ألغاز من الماضي وتفسيرات من المستقبل
ما هو سبب ضباب لندن القاتل؟
القليل من العرب قد يدركون ذلك، ولكن في عام 1952م احتوى ضبابٌ قاتل على الكثير من الملوثات فغطى لندن لمدة خمسة أيّام، متسببًا في مقتل آلاف السكان ومشاكل في التنفس للبقيّة، والمسبب الحقيقي لهذا الضباب وطبيعته قد بقي مجهولة لعدة عقود تقريبًا، ولكن فريقًا دوليًّا من العلماء والمتضمن عدة باحثين تابعين لجامعة تكساس يعتقدون بأنه قد كُشف النقاب عن غموض هذه الظاهرة وأنّ تغيرات كيمياء الهواء ذاتها تحدث الآن في الصين وعدة مناطق أخرى.
نشرت أعمال الباحث رينيه تشانغ من جامعة تكساس، أستاذ جامعي متميز ورئيس هارولد جي هاينز لعلوم الغلاف الجوّي وبروفسور في علم الكيمياء بجانب طلاب الدراسات العليا: يون لين، ويلماري ماريرو-أورتيز، وجيرمياه سيكرست، ويشن لي، وجياشي هو وبوين بان وعموم الباحثين من الصين، وفلوريدا، وكاليفورنيا، وإسرائيل والمملكة المتحدة في العدد الحالي من دورية الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS).
في كانون الأول/ديسمبر عام 1952م لفّ الضباب لندن بالكامل وبالكاد أعاره السكان الاهتمام في البداية لأنّه لم يبدُ مختلفًا عن موجات الضباب الطبيعية التي اجتاحت بريطانيا العظمى لآلاف السنين.
ولكن خلال الأيام القليلة التالية، ساءت الظروف بشكلٍ كبير وأظلمت السماء بكل معنى الكلمة، وانخفض مجال الرؤية لثلاثة أقدام فقط في بعض أجزاء المدينة، وتوقفت جميع وسائل النقل وواجه عشرات الآلاف من الناس مشاكل في التنفس، وعندما اختفى الضباب في التاسع من كانون الأول/ديسمبر كان أربعة آلاف شخص على الأقل قد لاقوا حتفهم و150 ألف قد أُدخلوا إلى المستشفيات، ونفقت آلاف الحيوانات ضمن هذه المنطقة.
تقول دراسات بريطانية حديثة إنّ عدد الضحايا كان أعلى من ذلك بكثير وأنّ 12,000 شخص من مختلف الأعمار قد فارقوا الحياة بسبب الضباب القاتل، وكان من الراجح أنّ الكثير من هذه الوفيات حدثت بسبب الانبعاثات الناجمة عن حرق الفحم، ولكنّ العمليات الكيميائية الدقيقة التي تسببت في تشكيل هذا المزيج القاتل من الضباب والتلوث لم تُفهم بشكلٍ دقيق خلال الستين سنةً المنصرمة.
أدى الضباب القاتل هذا إلى إقرار البرلمان البريطاني لقانون الهواء النظيف في العام 1956م، ولايزال الضباب يعد أسوأ كارثة تلوث الهواء في التاريخ الأوروبي.
ومن خلال التجارب المعملية والقياسات الجويّة في الصين، خرج الفريق ببعض الأجوبة، يقول تشانغ: «لقد علم الناس بأنّ الكبريتات كانت المساهم الأكبر في تشكيل الضباب، إذ تشكّلت جزيئات حمض الكبريتيك من ثاني أكسيد الكبريت المتحرر من منشآت الطاقة واستخدامات المواطنين ومن مصادر أخرى».
وأضاف: «ولكن الآليّة التي تحوّل وفقها ثاني أُكسيد الكبريت إلى حمض الكبريتيك لم تكن واضحة، وأشارت نتائجنا بأنّ هذه العملية قد سيّرها ثاني أكسيد النتروجين الذي ليس سوى ناتج ثانوي آخر من عملية حرق الفحم ويوجد بشكل طبيعي في الضباب العادي، عامل رئيسي آخر في عملية تحويل ثاني أكسيد الكبريت إلى كبريتات هو أنّه ينتج جزئيات حمضية، والتي تثبط لاحقًا هذه العمليّة».
يحتوي الضباب العادي جزيئات أكبر بعدة عشرات الميكرومترات في الحجم، والحمض المتشكّل يُخفف بما فيه الكفاية، وإنّ تبخر جزيئات الضباب هذه ترك جزيئات سديمية أصغر غطت المدينة بالكامل.
وتشير الدراسة إلى أنّ عمليات كيميائية كهذه تحدث بشكل متكرر في الصين، والتي حاربت تلوث الهواء لعدة عقود. وتعد الصين موطنًا لستة عشر مدينة من أصل أكثر عشرين مدينة ملوثة في العالم، وفي كثير من الأحيان تتجاوز بكين الحدود المقبولة لتلوث الهواء التي وضعتها وكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة.
وأضاف تشانغ: «الفرق في الصين هو أنّ الضباب يبدأ بالتشكل من جزيئات نانوية متناهية الصغر، وتعتبر عملية تشكل الكبريتات ممكنة فقط عند تواجد الأمونيا وذلك لمعادلة الجزيئات».
ينبعث ثاني أكسيد الكبريت في الصين بشكل رئيسي من محطات توليد الطاقة، وثاني أكسيد النتروجين من محطات توليد الطاقة ومن السيارات بينما تنبعث الأمونيا من استخدام الأسمدة ومن السيارات، مجددًا يجب على العمليات الكيميائية أن تتداخل معًا لكي يتشكّل الضباب القاتل في الصين، ومن الملفت للنظر أنه بينما كان ضباب لندن حمضيًا بشكلٍ عالٍ كان ضباب الصين المعاصر معتدلًا بشكلٍ أساسي.
وتابع تشانغ قائلًا: «لقد عملت الصين بشكل جدّي خلال القرن الماضي للتخفيف من مشاكل تلوث الهواء، ولكنّ استمرار تدني نوعية الهواء تطلب من الناس ارتداء أقنعة خاصة للتنفس طول فترة النهار تقريبًا، وإنّ تفجر النمو الصناعي والصناعة في الصين بالإضافة للتفجر السكاني خلال 25 سنة الماضية قد ساهم في هذه المشكلة». وأضاف: «يكمن المفتاح الأساسي من أجل تطوير الاجراءات التنظيمية الفعالة في الصين في فهم كيمياء الهواء بشكلٍ أفضل».
وأشار تشانغ: «لقد تعهدت الحكومة بفعل كل ما في وسعها للحد من الانبعاثات في المستقبل، ولكن ذلك سيتطلب وقتًا. نحن نعتقد بأننا ساهمنا في حل لغز ضباب لندن وأعطينا الصين أيضًا بعض الأفكار حول تحسين نوعية الهواء، ومن المرجح أن خفض انبعاثات أكاسيد النتروجين والأمونيا سيكون فعالًا في تعطيل عمليّة تشكيل الكبريتات».
ترجمة: علي بيشاني
تدقيق: عبدالسلام محمد
المصدر