أدمغتنا أعضاء معقدة ودقيقة تحتوي على ملايين الخلايا العصبية، لا يكتمل نموها حتى سن الخامسة والعشرين، قادرة على توليد ما يعادل 25 واطًا من الطاقة أي ما يكفي لإنارة مصباح كهربائي، تستمر بإتحاف العلماء بمعلومات جديدة حول كيفية عملها. لكن، ما الذي ندركه عن آلية عمل هذا العضو المذهل في أثناء النوم؟ هل تشكل أدمغتنا لغزًا كليًا؟ أم أننا مدركون لبعض المعلومات حولها؟

بدايةً، نعلم أن دماغنا عضو مهم، «فكل حيوان على وجه الأرض ينام، حتى ذبابة الفاكهة والديدان المستديرة وقناديل البحر، لذا لا ريب أن النوم يؤدي وظيفةً هامةً أدت إلى استمراره في المسيرة التطورية، وهذا جدير بالملاحظة خاصةً لما يحمله النوم من عواقب على الكائنات، فالحيوانات على سبيل المثال معرضة لخطر الافتراس في أثناء نومها، إضافةً إلى توقفها عن الإنتاج فهي لا تتغذى ولا تتكاثر عند النوم». هذا ما قاله البروفيسور المساعد ديفيد رايزن في قسم طب الأعصاب من جامعة بنسلفانيا.

وجد الباحثون أن البشر يقضون ثلث حياتهم نائمين أو يحاولون النوم، ما يعني أن شخصًا سيعيش لعمر السادسة والسبعين (متوسط عمر الفرد في الولايات المتحدة لعام 2021 وفقًا لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها) سيمضي غالبًا 25 عامًا من حياته نائمًا.

وفقًا لرايزن: «يضطرب أداء الإنسان لوظائفه» عندما لا ينام جيدًا في كثير من الأحيان، ويتضح هذا الاضطراب في قدرة الشخص على التفكير والأداء بفعالية عندما يتقطع نومه ولو لليلة واحدة.

يضيف رايزن: «نعتقد أن الدماغ هو العضو الرئيسي الذي يتأثر بالحرمان من النوم نظرًا لمعاناة الدماغ معظم الاضطرابات الناجمة عن هذا الحرمان، ما يوحي بأهمية النوم لأداء وظائف الدماغ بصورة صحية».

يصنف المعهد الوطني للاضطرابات العصبية والسكتات الدماغية NINDS النوم إلى نوعين رئيسيين: نوم حركات العين السريعة REM ونوم حركات العين غير السريعة nREM. يترافق كلاهما مع أنواع محددة من الموجات الكهربائية الدماغية والنشاطات العصبية. يحدث nREM عندما ننتقل من حالة اليقظة إلى النوم، ويتصف بتباطؤ أمواج الدماغ الكهربائية والحركات التنفسية، وتبدأ فيه عضلاتنا بالاسترخاء. يترافق REM مع نشاط كهربائي دماغي مشابه لنشاط الدماغ في اليقظة، ويشكل 20- 25% من مدة نوم الإنسان وفق الدراسات، وهي المرحلة التي تنشط فيها الأحلام التي تميل إلى الغرابة وتكون غير قابلة للتصديق، يرسل فيها المهاد (كتلة من المادة الرمادية تتوضع في منتصف الدماغ) صورًا وأصواتًا وأحاسيس أخرى تملأ الأحلام تبعًا لمعهد NINDS.

ينشط أيضًا خلال هذه المرحلة الأستيل كولين، وهو الناقل العصبي الذي ينشط أيضًا في أثناء الاستيقاظ ويساعد الدماغ على تجميع المعلومات وفقًا لمجلة Johns Hopkins Medicine، ومن المحتمل أنه يساعد على استذكار هذه المعلومات في أثناء النوم، ما يفسر دور النوم مباشرةً بعد الدراسة في مساعدتنا على استذكار المعلومات الأساسية في اليوم التالي.

يختبر الدماغ عند النوم نمطًا من الموجات الكهربائية تُعرف باسم الشوكات المغزلية التي ما زالت غير مفهومة جيدًا، لكنها تؤدي دورًا في عملية التعلم وتخزين الذكريات الجديدة، وقد تساهم أيضًا في المحافظة على النوم عندما يواجه الدماغ محفزات خارجية.

وجدت دراسة نُشرت في مجلة Science عام 2019 أن الدماغ ينظف نفسه أيضًا بمزيج من السائل الدماغي الشوكي والدم في أثناء النوم. قد يساعد فهم دورة التنظيف هذه في كشف معلومات عن الاضطرابات المرتبطة بالعمر، إضافةً إلى مجموعة متنوعة من الاضطرابات العصبية والنفسية التي تترافق بصورة متكررة مع أنماط النوم المضطربة متضمنةً التوحد ومرض ألزهايمر.

يبقينا الدماغ على قيد الحياة في اليقظة والمنام، لكنه -وفقًا لرايزن- يفضل أداء بعض وظائفه في أثناء النوم، «بما يتضمن إفراز هرمون النمو عند البشر، والتخلص من الفضلات الاستقلابية التي تتراكم خلال ساعات الاستيقاظ، وتغيير قوة الاتصالات بين خلاياه».

وجدت دراسة نُشرت عام 2017 في مجلة Nature Medicine أن الحرمان من النوم يعطل قدرة خلايا الدماغ على التواصل مع بعضها ما يؤدي إلى هفوات ذهنية مؤقتة تؤثر في الذاكرة والإدراك البصري. نوه كاتب هذه الدراسة آيزاك فريد، الأستاذ المقيم ومدير برنامج جراحة الصرع في جامعة كاليفورنيا، إلى أن «تجويع الجسم للنوم يسلب قدرة الخلايا العصبية على العمل بكفاءة». وهي نقطة يدعمها معهد NINDS الذي صرح بأن «النوم الجيد ضروري للبقاء حاله كحال الطعام والماء. بدونه، لا يمكننا تشكيل المسارات الدماغية التي تتيح لنا التعلم وتشكيل ذكريات جديدة والحفاظ عليها، وسيَصعب علينا التركيز والاستجابة بسرعة».

ما زال بعض الغموض يعتري طبيعة العلاقة بين قلة النوم وبعض الارتكاسات الصحية السلبية رغم وضوح الصلة بينهما، نذكر منها الداء السكري من النمط الثاني وأمراض القلب والأوعية الدموية والسمنة والاكتئاب، ومن غير الحكمة القفز إلى استنتاجات نهائية بناءً على البيانات المتوفرة حاليًا وفقًا لرايزن.

لوحظ ارتباط العديد من المشكلات الصحية مع قلة النوم، لكن من الصعب الجزم بمسؤولية قلة النوم عن هذه المشكلات، فالخرف المبكر جدًا على سبيل المثال هو المسؤول عن قلة النوم وليس العكس. لكن النوم يتباين بشدة ويتباين تأثيره الصحي اعتمادًا على الظروف، لذا ما زالت الكثير من الأسئلة حول النوم وعلاقته بالدماغ مفتقدةً للأجوبة في ظل اكتشاف العديد من الدراسات أهمية دور النوم في الحفاظ على الصحة وجودة وظيفة الدماغ.

يختم رايزن بقوله: «بعيدًا عن المسألة الرئيسية المتمثلة بسبب نومنا يوجد العديد من الألغاز حول آلية نومنا: ما المراكز الدماغية المرتبطة ببدء عملية النوم والحفاظ عليها وانتهائها؟ ما المواد الكيميائية الدماغية المرتبطة بهذه العملية؟ كيف ينتقل الدماغ من مرحلة REM إلى nREM؟» والسبيل الوحيد لحل هذه الألغاز هو إجراء المزيد من الأبحاث.

اقرأ أيضًا:

كيف يمكن إعادة ضبط الساعة البيولوجية وتوقيت النوم؟

ما عدد ساعات النوم الأمثل للشباب وكبار السن؟

ترجمة: رضوان أحمد مرعي

تدقيق: حسام التهامي

مراجعة: نغم رابي

المصدر