اكتشف العلماء في أحد الكهوف في تسعينيات القرن الماضي أدلة مرعبة على واقعة أكل لحوم بشرية كان ضحيتها ستة من أفراد النياندرتال الذين عاشوا فيما يُعرَف اليوم بفرنسا والتُهِموا من قبل أبناء جنسهم قبل نحو مئة ألف عام.
أجرى الباحثان الفرنسيان ألبين ديفلور وإيمانويل ديسلو دراسة نُشِرَت في مجلة Journal of Archaeological Science رسمت صورة قاتمة لحياة إنسان النياندرتال الذي عاش في العصر ما قبل الجليدي الأخير.
كان العلماء قد وجدوا سابقًا بقايا في مواقع أثرية أخرى في كرواتيا وإسبانيا وبلجيكا تشير إلى أدلة على أكل النياندرتال للحوم البشر، لكنهم لم يجدوا ما يكفي لتفسير هذا السلوك، هل كان ذلك بهدف البقاء أم طقسًا ثقافيًا؟
تقول عالمة الآثار ميشيل لانجلي من جامعة جريفيث في أستراليا التي لم تشارك في الدراسة: «يعد أكل لحوم البشر من المواضيع المثيرة للاهتمام والجدل الدائمين لأننا نجده أمرًا مستهجنًا ومنفرًا». واليوم توصل الباحثون إلى أن الاحتباس الحراري هو ما أوقع طفلين وعددًا آخر من أفراد النياندرتال فريسة لآكلي لحوم البشر من بني جنسهم.
فسرت دراسات سابقة بعض بقايا النياندرتال بوصفها دليلًا على وجود عادة أكل لحوم البشر بينهم، لكن هذه أول دراسة تقدم أدلة على سبب إقدام إنسان النياندرتال على أكل بني جنسه. فقد وجد العلماء أن التغيرات السريعة في الأنظمة البيئية التي رافقت ارتفاع درجة حرارة الكوكب تسببت ربما بانقراض بعض أنواع الحيوانات التي كان النياندرتال يتغذون عليها، ما أجبرهم على البحث عن طرق أخرى لملء بطونها.
فحص الباحثون طبقة رسوبية في كهف يُطلَق عليه اسم «بوم مولا جيرسي» في جنوب شرق فرنسا حيث كشفت حفريات لفريق آخر من العلماء سنة 1999 عن 120 عظمة نياندرتال تعود لستة أفراد عليها آثار تظهر تعرضهم للأكل، مثل جروح سببتها أدوات حجرية وأطراف مقطوعة بالكامل وعظام أصابع يبدو أنها قُضِمَت بأسنان نياندرتال وليس أسنان حيوانات مفترسة أخرى.
في عام 2014، حللت مجموعة أخرى من الباحثين الطبقات الرسوبية في الكهف حتى عمق 8 أمتار وقسموها إلى 19 طبقة متوافقة مع ثلاث تغيرات مناخية. وقد ركَّز واضعو الدراسة الأخيرة على الطبقة رقم 15، وهي طبقة طينية من الرواسب بثخانة 40 سنتيمترًا، تغطي مساحة تتراوح بين 30 إلى 40 مترًا من أرضية الكهف.
كانت الرواسب الفحمية وعظام الحيوانات محفوظة جيدًا في هذه الطبقة ما سمح للعلماء بإعادة بناء نموذج تصوري للبيئة قبل نحو 120 إلى 130 ألف عام، فاكتشفوا أن المناخ في المنطقة وقتها كان أكثر دفئًا مما هو عليه الآن، وأن التحول من مناخ بارد وجاف إلى مناخ دافئ قد حدث بسرعة.
قال إيمانويل ديسلو أحد واضعي الدراسة والباحث المساعد في جامعة نيس أنتيبوليس في فرنسا في تصريح لمجلة Cosmos: «كانت التغيرات المناخية في الفترة ما بين العصرين الجليدي وما قبل الجليدي الأخير مفاجئة وسريعة للغاية، ليس وفقًا للمقياس الجيولوجي فقط بل وفقًا للمقياس البشري أيضًا، فلربما تغيرت الظروف المناخية تغيرًا كاملًا في غضون بضعة أجيال فقط».
وُجِدَت بقايا غزلان الرنة والماموث وبعض الفئران الصغيرة واللاموس قبل حدوث التغيرات المناخية وبعدها، أما في فترة وجود النياندرتال ذات الحرارة الأعلى فقد خلت المنطقة من الثدييات الكبيرة وحل مكانها القوارض والزواحف والأفاعي التي هاجرت من البحر المتوسط.
لجأ بعض أفراد النياندرتال عند اختفاء الحيوانات التي سكنت المنطقة إلى أكل ما يستطيعون إيجاده فاضطروا لالتهام جيرانهم. أظهر تحليل مينا الأسنان في البقايا التي وُجِدَت في كهف بوم مولا جيرسي خطوط الشدة وهي علامات مميزة تتركها فترات من الظروف الشديدة مثل المرض وسوء التغذية. يقول ديسلو: «اضطر النياندرتال في مدة زمنية قصيرة إلى أكل أقرانهم بسبب حاجتهم إلى البقاء».
تقول لانجلي: «هذه أول مرة نجد أدلة مناسبة على تعرض النياندرتال لفترات عصيبة اضطرتهم إلى سلوكيات متطرفة للنجاة، قد يلجأ الإنسان الحديث لنفس هذا النوع من السلوك إذ مر بظروف مشابهة»
لم يمثل أكل النياندرتال بعضهم بعضًا جزءًا من نظامهم الغذائي، إذ لم تكن أجسامهم غنية بالسعرات الحرارية مثل حيوانات أخرى كالغزلان مثلًا، أما بضع مئات من أشباه البشر ممن سكنوا أوروبا الغربية في ذلك الوقت فقد كانوا بكل تأكيد فريسة صيد للنياندرتال.
توجد حالات حديثة لأكل لحوم البشر حدثت في الحرب العالمية الثانية وبعد تحطم طائرة تابعة للخطوط الجوية الأوروغوانية في رحلتها رقم 571 سنة 1972 التي وُثِّقت توثيقًا جيدًا.
يقول واضعو الدراسة: «لم يقتصر أكل لحوم البشر على النياندرتال وحدهم، بل مارسه البشر وأقرباؤهم منذ بداية العصر الحجري القديم حتى العصر البرونزي وما بعده، ولهذا فلا ينبغي لنا أن ننظر إلى سلوك أكل لحوم البشر الذي مارسه أفراد النياندرتال المتضورون جوعًا في كهف بوم مولا جيرسي على أنه سلوك وحشي أو غير إنساني، بل تأقلمًا طارئًا في فترة مؤقتة ذات ظروف مناخية قاسية».
يقول ديسلو: «لا نستبعد حدوث حالات أخرى أكل فيها النياندرتال لحومًا بشرية لغايات ثقافية أو طقسية فهم مارسوا أكل لحوم البشر لغايات ثقافية بالتأكيد، لكنَّ هذا لا ينطبق على حادثة أكل لحوم البشر التي درسناها في كهف بوم مولا جيرسي».
اقرأ أيضًا:
قصة الحرب التي نشبت بين الإنسان والنياندرتال واستمرت أكثر من مئة ألف عام
اختفاء مجموعة من البشر، هذا ما أخبرتنا به عظمة تعود لنياندرتال
ترجمة: حيان شامية
تدقيق: مازن النفوري
مراجعة: وئام سليمان
المصدر: livescience, cosmosmagazine