لطالما عرفنا وآمنا بكون الدهون المشبعة ضارة ، إذ يزعم بأنها ترفع مستويات الكوليسترول في الدم وتزيد خطر الإصابة بأمراض القلب ، إلا أن العديد من الدراسات الحديثة تشير إلى أن ذلك ليس بالحقيقة الكاملة، وأن الموضوع أعقد من ذلك بكثير.
في العلم الحديث بات هناك بعض الشك حول السمعة السيئة التي لطاما رافقت الدهون المشبعة في العقود الماضية. ودراسة تلو أخرى تظهر أن أضرار هذه الدهون ربما تكون أقل مما كان معتقداً في الماضي،
ما هي الدهون المشبعة؟
الدهون هي أحد العناصر الغذائية الكبرى والتي نستهلكها بكميات كبيرة وتمد أجسامنا بالطاقة، ويتكون كل جزيء من الدهون من جزيء غليسرول واحد وثلاثة أحماض دهنية، والتي إما أن تكون مشبعة أو أحادية اللا إشباع أو متعددة اللا إشباع، ويعبّر الإشباع عن عدد الروابط الثنائية الموجودة في الجزيء، فالأحماض الدهنية المشبعة لا تملك أي روابط ثنائية، أما أحادية اللا إشباع فتملك رابطة ثنائية واحدة، وهناك رابطتان ثنائيتان أو أكثر في الأحماض الدهنية متعددة اللا إشباع.
وبمعنى آخر، تملك الأحماض الدهنية المشبعة ذرات كربون مشبعة بالكامل بذرات الهيدروجين، وتتضمن الأطعمة الغنية بالدهون المشبعة اللحوم ودهن الخنزير ومنتجات الحليب كاملة الدسم كالزبدة والقشدة وجوز الهند وزيته، بالإضافة إلى زيت النخيل والشوكولاتة الداكنة.
وفي الواقع تملك جميع الدهون مزيجًا من أحماض دهنية مختلفة، فليس أي نوع من الدهون هو من الدهون المشبعة بالكامل، أو دهون غير مشبعة بالكامل، وحتى لحم البقر على سبيل المثال يحتوي على كميات جيدة من الدهون أحادية ومتعددة اللا إشباع، وتكون الدهون التي تشكل الأحماض الدهنية المشبعة معظمها كالزبدة في الحالة الصلبة في درجة حرارة الغرفة، بينما تكون الدهون غير المشبعة كزيت الزيتون في الحالة السائلة، وكباقي أنواع الدهون تحتوي المشبعة على 9 سعرات حرارية في الغرام الواحد.
لماذا يعتقد الناس بأن الدهون المشبعة ضارة؟
انتشر وباء رئيسي من أمراض القلب في أمريكا في القرن العشرين، وعلى الرغم من أنه كان نادرًا، إلا أنه انتشر بشكل سريع وأصبح المسبب الأول للوفاة في ذلك الوقت، وما زال كذلك حتى الآن، واكتشف الباحثون في ذلك الوقت أن تناول الدهون المشبعة يزيد مستويات الكوليسترول في الدم، وكان هذا أمرًا مهمًا في ذلك الوقت، لأنهم كانوا على دراية بأن مستويات الكوليسترول المرتفعة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب.
وأدى ذلك إلى التوصل إلى أنه إذا كانت الدهون المشبعة تزيد مستويات الكوليسترول -ويسبب الكوليسترول أمراض القلب- فهذا يعني حتمًا أن الدهون المشبعة تسبب أمراض القلب، ولكن ذلك لم يكن مبنيًا على أي تجارب أجريت على الإنسان في ذلك الوقت، إذ كانت هذه الفرضية مبنية على افتراضات وبيانات رصد ودراسات أجريت على الحيوانات، وانتشرت هذه الفرضية بين العامة عام 1977 قبل أن تُثبت صحتها تمامًا، وعلى الرغم من علمنا في الوقت الحاضر بوجود دراسات أجريت على الإنسان تفند هذه الافتراضات، إلا أن الناس ما زالت تُنصح بتجنب الدهون المشبعة للوقاية من أمراض القلب.
من المهم الإشارة إلى أن كلمة كوليسترول بحد ذاتها تستخدم كثيرًا بشكل خاطئ، فما يعرف بالكوليسترول الجيد (HDL) والكوليسترول السيئ (LDL) ليس بكوليسترول بالأصل، فهي بروتينات تنقل الكوليسترول عبر الجسم وتدعى بالبروتينات الشحمية، فـ (LDL) يعزى إلى البروتينات الشحمية منخفضة الكثافة، أما (HDL) فيعزى إلى البروتينات الشحمية عالية الكثافة.
كان العلماء في بادئ الأمر يقيسون مستويات الكوليسترول الكلية، والتي تتضمن كلًا من البروتينات الشحمية منخفضة وعالية الكثافة، ثم اكتشفوا ارتباط منخفضة الكثافة بزيادة خطر أمراض القلب، وارتباط عالية الكثافة بتقليل خطر الإصابة، وعليه فإن الكوليسترول الكلي هو مؤشر خاطئ لأمراض القلب لأنه يتضمن كلا النوعين، ولأن الدهون المشبعة تزيد مستويات البروتينات الشحمية منخفضة الكثافة، فقد كان افتراض أنها تزيد خطر الإصابة بأمراض القلب منطقيًا، إلا أن العلماء تجاهلوا بأنها ترفع مستويات مرتفعة الكثافة أيضًا.
برغم ذلك، أظهرت دراسات جديدة أن البروتينات الشحمية منخفضة الكثافة (LDL) ليست سيئة بالكامل، وذلك لوجود عدة أنواع منها:
- بروتينات شحمية منخفضة الكثافة صغيرة الحجم: وهي بروتينات شحمية يمكنها أن تخترق جدار الشرايين، وتتسبب بأمراض القلب.
- بروتينات شحمية منخفضة الكثافة كبيرة الحجم: لا يمكن لهذا النوع الكبير أن يخترق الشرايين بسهولة.
كما أن الجسيمات الصغيرة والكثيفة أكثر عرضة للأكسدة، التي تعتبر خطوة أساسية في الطريق إلى أمراض القلب، فالأشخاص الذين يملكونها أكثر عرضة لأمراض القلب بثلاث مرات من الذين يملكون الجسيمات الكبيرة، ولذلك، ولتخفيض خطر الإصابة بأمراض القلب يجب أن يوجد في الجسم جسيمات كبيرة من البروتينات الشحمية منخفضة الكثافة، وأقل كمية ممكنة من تلك الصغيرة.
وما هو مثير للاهتمام وغالبًا ما يتجاهله المعظم هو أن تناول الدهون المشبعة يغير جزيئات البروتينات الشحمية منخفضة الكثافة (LDL) الصغيرة والكثيفة إلى جزيئات أكبر، ما يعني أنه وعلى الرغم من أن الدّهون المشبعة ترفع مستويات هذه البروتينات بشكل طفيف، إلا أنها تغيرها إلى الشكل الأقل ضررًا منها، والذي يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بأمراض القلب، والجدير بالذكر أن تأثير هذه الدهون المشبعة على مستويات البروتينات الشحمية منخفضة الكثافة ليس كبيرًا كما يعتقد الأغلب، فعلى الرغم من أنها تزيد مستوياتها على المدى القصير، إلا أنه لم تجد العديد من دراسات الرصد التي أجريت خلال فترة زمنية طويلة علاقة بين استهلاك الدهون المشبعة ومستويات تلك البروتينات الشحمية.
كما يبدو أن الأمر يعتمد على طول سلسلة الحمض الدهني، فحمض النخيل على سبيل المثال (الذي يحتوي على 16 ذرة كربون) قد يرفع مستوى البروتينات الشحمية منخفضة الكثافة (LDL)، بينما لا يرفعه حمض الشمع (Stearic acid)، وبذلك أدرك العلماء أن الأمر لا يعتمد فقط على تركيز هذه البروتينات الشحمية فحسب، بل على عدد الجزيئات الموجودة في الدم، ويبدو أنه يمكن للأنظمة الغذائية القليلة بالكربوهيدرات والتي عادة ما تكون غنية بالدهون المشبعة أن تقلل عدد تلك الجزئيات، على عكس الأنظمة الغذائية قليلة الدهون التي تملك تأثيرًا سلبيًا على عددها.
هل تتسبب الدهون المشبعة بأمراض القلب؟
تعتبر آثار الدّهون المشبعة الضارة الركن الأساسي في التوجيهات الغذائية الحديثة، ولذلك تلقى هذا الموضوع بالذات تمويلًا هائلًا وأُجريت دراسات عليه لعقود، ومع ذلك لم يستطع العلماء حتى الآن التوصل لعلاقة واضحة، ولم تجد العديد من الدراسات التي استخدمت بيانات من دراسات عديدة أخرى أي علاقة بين استهلاك الدهون المشبعة وأمراض القلب.
بما في ذلك استعراض لـ 21 دراسة وما مجموعه 347747 مشارك نُشرت عام 2010، وتوصلت إلى عدم وجود أي علاقة بين أمراض القلب والدهون المشبعة، وقد نُشر عام 2014 بحث ببيانات من 76 دراسة أخرى وما مجموعه 643226 مشاركًا، ولم تجد أيضًا أي علاقة بن أمراض القلب وهذا النوع من الدهون، بالإضافة إلى استعراض مرجعي من مؤسسة كوكرين استخدم بيانات من عدد كبير من تجارب عشوائية منضبطة ونشر عام 2011، ولم يجد أي علاقة بين تقليل استهلاك الدهون المشبعة والوفاة وخصوصًا من أمراض القلب، إلا أنه أظهر أن استبدال الدهون المشبعة بغير المشبعة قلل خطر الإصابة بأمراض القلب (وليس الوفاة) بنسبة 14%.
ومع ذلك، لا يشير هذا إلى أن الدهون المشبعة سيئة، ولكنه يعني بأن بعض أنواع الدهون غير المشبعة (كأوميغا-3) تملك تأثيرًا يقي من الإصابة بأمراض القلب، بينما لا تملك الدّهون المشبعة أي تأثير سلبي أو إيجابي، وبذلك فإن أكبر وأفضل الدراسات التي أجريت على الدّهون المشبعة وأمراض القلب لا تظهر أي علاقة مباشرة بينهما، فيبدو أن كل ما عرفناه سابقًا كان مجرد خرافة، ولكن ولسوء الحظ ترفض الحكومات ومنظمات الصحة الكبرى تغيير رأيها حول الموضوع، وتستمر في ترويج تلك الاعتقادات السابقة.
هل تملك الأنظمة الغذائية منخفضة الدهون المشبعة أي فوائد صحية، أو تساعد في إطالة العمر؟
أجريت دراسات عديدة كبيرة وعلى نطاق واسع على النظام الغذائي منخفض الدهون، وهو النظام الغذائي الذي ينصح به من قبل وزارة الزراعة الأمريكية ومنظمات الصحة الكبرى حول العالم، بهدف تقليل استهلاك الدهون المشبعة والكوليسترول، ويتضمن هذا النظام زيادة استهلاك الفواكه والخضار والحبوب الكاملة، بالإضافة إلى استهلاك منخفض للسكر.
كانت الدراسة التي تضمنتها مبادرة الصحة النسائية عام 1991 أكبر دراسة في علم التغذية في التاريخ، إذ كانت من النوع العشوائي المنضبط بـ 46835 امرأة مشاركة وُجّهن لاتباع نظام غذائي منخفض الدهون، وكان الفرق في وزنهن بعد (7.5-8) سنوات هو 0.4 كغ فقط، ولم يكن هناك أي اختلاف أو تأثير على أمراض القلب والسرطان والوفاة.
وقد أقرت دراسات كبيرة أخرى ذلك، فلا يملك النظام الغذائي منخفض الدهون أي فوائد تذكر لأمراض القلب أو خطر الوفاة.
أظهرت عدة دراسات استبدلت الدهون المشبعة بزيوت نباتية متعددة اللا إشباع وفاة الأشخاص الذين كانوا من مجموعة الزيوت النباتية، ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ انتشار ظاهرة السمنة انتشارًا هائلًا بالتزامن مع صدور التوجيهات الغذائية بتخفيض استهلاك الدهون، كما أن من المثير للاهتمام أيضًا أنه في معظم الدراسات التي قارنت بين فوائد الأنظمة الغذائية قليلة الدهون والتي ينصح بها الخبراء، بفوائد الأنظمة الأخرى (كحمية باليو والحمية النباتية وحمية البحر الأبيض المتوسط والحمية قليلة الدهون)، تخسر تلك القليلة بالدهون مقابل الحميات الأخرى.
قد يرغب المصابون ببعض الحالات الصحية بتقليل استهلاكهم للدهون المشبعة
تستند نتائج معظم الدراسات على القيم المتوسطة، فتظهر أنه بالمتوسط لا تزيد الدهون المشبعة خطر الإصابة بأمراض القلب، ولكن هناك بعض الاختلافات الفردية البعيدة عن هذا المتوسط، فعلى الرغم من أن المعظم لم يشهد أي تأثير للدهون المشبعة، إلا أن بعضًا آخر شهد انخفاض خطر الإصابة بالأمراض، وشهد آخرون زيادة في ذلك الخطر، ومن ذلك يوجد بالتأكيد بعض الأشخاص الذين يرغبون بتقليل استهلاك الدهون المشبعة، بما فيهم الأشخاص المصابون باضطراب جيني يدعى بفطر كوليسترول الدم العائلي، بالإضافة إلى الأشخاص الذين يملكون جين (ApoE4)، ومن المؤكد أن علم الجينات مع مرور الوقت سيكتشف طرق تأثير النظام الغذائي على المخاطر الفردية للإصابة بالأمراض.
الدهون المشبعة ممتازة للطبخ، والأغذية الغنية بها تميل لتكون صحية ومغذية
تملك الدهون المشبعة بعض الجوانب المفيدة التي نادرًا ما تُذكر، فالدهون المشبعة على سبيل المثال ممتازة للطبخ، إذ تقاوم الضرر الناتج عن الحرارة لأنها لا تملك أي روابط ثنائية، بينما تتأكسد الدهون متعددة اللا إشباع بسهولة عند تعرضها للحرارة، ولذلك فإن زيت جوز الهند والزبدة وغيرها من الدهون المشبعة ممتازة للطبخ وخصوصًا ذلك الذي يعتمد على درجات الحرارة العالية، كما تميل الأطعمة الغنية بها وذات الجودة العالية وغير المصنعة، إلى كونها صحية ومغذية، كلحوم الحيوانات التي غُذيت بشكل طبيعي، ومنتجات حليب الأبقار المغذاة على العشب والشوكولاتة الداكنة وجوز الهند.
ما هي أنواع الدهون السيئة التي يجب تجنبها
يوجد عدة أنواع من الدهون، بعضها جيد لنا، وبعضها لا يملك أي تأثير، بينما يملك بعضها تأثيرًا ضارًا على الجسم، وتشير الأدلة إلى أن الدهون المشبعة والدهون أحادية اللا إشباع آمنة تمامًا وتميل لكونها صحية، ولكن الأمر أكثر تعقيدًا يكمن بالنسبة للدهون متعددة اللا إشباع، إذ يجب الحصول أحماض أوميغا-3 وأحماض أوميغا-6 الدهنية بتوازن معين، فمن المفيد زيادة تناول أوميغا-3 والتي تعتبر الأسماك الدهنية أهم مصادرها، إلا أن معظم الناس سيستفيدون من تقليل استهلاكهم لأوميغا-6 إذا كانوا قد أفرطوا في استهلاكه.
وأفضل طريقة لاتباع ذلك هو تجنب استهلاك زيوت بعض النباتات والبذور كزيت فول الصويا وزيت الذرة، والأطعمة المصنعة التي تحتوي عليهم، أما الدهون المتحولة فتصنع بتعريض الدهون متعددة الزيوت النباتية التي تحتوي على دهون متعددة اللا إشباع إلى عملية كيميائية تتضمن حرارة وغاز الهيدروجين ومسرع تفاعل معدني، وتشير الدراسات إلى أن الدهون المشبعة تتسبب بالإصابة بمقاومة الإنسولين، والالتهاب، وتراكم الدهون في منطقة البطن، وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب بشكل كبير.
ولذلك يجب تناول الدهون المشبعة وأحادية اللا إشباع والأوميغا-3، وتجنب الدهون المتحولة وزيوت النباتات المصنعة تمامًا.
من غير المعقول ربط الأطعمة القديمة بمشاكل صحية جديدة!
سخرت الجهات الصحية المختلفة كمية هائلة من المصادر لدراسة العلاقة بين الدهون المشبعة وأمراض القلب، فعلى الرغم من آلاف العلماء وعقود من العمل وملايين من الدولارات المصروفة، لم تُدعم هذه الفرضية بأي دليل جيد، فخرافة الدهون المشبعة لم تثبت في الماضي، وغير مثبتة في الوقت الحاضر، ولن تثبت في وقت لاحق لأنها ببساطة خاطئة، وبالإضافة إلى كونها تفتقر لأي إثبات علمي، فيمكن دحضها ببعض التفكير والفطرة السلمية، إذ كان البشر يأكلون الدهون المشبعة منذ مئات آلاف السنين، ولم تظهر أمراض القلب إلا قبل مئات السنين فقط، فمن غير المعقول ربط الأطعمة القديمة بالمشاكل الصحية الحديثة!
اقرأ أيضًا:
- هل تناول الدهون هو ما يجعلك سمينًا؟
- ما الفرق بين الدهون المشبعة و الدهون غير المشبعة ؟
- ما هي الليبيدات – الشحوم – الدهون ؟
- ما هي الدهون ؟ أنواع الدهون الحيوانية
- نوع من الدهون يوجد في جسم الإنسان ويساعد في إنقاص الوزن
ترجمة: ميس أبو شامة
تدقيق: ماجدة زيدان