ثلاث تجارب فحصت الداروينية الكمية، وهي نظرية تشرح كيف للاحتمالات الكمية أن تنتج واقعًا موضوعيًا كلاسيكيًا. ليس مفاجئًا أن تشتهر الفيزياء الكمية بالغرابة والتناقض، فالعالم الذي نعيش فيه حقًا لا يبدو ميكانيكي الكم. وحتى القرن العشرين، اعتقد الكل أن قوانين الفيزياء الكلاسيكية التي ابتكرها إسحاق نيوتن وغيره، والتي تبعًا لها يُحدد للأغراض مواقع وخواص تعمل في كل المقاييس. لكن ماكس بلانك Max Plank وألبرت أينشتاين Albert Einstein ونيلز بور Niels Bohr ونظرائهم من العلماء اكتشفوا أنه بين الذرات والجزيئات تحت الذرية، تتحول هذه القوانين من أشياء محددة إلى حساء من الاحتمالات. مثلًا: لا يمكن أن نعطي موقعًا محددًا لأي ذرة، بل يمكننا فقط حساب احتمالات وجودها في أماكن متعددة.
هنا يصبح السؤال المُلح: كيف يمكن للاحتمالات الكمية الاندماج مع نظرة العالم الكلاسيكي المحددة؟
يتكلم علماء الفيزياء عن هذا التغيير أحيانًا باعتباره «تحولًا كميًا كلاسيكيًاQuantum-Classical Transition» لكن في الحقيقة، ليس هنالك أي سبب للاعتقاد أن كل ما هو كبير له قواعد مختلفة أساسيًا عن ما هو صغير، أو أن هناك تحولًا مفاجئًا بينهما. خلال العقود الماضية، حقق الباحثون فهمًا أكبر لكيفية تحول الفيزياء الكمية الحتمي إلى فيزياء كلاسيكية من خلال تفاعلها مع جزيء ما أو مع نظام ميكروسكوبي وبيئتها المحيطة.
إحدى الأفكار اللافتة في هذا الإطار النظري أن الخواص المحددة للأشياء، والتي نربطها بالفيزياء الكلاسيكية؛ السرعة والموقع مثلًا، تُختار من لائحة من الاحتمالات الكمية خلال عملية تشبه إلى حد ما الانتقاء الطبيعي في التطور؛ الخواص التي تنجو هي «الأصلح» إلى حد ما. مثل الانتقاء الطبيعي، الناجون هم الأكثر استنساخًا لأنفسهم. هذا يعني أن العديد من المراقبين، يستطيعون أخذ قياسات للنظام الكمي ثم الاتفاق على النتيجة، هذه سمة مميزة للسلوك الكلاسيكي.
تشرح هذه الفكرة المسماة الداروينية الكميةQuantum Darwinism (QD) ، الكثير عن أسباب رؤيتنا لهذا العالم كما نراه نحن لا كما هو متجسد بطريقته الخاصة على مقياس الذرات والجزيئات الأساسية. رغم أن بعض أجزاء هذا اللغز تبقى غير محلولة، تساعد الداروينية الكمية على معالجة الانقسام الواضح بين الفيزياء الكمية والكلاسيكية.
فقط مؤخرًا، وعلى أية حال، وُضعت الداروينية الكمية تحت الاختبار. ثلاث مجموعات بحث تعمل كل منها بشكل مستقل في إيطاليا والصين وألمانيا. بحثوا عن الدليل المؤكد لعملية الانتقاء الطبيعي التي من خلالها تُطبع معلومات النظام الكمي بشكل متكرر على بيئات مختلفة مُتحكم بها.
هذه الاختبارات بدائية، والخبراء يقولون: ما زال لدينا الكثير من العمل حتى نتأكد أن الداروينية الكمية توفر الصورة الصحيحة عن كيفية تلخيص واقعنا الثابت من عدة احتمالات توفرها ميكانيكا الكم. تعمل النظرية حتى الآن بشكل صحيح.
البقاء للأقوى
الفكرة المراوغة في قلب الداروينية الكمية هي القياس – المراقبة – بينما في الفيزياء الكلاسيكية، ما تراه هو ببساطة ماهية الأشياء. أنت ترى كرة مضرب تسافر بسرعة 200 كيلومتر في الساعة لأن هذه هي سرعتها. ماذا يوجد أكثر من ذلك؟
في فيزياء الكم، لم يعد هذا الكلام مجديًا. لا يغدو واضحًا ما تقوله العمليات الرياضية الأساسية لميكانيكا الكم عن ماهية الأشياء في غرض كمي، إذ تعتبر مجرد وصفة تخبرنا ما قد نراه إذا قنا بعملية القياس. مثلًا: كيفية أخذ جزيء كمي مجالًا من الحالات المُحتملة أو ما يعرف بالتراكب (Super position).
هذا لا يعني حقًا تواجده في عدة حالات في آن واحد، بل بالأحرى أنه في حال أخذنا قياسًا سنرى إحدى هذه الحالات. قبل القياس؛ تتداخل الحالات المتراكبة مع بعضها بما يشبه الأمواج، منتجة حالات محتملة بشكل أكبر وأخرى بشكل أصغر.
لكن لماذا لا يمكننا رؤية التراكب الكمي؟ لماذا لا يمكن لكل احتمالات حالات الجزيء أن تنجو إلى المقياس البشري؟
نحصل على الجواب الذي هو غالبًا أن حالات التراكب تكون هشة، وسهلة الاضطراب حينما يُزعَج النظام الكمي الدقيق ببيئته المضجة، لكن هذا ليس صحيحًا بالكامل، فعندما ننظر إلى غرضين كميين يتفاعلان مع بعضهما نرى أنهما يترابطان ببعضهما البعض. فيدخلان حالة كمية مشتركة تعتمد فيها احتمالات خصائصهما على بعضها البعض. لنأخذ ذرة كمثال، وندخلها في حالة تراكب من حالتين محتملتين للخاصية الكمية المسماة الدوران(Spin) : «للأعلى up» و«للأسفل down».
الآن، لنطلق الذرة إلى الهواء لتتصادم مع جزيئات الهواء وتصبح مترابطة معها. الآن الذرة وجزيء الهواء في حالة واحدة من التراكب. إذا كانت الذرة لها دوران للأعلى فإن جزيء الهواء قد يُدفع بعيدًا عنها في اتجاه محدد، وإذا كان دوران الذرة للأسفل فقد يُدفع جزيء الهواء بعيدًا عنها في اتجاه مختلف. وهذان احتمالان يتواجدان في نفس الوقت. عندما تختبر الجزيئات اصطدامات مع جزيئات الهواء الأخرى ينتشر الترابط معها أيضًا، وينتشر التراكب الخاص بالذرة أكثر فأكثر.
ولا تتداخل حالات الذرة المتراكبة بين بعضها البعض بشكل متماسك مثل ذي قبل لأنها الآن مترابطة مع حالات أخرى في البيئة المحيطة، قد يكون من ضمنها آلة كبيرة للقياس مثلًا. بالنسبة لآلة القياس تلك، يبدو وكأن تراكب الذرة قد اختفى واستُبدل بلائحة من النتائج الكلاسيكية الممكنة والتي لا تتدخل بين بعضها البعض.
هذه العملية التي تتلاشى بها خاصية الكم (Quantumness) في البيئة تسمى عدم التماسك (Decoherence) . إذ إنها جزء مهم من التحول الكمي الكلاسيكي، الذي يشرح أسباب صعوبة رؤية السلوك الكمي في الأنظمة الكبيرة المحتوية على كثير من التفاعلات الجزيئية.
إن العملية تحدث بشكل سريع جدًا. إذا وُضِعت حبة غبار طبيعية في حالة تراكب كمي في مكانين جغرافيين مختلفين تفصلهما مسافة مساوية تقريبًا لقياس حبة الغبار، ستسبب التصادمات مع جزيئات الهواء عدم التماسك الكمي.
جاعلة التراكب الكمي غير قابل للكشف خلال ما يعادل 10-31 جزء من الثانية. حتى في العدم، قد تسبب فوتونات الضوء نفسها عدم التماسك الكمي بشكل سريع جدًا؛ إذ لن تستطيع النظر إلى حبة الغبار دون تدمير حالتها التراكبية.
بشكل مفاجئ، وعلى الرغم من كون عدم التماسك الكمي نتيجة واضحة لميكانيكا الكم، إذ حُدد فقط منذ عام 1970 من قبل الفيزيائي الألماني هاينز ديتر تسيه Heinz-Dieter Zeh. وطور هذه الفكرة العالم الفيزيائي الأمريكي البولندي زوريك Wojciech Zurek في بداية الثمانينيات 1980 وجعلها معروفة بشكل أفضل، والآن يوجد دليل تجريبي جيد لدعمها.
لكن لشرح ظهور الواقع الكلاسيكي الموضوعي، لا يكفي فقط القول إن عدم التماسك الكمي يزيل السلوك الكمي جاعلًا له مظهرًا كلاسيكيًا لأي مراقب. بشكل ما، من الممكن لعدة مراقبين أن يتفقوا على صفقات الأنظمة الكمية. يجادل زوريك؛ وهو يعمل في المختبر الوطني لوس ألموس في نيو مكسيكو Los Almos: إنه لا بد من صحة شيئين إذن.
أولًا: لابد من احتواء الأنظمة الكمية على حالات قوية وخاصة تواجه عدم التماسك الكمي المخرب الناتج عن البيئة. زوريك يدعو هذه الحالات «حالات موجهة Pointer states»، إذ يمكن تخزينها في الحالات المحتملة لمُوَّجه على قرص ينتمي لآلة قياس.
يمكن تسجيل موقع محدد لجزيء ما، على سبيل المثال، أو سرعته، أو قيمة دورانه الكمي، أو اتجاه استقطابه، على آلة قياس كموقع لأحد الموجهات الموجودة على هذه الآلة.يُصر زوريك على أن التصرف الكلاسيكي، ووجود صفات محددة ثابتة وموضوعية ممكن فقط بسبب وجود الحالات الموجهة للأشياء الكمية.
إن الشيء المميز حسابيًا حول الحالات الموجهة هو أنه لا تشتتها التفاعلات مع البيئة المحفزة لعدم التماسك: فإما أن تُحفظ الحالة الموجهة، أو تُغير إلى حالة تبدو مطابقة لها تقريبًا. هذا يعني أن البيئة لا تسحق الكمية بشكل عشوائي ولكنها تختار إبقاء بعض الحالات بينما تسحق أخرى.
مثلًا: يقاوم موقع الجزيء عدم التماسك، ولكن تراكب عدة مواقع مختلفة لا يكون حالات موجهة، إذ تفتتها التفاعلات مع البيئة إلى حالات موجهة محلية كي تكون قابلة للمراقبة. زوريك وصف هذا «الانتقاء التراكبي المنتج من البيئة Environment-induced Superselection» للحالات الموجهة عام 1980.
يظل لدى الخاصية الكمية شرط ثانٍ لتحقيقه كي تُراقَب. رغم أن المناعة ضد التفاعل مع البيئة تؤمن ثبات الحالة الموجهة، ما يزال علينا التوصل للمعلومات حولها بطريقة ما. والطريقة الوحيدة لتحقيق هذا هو إذا طُبعت المعلومات في بيئة الشيء الذي نحاول دراسته.
عند النظر إلى شيء ما مثلًا: إن المعلومات تصل إلى شبكية عينك من خلال تشتت الفوتونات عليها؛ فتحمل هذه الفوتونات إليك معلومات بشكل نسخة جزئية لبعض نواحي هذا الشيء، قائلة شيئًا عن موقعه، ولونه وشكله. إذا اتفق الكثير من المراقبين على الحصول على قيمة ما فإنهم سيحتاجون الكثير من هذه النسخ المطابقة، وهذه العلامة المميزة للفيزياء الكلاسيكية.
وهكذا، كما ناقش زوريك في العام 2000: إن قدرتنا على مراقبة بعض الخواص لا تعتمد على أنها اختيرت كحالات موجهة فحسب، بل أيضًا على حجم الأثر الذي تُخلفه في البيئة. إن الحالات المنتجة لمعدل النسخ الأكبر في بيئتها، أو بإمكاننا القول «الأصلح»، هي الحالات الوحيدة التي يمكن قياسها، وهذا سبب تسمية زوريك هذه الفكرة باسم «الداروينية الكمية».
يظهر أن خاصية التماسك التي تحفز الاختيار الانتقائي للحالات الموجهة الذي تقوم به البيئة، تحفز أيضًا على المرونة الداروينية. يقول زوريك: «البيئة، من خلال جهودها في المراقبة تفك ترابط الأنظمة، والعملية نفسها المسؤولة عن فك الترابط يجدر بها أن تطبع عدة نسخ من المعلومات في البيئة».
تحميل زائد للمعلومات
لا يهم بالطبع، إذا قُرئت المعلومات المطبوعة في البيئة حول نظام كمي ما من قبل مراقب بشريٍ. كل ما يهم من أجل ظهور السلوك الكلاسيكي هو أن تصل المعلومات هناك قابلة للقراءة مبدئيًا.
يقول جيس ريدل Jess Riedel عالم فيزياء في معهد الفيزياء النظرية في واترلو بكنداPerimeter Institute for Theoretical Phzsics in Waterloo، وهو أيضًا مؤيد لنظرية الداروينية الكمية: «أي نظام كمي لا يجب بالضرورة أن يكون تحت الدراسة رسميًا، ليصبح كلاسيكيًا، فالداروينية الكمية تشرح بشكل مزعوم، أو تساعد على شرح كل الكلاسيكية، بما يتضمن ما تشرحه أشياء ميكروسكوبية يومية غير موجودة في مخبر، أو وجدت قبل البشر».
قبل عقدٍ تقريبًا، وعندما كان ريدل يعمل كطالب متخرج مع زوريك، أظهر الاثنان نظريًا أن المعلومات حول نظامٍ كمي مثالي بسيط «تُنسخ بغزارة إلى البيئة»، يقول ريدل: «إنه من الضروري الوصول لعيِّنة صغيرة من البيئة لاستنباط قيم المتغيرات»، إذ حسبا أن حبة غبار بعرض 1 ميكرو متر بعد تعرضها لأشعة الشمس خلال 1 ميكرو ثانية، ستنسخ موقعها 100 مليون مرة في الفوتونات المتناثرة.
توجد الخواص الكلاسيكية الموضوعية بسبب هذه الوفرة. بإمكان 10 مراقبين قياس موقع حبة الغبار ليجدوا أنها في نفس الموقع، لأن كل واحد منهم يمكنه الوصول إلى نسخة فريدة من نوعها من المعلومات. من هذا المنظور، يمكننا أن نعين «موقع» حبة الغبار لا بسبب أن «لها موقعًا»، ولكن لأن حالة موقعها تكون قابلة لأن تنسخ العديد من تطابقاتها في البيئة، فيُجمع على النتيجة مراقبون مختلفون.
«تشرح الداروينية الكمية بشكل مزعوم، أو تساعد على شرح كل الكلاسيكية، من ضمنها أشياء ميكروسكوبية يومية غير موجودة في المخبر، أو قد وُجِدَت قبل البشر»
جيس ريدل
وأكثر من ذلك، ليس من الضروري مراقبة البيئة أكثر لجمع معظم المعلومات المتوفرة، ولن يُكسب الكثير من خلال مراقبة أكثر من جزء من البيئة. يقول ريدل: «إن المعلومات التي بالإمكان جمعها تتشبع بسرعة».
يشرح ماورو باتيرنوسترو Mauro Paternostrol عالم فيزياء في جامعة كوين في بيلفاست Queens University Belfast والذي كان مشاركًا في إحدى التجارب الثلاث الجديدة: «هذه الوفرة هي الخاصية المميزة للداروينية الكمية». وقال ماورو:«إنها خاصية تُميز التحول إلى الكلاسيكية».
تتحدى الداروينية الكمية الخرافات حول ميكانيكا الكم؛ نقلًا عن الفيزيائي Adán Cabello من جامعة سيفيل في إسبانيا University of Seville. أي أن التحول بين عالمي الكم والكلاسيك غير مفهوم وأن نتائج القياس لا يمكن أن تصفها النظرية الكمية. بالعكس، يقول كابييو: «تصف النظرية الكمية بشكل مثالي ظهور العالم الكلاسيكي».
لكن مقدار مثالية هذا الوصف ما يزال موضع جدل. يعتقد بعض الباحثون أن عدم التماسك والداروينية الكمية يوفران تقريرًا كاملًا عن التحول الكلاسيكي الكمي. لكن بالرغم من محاولة بعض هذه الأفكار شرح أسباب اختفاء التراكب الكمي في المقاييس الكبيرة وأسباب بقاء الصفات «الكلاسيكية» فقط، لا يزال هنالك سؤال حول سبب إعطاء القياسات نتائج فريدة من نوعها. عندما يُختار موقع محدد لجزيء ما، ما الذي يحدث للاحتمالات الأخرى الكامنة في الوصف الكمي؟ هل كانت حتى حقيقية بأي معنى؟
أُجبر الباحثون على تبني التفسيرات الفلسفية لميكانيكا الكم لأنه لا يمكن لأحد أن يجد طريقة للجواب على هذا السؤال تجريبيًا.
في المختبر
تبدو الداروينية الكمية مقنعة تمامًا على الورق. لكن حتى مؤخرًا، كان هذا أبعد ما وصلت إليه. وضعت ثلاث فرق من الباحثين في السنة الماضية النظرية تحت الاختبار بشكل مستقل، من خلال النظر إلى ميزتها الأساسية: كيف يطبع النظام الكمي نسخًا ذاتية على بيئته؟.
استندت التجارب إلى القدرة على مراقبة ماهية المعلومات التي ينقلها النظام الكمي إلى بيئته عن كثب، لكن هذا القول ليس ملائمًا مثلًا لحبة غبار تطفو بين بلايين غير معدودة من جزيئات الهواء. لذلك اخترع فريقان جسيمًا كميًا في ما يشبه «البيئة الاصطناعية» بوجود جزيئات معدودة فيها فقط.
أجرى إحدى التجربتين باتيرنوسترو و شركائه في جامعة روما Sapienza، وأُجريت الأخرى من قبل الخبير الكمي شيان واي بان Jian-Wei Pan، و شركائه في جامعة للعلوم والتكنولوجيا. استخدمت التجربتان فوتونًا وحيدًا كنظام كمي، مع حفنة فوتونات أخرى تعمل كبيئة تتفاعل مع هذا الفوتون وتبث معلومات عنه.
أطلق كلا الفريقين فوتونات ليزرية خلال أجهزة بصرية مهمتها جمعهم إلى مجموعات مترابطة بشكل متعدد، ثم حللوا بعدها فوتونات البيئة ليروا المعلومات التي خزنتها عن الحالة الموجهة لفوتونات النظام. تُعرف هذه الحالة بالاستقطاب؛ والاستقطاب هو مسار اتجاه الحقول الكهرومغناطيسية المتذبذبة، وهو أحد الخواص الكمية المارة من خلال فلتر الانتقاء الدارويني الكمي.
إن التوقع الأساسي لنظرية الداروينية الكمية هو تأثير التشبع. يمكن جمع كل المعلومات المتوفرة عن نظام كمي ما من خلال مراقبة بعض جزيئاته المحيطة، إذ يقول بان: «أي كسر صغير من البيئة المتفاعلة يكفي لتوفير أكبر حد من المعلومات الكلاسيكية حول النظام المرصود».
وجد الفريقان ذلك تحديدًا؛ فقياس فوتون واحد فقط من فوتونات البيئة قد أظهر الكثير من المعلومات المتوفرة حول استقطاب فوتونات النظام، وقياس المزيد من فوتونات البيئة قد وفر نتائج أقل وأقل. حتى فوتون واحد يمكن أن يعمل كبيئة توفر عدم التماسك والانتقاء، يشرح بان: «إذا كان هذا الفوتون يتفاعل بقوة كافية مع فوتون النظام الوحيد، فإن ضعفت التفاعلات، وَجب مراقبة بيئة أكبر.
استخدم الاختبار التجريبي الثالث للداروينية الكمية، الذي قاده الفيزيائي الكمي البصري فيدور يليسكو Fedor Jelezko في جامعة أولم Ulm في ألمانيا بالتعاون مع زوريك وآخرين، نظامًا وبيئة مختلفين جدًا، مؤلفين من ذرة هيدروجين مستبدلة بذرة كربون في البنية الكريستالية لألماسة -ما يدعى عيب فراغية النيتروجين- لأن ذرة النيتروجين تحتوي على إلكترون واحد أكثر من ذرة الكربون، هذا الإلكترون الزائد لا يمكنه الترابط مع إلكترونات ذرة الكربون المجاورة لتشكيل روابط كيميائية. نتيجة لذلك، يدور إلكترون ذرة النيتروجين الحر الوحيد كسهم موجه لأعلى أو لأسفل، أو بشكل عام، في حالة تراكب كمية من كلا الاتجاهين المحتملين.
يمكن لهذا الدوران أن يتفاعل مغناطيسيًا مع دوران 0,3% تقريبًا من نوى الكربون الموجودة في الألماسة بما أن نظير الكربون 13 يتواجد بوفرة أقل، بعكس نظير الكربون 12 الأكثر توافرًا، ولديه أيضًا متوسط دوران. إن كل دوران فراغية نيتروجين (Nitrogen vacancy spin) يقترن مع أربع دورانات لذرة الكربون 13 بمسافة حوالي 1 نانومتر.
من خلال التحكم بالدورانات ومراقبتها باستخدام الليزر وذبذبات موجات الراديو، استطاع الباحثون قياس كيفية تسجيل التغير في دوران النيتروجين من خلال التغييرات في الدورانات النووية للبيئة. كما أوردوا في طبعة مسبقة أيلول الماضي، هم أيضًا رصدوا الوفرة المميزة المتوقعة من قبل الداروينية الكمية، وسُجلت حالة دوران النيتروجين كعدة نسخ في محيطها، وتتشبع المعلومات عن الدوران بسرعة أكبر كلما أُخذت البيئة بعين الاعتبار أكثر.
يقول زوريك: لأن تجارب الفوتون خلقت بطريقة اصطناعية نسخًا تحاكي بيئة حقيقية، هم لا يدمجون عملية انتقاء تنتقي الحالات الموجهة «الطبيعية» المقاومة لعدم التماسك. بل بالأحرى، يفرض الباحثون هم بذاتهم الحالات الموجهة. في المقابل، بيئة الألماسة تحفز حالات موجهة، «خطة الألماسة لها أيضًا مشاكلها بسبب حجم البيئة»، وأضاف زوريك؛ «لكنها -على الأقل- طبيعية».
تعميم الداروينية الكمية
حتى الآن كل شيء يسير على ما يرام بالنسبة للداروينية الكمية. «كل هذه الدراسات ترى ما توقعت، على الأقل تقريبيًا»، على حد قول زوريك.
يقول ريدل: يصعب علينا توقع غير ذلك، فبرأيه؛ الداروينية الكمية هي مجرد تطبيق حذر ومنهجي لميكانيكا الكم العادية في تفاعل نظام كمي مع بيئته. مع أنه عمليًا من المستحيل تحقيق هذا، لكن إذا كان بالإمكان تبسيط عملية القياس، ستكون التوقعات واضحة، وأردف قائلًا: «الداروينية الكمية هي بمثابة فحص تحقق داخلي للتناسق الذاتي لنظرية الكم نفسها».
لكن على الرغم من تناسق هذه الدراسات مع الداروينية الكمية، لا يمكن أخذها كدليل على أنها الوصف الوحيد لظهور الكلاسيكية -حتى إذا كانت صحيحة كليًا- لسبب واحد كما يقول كابييو: إن التجارب الثلاث توفر فقط نسخًا تخطيطية لما قد تتكون منه بيئة حقيقية. الأكثر من ذلك هو أن لا تستبعد التجارب بشكل واضح طرقًا أخرى لرؤية ظهور الكلاسيكية.
مثلًا: إن نظرية «بث الطيفSpectrum Broadcasting»، طورها بافيل هوروديكي Pawel Horodecki في جامعة جدانسك Gdańsk للتكنولوجيا في بولندا، تسعى نحو تعميم الداروينية الكمية. تُعرِّف نظرية بث الطيف -التي عملت فقط ببضع حالات مثالية- حالات نظام كمي مترابط مع بيئة توفر معلومات موضوعية يمكن للكثير من المراقبين الحصول عليها من غير إثارة اضطرابها.
بتعبير آخر، لا تسعى إلى تأكيد حصول مراقبين مختلفين على نسخ من النظام في البيئة فحسب، بل أيضًا خلال حصولهم على هذه النسخ، وعدم تأثيرهم على النسخ الأخرى. هذه أيضًا صفة مميزة للقياسات «الكلاسيكية» الحقيقية.
سعى هوروديكي وعلماء نظريون آخرون إلى زرع الداروينية الكمية في نطاق عمل نظري لا يتطلب التقسيم العشوائي للعالم إلى أنظمة وبيئاتها، بل يأخذ بعين الاعتبار كيفية نشوء واقع كلاسيكي من بين تفاعلات مختلف الأنظمة الكمية. يقول باتيرنوسترو إنه قد يكون من التحدي إيجاد طرائق تجريبية قادرة على تعريف التمييزات الرقيقة بين توقعات هذه النظريات.
مع ذلك، يحاول الباحثون، والمحاولة بذاتها عليها أن تحسن قدرتنا على استكشاف آلية عمل المملكة الكمية. قال ريدل: «أفضل حجة للقيام بهذه التجارب هو أنه من المحتمل أنها تمرين جيد». قد يتطلب توضيح الداروينية الكمية بشكل مباشر قياسات صعبة جدًا والتي ستدفع بحواجز تقنيات المخابر الموجودة اليوم، إذ يبدو أن الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها معرفة ما هي حقًا عملية القياس هو القيام بعمل قياسات أفضل.
اقرأ أيضًا:
هذه النظرية الكمية تتوقع أنه قد يكون للمستقبل تأثيرًا على الماضي!
الكيمياء الكمية تجيب أخيرًا عن سبب وجود عدد كبير من الأحماض الأمينية لنشأة الحياة.
ترجمة: بوغوص حنا يوسيف
تدقيق: محمد نجيب العباسي
مراجعة: اسماعيل اليازجي