لو زرت يومًا القطب الجنوبي، أو حتى رأيت صورًا لهذه المنطقة وجبالها الجليدية العائمة فوق المحيطات فقد تتسائل عن سبب طفو هذه الكتل الضخمة من الجليد فوق سطح الماء. من منّا لم يشاهد فلم التايتنك ومشهد ذلك الجبل الجليدي الذي اصطدمت به السفينة العملاقة الذي كان سببًا مأساويًا للقاء مصرع المئات من الناس حينها. فلماذا يطفو مثل هذا الجبل الجليدي في منتصف المحيط ولم لا يغوص عميقًا في قاع المحيط؟
سبب طفو الجليد فوق الماء وعدم غوصه إلى القاع يعود إلى الفرق بين كثافة الجليد وتركيبه الجزيئي مقارنة مع كثافة الماء وتركيبه الجزيئي أيضًا. على رغم من أن الجبل الجليدي كان سببًا بغرق المئات عند دمار سفينة التايتنك، لكن لا يمكن أبدًا إنكار فوائد الجليد العائم على كوكبنا هذا.
أكد البروفسور في الجيوفيزياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، برانت مينشو، على أهمية الجليد العائم، وقال: «يعد الجليد العائم حقيقةً أساسية في العالم، وبكل تأكيد يُعدّ من الصعب جدًا تخيّل هذا العالم من دون الجليد العائم الذي تساعده كثافته على عدم الغرق والاستقرار في قاع المحيطات».
إن المتعارف عليه في الأوساط العلمية، أن معظم المواد تصبح أكثر كثافة في الحالة الصلبة، لكن حالة الماء هي من الاستثناءات. وكما نعلم أن كثافة الجليد تختلف عن كثافة الماء السائل. إذ إن كثافة الجليد أقل من كثافة الماء السائل وهذا ما يساعده على البقاء عائمًا على سطح الماء.
صرحت كلير باركنسون، عالمة المناخ السابقة في مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا، لمجلة لايف ساينس أن الماء مادة غير عاديّة. ولكن لنفهم تصريح باركنسون يجب علينا التعرّف على الماء وتركيبه الجزيئي والتغيرات الكيميائية التي تحصل عند تحوله من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة.
يتكون جزيء الماء (H2O) من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين واحدة، وتتشارك ذرات الهيدروجين والأكسجين أزواج الإلكترونات وتشكل بدورها روابط تساهمية. تنجذب الشحنة الموجبة لذرة الهيدروجين إلى الشحنة السالبة لذرة الأكسجين التابعة لجزيء ماء آخر مشكلًا هذا التجاذب رابطة بين هذه الجزيئات تعرف باسم الرابطة الهيدروجينية. عندما يتجمد الماء، تشكّل هذه الروابط الهيدروجينية شبكةً بلّوريةً.
قال البرفيسور برانت مينشو لـمجلة لايف ساينس: «إن معظم الجليد على سطح الأرض يشكل بلورات سداسية متكررة، فهناك الكثير من الفراغات داخل هذه البنية الشبكية التي تمتلئ بالهواء، ما يؤدي إلى انخفاض كثافة الجليد».
تعد هذه التغيرات الكيميائية والروابط المتشكلة هي سبب طفو الجبال الجليدية على المحيط. ووفقًا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، تترواح سماكة الجبال الجليدية بين 30 و50 مترًا تقريبًا، ومع أن هذه السماكة يرافقها وزن كبير فإن ذلك لا يشكل عائقًا لعملية طوف الجليد فوق الماء.
الجدير بالذكر، إن عوم الجليد فوق المحيطات يعد أمرًا جيدًا للغاية، لأن الجليد العائم يتيح ازدهار الحياة تحت السطح المتجمد للبحيرات والمحيطات. فمجرد تخيّل غرق الجليد يكون مشكلةً كبيرة للحياة البحرية والمائية عمومًا.
وفقًا لمرصد الأرض التابع لوكالة ناسا، يعد الجليد البحري الذي يطفو على سطح المحيطات مهمًا للغاية لدوران المحيطات. فعندما يتجمد الجليد البحري، يدفع الملح بعيدًا وهذا ما يجعل المياه تحت الجبال الجليدية شديدة الملوحة والكثافة. تعد هذه المياه تحت الجبال الجليدية بموصفاتها المالحة والكثيفة مهمة للغاية، إذ تغوص إلى قاع المحيط وتدفع المياه العميقة للسطح وهذا ما يساعد على تدوير مياه المحيطات في جميع أنحاء العالم.
لطفو الجليد آثار عميقة على بعض النقاط الحرجة المتعلقة بتغير المناخ، فالغطاء الجليدي في غرب أنتاركتيكا هو امتداد للجليد الذي يربط الأرض وهو أكبر مساهم في القارة القطبية الجنوبية في ارتفاع مستوى سطح البحر.
وتتوقع دراسة نشرت في عام 2023 في مجلة Nature Climate Change أن الجروف الجليدية العائمة التي تشكل الغطاء الجليدي في غرب القارة القطبية الجنوبية سوف تتناقص بسرعة على مدى القرن المقبل بسبب ارتفاع درجات حرارة المحيطات التي تسبب ذوبان أسفل الجروف الجليدية العائمة.
اقرأ أيضًا:
رصد الكيمياء الكمومية الفائقة لأول مرة على الإطلاق
ترجمة: يزن دريوس
تدقيق: زين حيدر
