لم تكن الحرب العالمية الأولى مجرد صراع بين الدول، بل كانت حربًا بين إمبراطوريات عدة. كان لدى إمبراطوريات أوروبا الغربية مثل بريطانيا العظمى وفرنسا مستعمرات خارجية في جميع أنحاء العالم، في حين حكمت إمبراطوريات أوروبا الشرقية مثل النمسا والمجر وروسيا أراضي أوروبا وشمال آسيا المتصلة برًا.
كان اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في 28 يوليو 1914 بحد ذاته جريمةً مناهضةً للتوسعية، خطط لها أعضاء جماعة «البوسنة الشابة» الغاضبين من ضم البوسنة والهرسك إلى إمبراطورية النمسا-المجر.
مهدت المنافسة الأوروبية على الأراضي الطريق للمنافسات التي نشبت خلال الحرب العالمية الأولى، وكان للحرب تأثير كبير في توازن القوى التوسعية.
انهارت الإمبراطوريات الروسية والألمانية والنمساوية-المجرية والعثمانية خلال الحرب أو بعد فترة وجيزة، وانتهت الحرب بمعاهدة تخلت بها ألمانيا عن مستعمراتها للمنتصرين.
التكالب على إفريقيا:
بحلول بداية الحرب العالمية الأولى، كانت أكثر أراضي القارة الإفريقية بشكل أو بآخر تحت الحكم الاستعماري للقوى الأوروبية الكبرى، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال. وقعت معظم أعمال الاستعمار بعد عام 1880، في فترة تُعرف بـالتكالب الأوروبي على إفريقيا، أو السباق إلى إفريقيا، إذ تنافست الإمبراطوريات الأوروبية فيما بينها للسيطرة على الأراضي الإفريقية.
في القرون التي سبقت التدافع الأوروبي نحو إفريقيا، غزت القوى الأوروبية بعض الدول الساحلية في إفريقيا للسيطرة على السكان واستعبادهم، لكنها لم تستطع غزو مناطق أعمق في تلك البلدان بسبب الصعوبات الملاحية وخطر الإصابة بأمراض مثل الملاريا. بعد إلغاء العبودية قانونيًا، سمحت التقنيات الجديدة مثل القوارب البخارية ودواء الكينين للأوروبيين بغزو المزيد من أراضي القارة.
اعتبرت الإمبراطوريات الأوروبية المتغلغلة في إفريقيا أن الاستعمار وسيلة للاستغلال الاقتصادي واستخراج الموارد وتعزيز نفوذها وقوتها بين الإمبراطوريات الأوروبية الأخرى. ومع أن الاستعمار في إفريقيا لم يكن سببًا مباشرًا للحرب العالمية الأولى، فقد ساعد على خلق بيئة تنافسية في أوروبا، إذ رأت الإمبراطوريات الأوروبية بعضها أندادًا لا يمكن لأحد منهم التفوق إلا على حساب الإمبراطوريات الأخرى. وتجسد ذلك في التنافس بين فرنسا وألمانيا، الخصمان الرئيسيان في الحرب العالمية الأولى.
يقول ربتشارد فوغارتي، أستاذ التاريخ في جامعة ألباني، المحرر المشارك لكتاب الإمبراطوريات في الحرب العالمية الأولى: «لم تخض فرنسا وألمانيا حربًا على المغرب، لكن ما حدث هو أنهم تكيفوا مع التفكير في بعضهم بوصفهم منافسين، والتفكير في العالم بوصفه لعبة لا بد أن تنتهي بانتصار أحد الطرفين، إذ لا وجود للسعي الإمبراطوري الفرنسي إلا على حساب السعي الإمبراطوري الألماني».
إضافةً إلى ذلك، كانت بريطانيا العظمى قلقةً بشأن محاولة ألمانيا بناء قوة بحرية قد تتحدى قوتها، مع أن ألمانيا لم تكن قريبة من تحقيق ذلك، يعلق فوغارتي: «لم يكن بإمكان البريطانيين تحمل فكرة وجود تهديد لتفوقهم البحري، لأن لديهم إمبراطورية يجب تأمينها، الأمر الذي جعلهم مفرطي الحساسية تجاه أي منافسة».
كان التخوف الفرنسي والبريطاني تجاه نشوء الإمبراطورية الألمانية من الأسباب التي دفعت الدول الأوروبية إلى تشكيل تحالفات غير رسمية في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى، إذ انقسمت أوروبا إلى معسكرين متعارضين تقريبًا.
التوسعية في القارة الأوروبية:
امتازت الإمبراطوريات النمساوية-المجرية والروسية والعثمانية عن غيرها من الإمبراطوريات الأوروبية الغربية بتجاورها المباشر، إذ تتصل أراضيها برًا. قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، تلاقت حدود الإمبراطوريات الثلاث في منطقة البلقان، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية في جنوب شرق أوروبا، كان لها دور رئيسي في بداية الحرب العظمى.
سيطرت الإمبراطورية العثمانية سابقًا على جزء كبير من البلقان، لكنها فقدت معظم أراضيها هناك في القرن التاسع عشر.
مستغلةً تراجع الإمبراطورية العثمانية، احتلت الإمبراطورية النمساوية-المجرية البوسنة والهرسك، وهي منطقة في البلقان ضمتها الإمبراطورية عام 1908.
اغتالت الجماعة الثورية «البوسنة الشابة» الأرشيدوق فرانز فرديناند، الوريث المفترض للعرش النمساوي المجري احتجاجًا على الضم. بعد الاغتيال، اتهمت النمسا-المجر دولة صربيا المجاورة بمساعدة حركة البوسنة الشابة، وأعلنت الحرب على صربيا.
كانت روسيا قد وافقت سابقًا على دعم صربيا في صراعها ضد النمسا والمجر، بسبب القرب العرقي بينهما بوصفهما دول سلافية. مع ذلك، يشير أندرو جاربو، أستاذ التاريخ في كلية بيركلي، إلى أن روسيا دخلت الحرب مدفوعةً بالأطماع التوسعية في منطقة البلقان أيضًا.
يشير جاربو إلى أن حسابات روسيا كانت تتعلق بالحفاظ على نفوذها العسكري في المنطقة، وأنها إذا لم تدعم صربيا عسكريًا، فستفقد نفوذها تدريجيًا في المنطقة بمرور الوقت.
بعد مشاركتها في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، الذي ضم بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا واليابان، اضطرت روسيا للانسحاب عام 1917 بسبب اندلاع الثورة والحرب الأهلية داخل إمبراطوريتها، ما أدى في النهاية إلى انهيار الإمبراطورية الروسية وتكوين الاتحاد السوفيتي.
شهد الجانب الآخر –قوات المحور- معظم الانهيارات الإمبراطورية بعد الحرب العالمية الأولى، إذ انتهت بمعاهدة فرساي عام 1919 التي أدت إلى تفكيك الإمبراطورية النمساوية المجرية في أوروبا، والإمبراطورية الألمانية في أنحاء مختلفة من العالم. قُسِمت المستعمرات الألمانية في إفريقيا بين بريطانيا العظمى وفرنسا وبلجيكا، واستولت اليابان على المستعمرات الألمانية في الصين وشمال المحيط الهادي. وفرضت المعاهدة عدة تدابير على الدولة العثمانية ما أدى إلى حلها عام 1922.
عندما وصل أدولف هتلر إلى السلطة، استخدم وجود الإمبراطورية الألمانية السابقة مبررًا لإقامة الرايخ الثالث أو الإمبراطورية الثالثة، التي كان يتصور أنها ستحكم أوروبا. وعندما غزا بولندا عام 1939 مسببًا اندلاع الحرب العالمية الثانية، استند جزئيًا إلى حجته بأن الأراضي التي كان يحتلها تنتمي بالأصل إلى ألمانيا. كان هذا الأمر وما زال عذرًا استخدمته القوى التوسعية على مدار التاريخ.
اقرأ أيضًا:
الأسباب الخمسة الرئيسية لاندلاع الحرب العالمية الأولى
ثمانية أحداث أدت إلى الحرب العالمية الأولى
ترجمة: صفا روضان
تدقيق: جنى الغضبان