ريتشارد فورنو، محاضر أول، باحث في مجال الأمن السيبراني والإنترنت، جامعة ميريلاند، بالتيمور.
الهجمات الروسية التي استهدفت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 والمعلومات المتصلة بالانتخابات، جرت عبر الأبعاد الثلاثة للفضاء السيبراني، المادية، الإعلامية، والمعرفية.
البعدان الأولان معروفان: استغل المتسللون عيوب الأجهزة والبرامج للحصول على وصول غير مصرح به إلى أجهزة الكمبيوتر، والشبكات، والمعلومات المسروقة التي عثروا عليها.
أما البعد الثالث، فهو هدف جديد وأكثر أهميةً؛ إنه عقول المستخدمين.
تأتي هذه النظرة ثلاثية الأبعاد للفضاء السيبراني من الأستاذ الراحل، البروفيسور دان كويل من جامعة الدفاع الوطني، الذي أعرب عن قلقه بشأن أنشطة القرصنة التقليدية وما تعنيه للأمن القومي.
لكنه توقع أيضًا إمكانية أن تكون هذه الأدوات، التي أصبحت واضحةً الآن للجمهور عمومًا، يمكن استخدامها لاستهداف تصورات الناس وعمليات تفكيرهم أيضًا.
وهذا ما فعله الروس حسب ما ورد في لوائح اتهام اتحادية صدرت في فبراير/ شباط ويوليو/ تموز، إذ وضعوا أدلةً على أن المدنيين والعسكريين الروس استخدموا أدوات على شبكة الإنترنت للتأثير على وجهات نظر الأمريكيين السياسية، وعلى أصواتهم.
وربما يكون هؤلاء المهاجمون الروس قد أعدوا للقيام بذلك مرةً أخرى في الانتخابات النصفية المزمع إجراؤها عام 2018.
يقترح بعض المراقبين أن استعمال بعض أدوات الإنترنت لأغراض التجسس ووقود لحملات التضليل هو نوع جديد من الحرب الهجينة، وتكمن فكرتهم في أن الخطوط تتلاشى بين الحرب التقليدية التي تستخدم القنابل والصواريخ والبنادق، والحرب غير التقليدية المتخفية التي تمارس منذ فترة طويلة ضد قلوب وعقول الأجانب من خلال قدرات المخابرات وقدرات القوات الخاصة.
أما أنا فأعتقد أن هذا ليس شكلًا جديدًا من أشكال الحرب على الإطلاق: بل إنه نفس الاستراتيجيات القديمة التي تستفيد من أحدث وسائل التكنولوجيا المتوفرة.
مثلما تستخدم شركات التسويق عبر الإنترنت المحتوى المدعوم والتلاعب بمحرك البحث لتوزيع المعلومات المتحيزة للجمهور؛ تستخدم الحكومات الأدوات المستندة إلى الإنترنت لمتابعة جداول أعمالها.
بعبارة أخرى، إنهم يخترقون نظامًا مختلفًا من خلال الهندسة الاجتماعية على نطاق واسع.
أهداف قديمة وتقنيات جديدة:
منذ أكثر من 2400 عام، جعل المحلل العسكري والفيلسوف الصيني “سوون تزو” من بديهيات الحرب أنه من الأفضل: «إخضاع العدو دون قتال».
إن استخدام المعلومات أو التضليل، أو الدعاية المنظمة “البروباغندا”، كسلاح يمكن أن يكون أحد السبل لزعزعة استقرار السكان وشل قدرات البلد المستهدف.
في عام 1984، ناقش عميل سابق في الكي جي بي كان قد انشق إلى الغرب هذا الأمر على أنه عملية طويلة الأجل وتنبأ إلى حدٍ ما بما يحدث في الولايات المتحدة الآن.
أنشأ الروس حسابات كاذبة تحاكي حسابات النشطاء السياسيين الأمريكيين على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل TEN GOP، التي زعمت أنها مرتبطة بالحزب الجمهوري في ولاية تينيسي.
تمكن هذا الحساب وحده من جذب أكثر من 100000 متابع.
كان الهدف هو نشر بعض المواد الدعائية مثل الصور والملصقات والرسوم المتحركة القصيرة، التي صممت عمدًا لإغضاب متابعي هذه الحسابات.
هؤلاء الأشخاص يقومون بعد ذلك بتمرير المعلومات عبر حساباتهم الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي.
انطلاقًا من البذور التي زرعها المزيفون الروس، بمن فيهم بعض الذين زعموا أنهم مواطنون أمريكيون، نَمَت هذه الأفكار وازدهرت عبر التضخيم من قبل أناس حقيقيين.
لسوء الحظ، سواء كان مصدرها روسيا أو أي مكان آخر، يمكن أن تشكل المعلومات المزورة ونظريات المؤامرة أساسًا للمناقشات في وسائل الإعلام الحزبية الرئيسية.
أقام المهاجمون أيضًا حسابات على تويتر يُعتقد أنها تمثل منظمات إخبارية محلية، بما في ذلك المؤسسات المتوقفة عن العمل، للاستفادة من ثقة الأمريكيين بمصادر الأخبار المحلية أكثر من تلك الوطنية.
تم تشغيل هذه الحسابات لعدة سنوات، واحدة لـ Chicago Daily News، المغلقة منذ عام 1978، تم إنشاؤها في مايو 2014 وجمعت 20000 متابع، كانت تمرر مقالات إخبارية محلية غير مزورة، وكانت تسعى على الأرجح إلى كسب ثقة المتابعين قبل حملات تضليل مستقبلية.
تم إغلاق هذه الحسابات قبل أن يتمكنوا من تحقيق هذه الغاية.
هذه الأنواع من الأنشطة هي من وظائف التجسس التقليدي: انشر الأضاليل ثم اجلس وتفرج بينما يصبح السكان المستهدفون مشتتين بين أنفسهم.
مكافحة التضليل الرقمي صعب:
قد يكون من الصعب تحليل هذا النوع من السلوك الاستفزازي، ناهيك عن التصدي له.
روسيا ليست وحدها؛ الولايات المتحدة تحاول التأثير على الجماهير الأجنبية والآراء العالمية، بما في ذلك عبر خدمات إذاعة صوت أمريكا عبر الإنترنت والخدمات الإذاعية ونشاطات الاستخبارات.
وليست الحكومات فقط هي التي تتدخل في حملات التضليل.
يمكن للشركات ومجموعات المناصرة وغيرهم أيضًا إجراء هكذا حملات.
ولسوء الحظ، فإن القوانين والأنظمة تمثل وسائل غير فعالة.
علاوةً على ذلك، كانت شركات الإعلام الاجتماعي بطيئةً إلى حدٍ ما في الاستجابة لهذه الظاهرة. ورد أن تويتر علّق أكثر من 70 مليون حساب مزيف في وقت سابق من هذا الصيف.
وشمل ذلك ما يقارب الـ 50 حسابًا مثل: “شيكاغو ديلي نيوز” المزيف.
ويقول فيس بوك أيضًا أنه يعمل على الحد من انتشار “الأخبار المزورة” على موقعه.
ومع ذلك، فإن الشركتين تحققان أرباحًا من نشاط المستخدمين على مواقعهم؛ لذلك فهي تتعارض مع محاولاتهم محاربة المنشورات المضللة في الوقت الذي تعزز فيه أيضًا مشاركة المستخدمين.
الدفاع الحقيقي يحدث في الدماغ:
تعتمد أفضل حماية ضد التهديدات للبعد المعرفي للفضاء السيبراني على أعمال المستخدمين ومعرفتهم.
يجب على المواطنين العقلانيين المتعلمين أن يشكلوا أساس مجتمع ديمقراطي قوي.
لكن هذا الدفاع يفشل إذا لم يكن لدى الناس المهارات، أو ما هو أسوأ من ذلك، لا يستخدمونها للتفكير بشكل نقدي حول ما يرونه على وسائل التواصل الاجتماعي وفحص مزاعم الحقيقة قبل قبول صحتها.
الناخبون الأمريكيون يتوقعون تدخل روسيا المستمر في الانتخابات الأمريكية.
في الواقع، يبدو أنه قد بدأ بالفعل.
وللمساعدة في مكافحته، تخطط وزارة العدل الأمريكية لتنبيه الجمهور عندما تكشف عن أي تجسس أجنبي، أو حسابات مقرصنة، أو حملات تضليل متعلقة بالانتخابات المقبلة في منتصف العام 2018.
وأنشأت وكالة الأمن القومي الأمريكية فريق عمل لمواجهة القرصنة الروسية للأنظمة الانتخابية والشبكات الحاسوبية الرئيسية للأحزاب السياسية.
هذه الجهود هي بداية جيدة، لكن الحل الحقيقي يأتي عندما يبدأ الناس في إدراك أنهم يتعرضون لهذا النوع من الهجوم المعرفي، وأن الأمر ليس مجرد خدعة.
نُشرت هذه المقالة على The Conversation
- ترجمة: أسامة أبو إبراهيم.
- تدقيق: أحلام مرشد.
- تحرير: عيسى هزيم.
- المصدر