بالإيداعات والنظام المصرفي، بل كان السياسة النقدية الرديئة للاحتياطي الفيدرالي، وأن الأسواق تتجه بطبيعتها نحو نقطة استقرار، والإدارة غير الملائمة للمعروض النقدي هي التي جعلت الأسواق تتصرف عشوائيًا. ومع انهيار نظام بريتون وودز أوائل سبعينات القرن الماضي وما تبعه من زيادة في معدلات التضخم والبطالة، اتجهت الحكومات نحو المدرسة النقدية لكي تُفسّر وتدير أزمتها، وهنا برزت هذه المدرسة واكتسبت المزيد من الشهرة.
أهم مفاتيح نهج المدرسة النقدية:
- التحكم بالمعروض النقدي هو مفتاح ضبط الأعمال التجارية.
- تؤثر توقعات السوق عن التضخم في معدلات الفائدة.
- يأتي أثر التغيرات في الإنتاج أولًا وبعده يأتي أثر التضخم.
- لا تحمل التعديلات على السياسة المالية تأثيرًا فوريًا مباشرًا على الاقتصاد، ولكن القوى السوقية أكثر كفاءةً في صناعة القرار وحل المشكلة.
- يوجد معدل بطالة طبيعي ومحاولة التخفيض دونه ستؤدي للتضخم.
- النظرية الكمية للنقود
يرى النهج الاقتصادي الكلاسيكي أن كمية النقود الموجودة في الاقتصاد تحددها معادلة التبادل:
M*V = P*T
وفي هذه المعادلة M هي كمية الأموال المتداولة حاليًا، V سرعة دوران النقود أي عدد مرات إنفاق الورقة المالية أو تداولها في الفترة الزمنية، P متوسط الأسعار، T قيمة الإنفاق أو عدد التعاملات.
ولما درس علماء الاقتصاد هذه المعادلة وجدوا أن سرعة دوران النقود تبقى ثابتة نسبيًا مع الزمن، ولهذا السبب تؤدي الزيادة في كمية الأموال إلى زيادة في الأسعار. أي أن الزيادة في المعروض النقدي ستؤدي إلى الزيادة في معدلات التضخم، والتضخم يؤذي الاقتصاد بزيادته لأسعار السلع، ما يحد من المقدرة على الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري. ويقول فريدمان: «إن التضخم في كل زمان ومكان ظاهرة نقدية».
ومع أن أتباع النهج الكينزي لم ينكروا دور النقد في الناتج المحلي الإجمالي بالمطلق، لكنهم يرون أن السوق يحتاج لوقت أطول ليتكيف مع التعديلات، أما بنظر النقديين فالسوق يتكيف بسهولة مع الزيادة في رأس المال.
المعروض النقدي والتضخم وقاعدة النسبة المئوية-K
بالنسبة لفريدمان وغيره من النقديين، يجب أن يكون دور المصرف المركزي تقليل أو زيادة حجم المعروض النقدي في الاقتصاد، ويتوسع مفهوم المعروض النقدي عند فريدمان ليشمل حسابات الادخار وغيرها من أنواع الحسابات تحت الطلب.
إن ازداد حجم المعروض النقدي بسرعة، سيزداد معدل التضخم أيضًا، ما يؤدي إلى زيادة في أسعار السلع للمستهلكين والمستثمرين، ما يضغط على الاقتصاد ويؤدي إلى حالة من الركود أو الكساد. وعند وصول الاقتصاد لهذه النقاط الحرجة، قد يفاقم المصرف المركزي المشكلة إن لم يضخ الكمية اللازمة من المال. وإن لم تكن المصارف وغيرها من المؤسسات المالية قادرة على تزويد الآخرين بالرصيد والقروض، قد يؤدي ذلك إلى أزمة ائتمانية، أي انخفاض القروض من المؤسسات المالية بسبب قلّة الإيرادات، وهذا يعني ببساطة عدم وجود كمية كافية من النقود لتمويل استثمارات جديدة وخلق فرص عمل جديدة. ووفقًا للمدرسة النقدية، فإن ضخ المصرف المركزي لمزيد من المال في العجلة الاقتصادية له أثر تحفيزي على الاستثمارات الجديدة ويزيد من الثقة بين أوساط المستثمرين.
واقترح فريدمان أن على المصرف المركزي أن يحدد هدفًا لمعدل التضخم، وللوصول إلى هذا الهدف عليه زيادة حجم المعروض النقدي بنسبة ثابتة سنويًا، بغض النظر عن النقطة التي يقع فيها الاقتصاد في الدورة الاقتصادية، هذه هي قاعدة النسبة المئوية-K، ولها تأثيران أساسيان، فبهذه الطريقة لا يملك المصرف المركزي الصلاحية في تغيير معدل ضخ المال في المعروض النقدي ما يزيد من مقدرة المستثمرين على توقع إجراءات المصرف المركزي، وهذا الأمر يحد بفعالية من التغيرات في سرعة دوران النقود، وعلى هذه الزيادة السنوية في حجم المعروض النقدي أن تنسجم مع النمو الطبيعي للناتج المحلي الإجمالي.
التوقعات
- علاقة معدل التضخم بالبطالة
- موقف سياسة الإنفاق من ارتفاع الأسعار بزيادة الطلب
- علاقة توقعات المواطنين بالتضخم
للحكومات طرقها في بناء التوقعات، وغالبًا ما استخدم الاقتصاديون منحنى فيليبس -خط بياني يوضح بعلاقات رياضية تناسبًا عكسيًا بين التضخم والبطالة- وتوقعوا ازدياد التضخم مع انهيار معدل البطالة ومن أشكاله زيادة الأجور.
يشير منحنى فيليبس إلى قدرة الحكومة على التحكم بمعدل البطالة، ما دفع أتباع النهج الكينزي لزيادة مقصودة في معدل التضخم لتخفيض معدل البطالة.
وواجهت هذه المفاهيم مشكلة في سبعينيات القرن الماضي، عندما ارتفعت معدلات البطالة والتضخم في الوقت ذاته.
درس فريدمان وزملاؤه النقديون الدور الذي تلعبه التوقعات في معدلات التضخم، وعلى وجه الخصوص توقعات الأفراد بزيادة في الأجور عند ارتفاع معدل التضخم.
إن خلق الطلب في الأسواق يدفع الشركات لزيادة استطاعتها من الموظفين لزيادة إنتاجها أمام الزيادة في الطلب، ولكن إن حاولت الحكومة تخفيض معدل البطالة باتباعها سياسة الإنفاق الحكومي لزيادة الطلب، يؤدي هذا إلى ارتفاع كبير في معدل التضخم، ما سيدفع الشركات لإقالة الموظفين الذين وظفتهم بالأساس تماشيًا مع صدمة الطلب هذه.
وسيتعرض الاقتصاد لهذه المشكلة كلما حاولت الحكومة تخفيض معدل البطالة دون معدل معيّن. فالحقيقة الصادمة أنه مثلما توجد معدلات تضخم مقبولة، يوجد معدل بطالة طبيعي، وأي محاولة لإبعاد معدل البطالة عن هذا المعدل (سلبًا أم إيجابًا) سيعرض الاقتصاد لمشكلة.
إدراك هذه الفكرة كان هامًا جدًا للنقديين، هنا أدركوا أن التغيير في حجم المعروض النقدي سيؤدي إلى تغير في حجم الطلب على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل سيتقلص هذا التغير أمام توقع الناس بارتفاع التضخم، فإن توقعت الأسواق ارتفاع معدل التضخم مستقبلًا، ستبقى معدلات الفائدة مرتفعة في السوق المفتوحة.
تطبيق المدرسة النقدية
في أوائل سبعينيات القرن الماضي، اكتسبت المدرسة النقدية شهرتها خصوصًا في الولايات المتحدة، كان الاقتصاد الأمريكي في تلك الفترة يعاني من عدم النمو ومن ارتفاع معدلات التضخم والبطالة معًا، وعند تعيين بول فولكير رئيسًا لمجلس إدارة الاحتياطي الفيدرالي عام 1979، كانت مهمته الرئيسية الشاقة كبح التضخم الهائج الناجم عن ارتفاع أسعار النفط وانهيار نظام بريتون وودز.
وبعد تخليه عن السياسة السابقة التي استهدفت معدلات الفائدة، بدأ فولكير بالحد من الزيادة في المعروض النقدي، أي تخفيض M في معادلة التبادل. ساهم هذا التغيير في تخفيض حاد لمعدل التضخم، ولكنه حمل أثرًا سلبيًا على الاقتصاد بوضعه في حالةٍ من الركود بسبب معدلات الفائدة المرتفعة.
ومنذ بروز المدرسة النقدية في أواخر القرن العشرين، بقي جانب منها لم يتطور أبدًا، وهو القوانين الصارمة حول الاحتياطي الإلزامي، وهو كمية النقد التي يجبر المصرف المركزي المصارف أن تبقيها بحوزته أو في خزائنها.
تكلم فريدمان وغيره من النقديين عن هذه التشريعات وعن التحكم الصارم بهذا الاحتياطي، وقد تكون هذه الفكرة قديمة وعفا عليها الزمن بعد تطور الأسواق المالية ورفع القيود عنها، وازدياد موازنات الشركات تعقيدًا. ومع تطور الاقتصاد، ضعفت العلاقة بين المعروض النقدي والتضخم، وأصبحت المصارف المركزية تركز على سياسات وأهداف لإدارة التضخم ﻻ على سياساتها النقدية الصارمة، وطبّق آلان غرينسبان -ذو الأفكار النقدية- هذه الفكرة بنجاح في معظم فترة إدارته الاحتياطي الفدرالي من عام 1987 حتى عام 2006.
انتقاد المدرسة النقدية
إن أشرس منتقدي المدرسة النقدية هم أتباع النهج الكينزي، خصوصًا بعد سياسات محاربة التضخم التي أدت إلى الركود في ثمانينيات القرن الماضي، وأشاروا إلى فشل إدارة الاحتياطي الفيدرالي وقتها بتلبية الطلب على النقود، ما أدى إلى انخفاض في رأس المال المتوفر في السوق.
تستمر دومًا حالة الجدل في علم الاقتصاد واختلاف الآراء حول الأفكار والنظريات والمدارس والسياسات الاقتصادية وإيجابياتها وسلبياتها، فقد تنجح مدرسة في تفسير وإدارة عصر من الزمن، وتفشل مستقبلًا. وتملك المدرسة النقدية لحد الآن سجلًا حافلًا وتاريخًا لا بأس به، ولكنها ما تزال جديدة نسبيًا، وليس من المستبعد أن نرى تعديلات عليها، تصقلها وتصفيها من عيوبها أمام المستقبل.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: كميت خطيب
تدقيق: محمد حسان عجك