في البداية تمدد الكون بسرعة كبيرة جدًا جدًا. منذ 13.8 مليون سنة، كان كوننا الملاحظ بحجم خوخة وبدرجة حرارة تفوق التريليون درجة. يبدو هذا بسيطًا، ولكنه ادعاء جريء جدًا، ولم يكن هذا الادعاء اعتباطيًا أو متساهلًا. في الحقيقة، حتى من مئة عام مضت، كان سيبدو مثل هذا القول منافيًا للعقل، ولكن ها نحن ذا، نقولها وكأننا لا نقول شيئًا ذا بال. لكن كما هو حال أي شيء في العلم، مثل هذه العبارات البسيطة تمثل قمة جبل الجليد الذي يخفي تحته جبالًا من الأسطر التي تقود كلها إلى نفس النتيجة، وفي حالتنا هذه هو الانفجار العظيم ، نموذجنا لماضي كوننا. وكما يقال، لا تأخذ كلماتي كما هي، هاك خمسة أدلة على الانفجار الكبير منها الإزاحة الحمراء وإشعاع الخلفية الكونية:
1- ليل السماء مظلم
تخيل للحظة أننا عشنا في كون لانهائي في الزمان والمكان، حينها ستستمر تجمعات النجوم المضيئة في السماء بالحركة في جميع الاتجاهات إلى الأبد، وسيكون الكون ساعتها أزليًا. يعني هذا أنك كلما نظرت إلى السماء –فقط اختر اتجاهًا عشوائيا وحدق– ستجد دومًا نجمًا في مكان ما على مسافة ما.
هذه هي الحقيقة التي لا فكاك منها لكونٍ غير نهائي. يعني هذا أن هنالك متسعًا من الوقت للضوء الصادر من هذا النجم ليزحف في الفضاء ويصل إلى عينيك. حتى وجود غبار لا يمكن أن يلاشي الضوء المتراكم من عدد لانهائي من النجوم المنتشرة في كون لانهائي.
بالتالي، يجب أن تكون السماء مضيئة نتيجة الضوء المتجمع من تجمعات النجوم. بدلًا من ذلك حيثما نظرنا نجد الظلام، والفراغ، والعدم، والسواد. كما تعرف، إنه الفضاء.
هذه المفارقة تعرف بمفارقة أولبر نسبة إلى الفيزيائي الألماني هينريك أولبر الذي ربما لم يكن أول من يلاحظ هذه الظاهرة الواضحة، لكن اسمه اقترن بهذه الفكرة. الحل البسيط؟ ليس الكون لانهائيًا في الحجم أو الزمن، أو ربما ليس لانهائيًا على الإطلاق.
2- وجود النجوم الزائفة (الكوازارات)
مع ظهور التليسكوبات الراديوية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، لاحظ الباحثون بغرابة وجود مصادر راديوية عالية في السماء. وجد العلماء بعد أبحاث عديدة أن هذه المصادر الراديوية -أو النجوم الزائفة (الكوازارات)- كانت بعيدة جدًا ومع ذلك لامعة بشكل غير مألوف، عبارة عن مجرات نشطة.
المهم في هذه النتيجة هي كلمة «بعيدة جدًا». يستغرق الضوء وقتًا لكي ينتقل من مكان لآخر. نتيجة لذلك، عندما ننظر إلى السماء فإننا لا نرى النجوم والمجرات كما هي الآن ولكن كما كانت منذ آلاف، أو ملايين، أو حتى بلايين السنين.
يعني هذا أنه كلما نظرنا بشكل أعمق في الكون، نظرنا إلى الماضي بشكل أعمق أيضًا. نرى العديد من هذه النجوم الزائفة (الكوازارات) في المجرات البعيدة، ما يعني أن مثل هذه الأشياء كانت شائعة جدًا منذ ملايين السنين. لكن بالكاد توجد نجوم زائفة في الجوار القريب الحديث، بينما يعد من الشائع أن نلاحظها في المجرات البعيدة نسبيًا.
الاستنتاج البسيط: كان الكون مختلفًا عما نعرفه اليوم.
3- التوسع المطرد
نعيش في كون يتوسع باطراد. في المتوسط، تتباعد المجرات عن بعضها البعض منذ الانفجار العظيم. بالتأكيد تحدث بعض التصادمات الموضعية الصغيرة من بقايا التفاعلات الثقالية مثلما سيحدث لمجرتنا درب التبانة عندما تصطدم بمجرة أندروميدا في غضون بضع بلايين من السنين.
لكن على مقاييس أكبر تظل حقيقة تباعد المجرات عن بعضها صحيحة، وهو ما اكتشفه إدوين هابل في بدايات القرن العشرين، بعدما اكتشف أن المجرات هي أجرام حقيقية.
في كون يتمدد باستمرار تكون القواعد بسيطة. كل مجرة تهرب من كل المجرات الأخرى تقريبًا. ينزاح الضوء القادم من المجرات البعيدة نحو الأحمر. تستطيل الأطوال الموجية للضوء الصادر من هذه المجرات وبالتالي يصبح أكثر احمرارًا بالنسبة للمجرات الأخرى. ربما يغريك التفسير الذي يعزو هذه الظاهرة إلى حركة المجرات المنفردة بسرعة في الفضاء، لكن مثل هذا الاستنتاج لا يستقيم.
يتناسب مقدار الإزاحة الحمراء لمجرة ما مع مدى بعدها. تحظى المجرات القريبة بمقدار معين من الإزاحة الحمراء. المجرات التي تقع على ضعف هذا البعد لها ضعف الإزاحة الحمراء. تلك القابعة على بعد أربعة أضعاف؟ نعم، هذا صحيح، أربعة أضعاف الإزاحة الحمراء. لتفسير هذه الظاهرة بأن المجرات تتقارب يجب أن تكون هناك مؤامرة غريبة، فيتفق سكان جميع المجرات في الكون على أن يتحركوا بهذا النمط بالغ الدقة.
عوضًا عن ذلك، هناك تفسير أكثر بساطة: حركة المجرات يمكن عزوها إلى تمدد الفضاء ما بين المجرات. نحن نعيش في كون يتحرك وينشط، فقد كان صغيرًا في الماضي وسيغدو أكبر في المستقبل.
4- إشعاع الخلفية الكونية
دعنا نلعب لعبة. اعتبر أن الكون كان أصغر في الماضي بعد الانفجار العظيم. يعني هذا أنه كان سيكون أكثر كثافة وحرارة، أليس كذلك؟ بلى. كانت محتويات الكون ستتجمع في مكان أصغر، وكثافة أعلى تعني حرارة أعلى بالتأكيد.
في وقت ما، عندما كان الكون -لنفترض- أصغر بمليون مرة مما هو عليه الآن، كان سينسحق كل شيء مكونًا بلازما. في هذه الحالة، لن تكون الإلكترونات مرتبطة بنواة ذرتها وستكون حرة الحركة، كل هذه المادة عامت في إشعاع عالي الطاقة والكثافة.
لكن مع اتساع نطاق هذا الكون الوليد، كان من الممكن أن يبرد إلى درجة تمكن الإلكترونات من الاستقرار حول النواة، ما يكون أول ذرات كاملة من الهيدروجين والهيليوم. في تلك اللحظة، سيتجول الإشعاع شديد الكثافة بلا عوائق من خلال الكون النحيف والشفاف المتكون حديثًا.
ومع اتساع هذا الكون، كان الضوء الذي بدأ حرفيًا أبيض ساخنًا قد برد وبرد إلى درجات قليلة فوق الصفر المطلق، ما يضع الأطوال الموجية بقوة في نطاق الموجات الدقيقة.
وعندما نوجه تلسكوبات الموجات الدقيقة الخاصة بنا إلى السماء، ماذا نرى؟ حمّامًا من الإشعاع في الخلفية، يحيط بنا من جميع الجوانب ومتناسق تمامًا (إلى جزء واحد في 100000) في جميع الاتجاهات. إنها صورة للكون في طفولته. بطاقة بريدية من زمن سحيق. النور من زمن بقدم الكون نفسه.
5- إنه بدائي
أرجع عقارب الساعة للخلف أكثر من تشكيل خلفية الكون الميكروويفية، وفي مرحلة ما، كانت الأمور غاية في الشدة والجنون إلى مرحلة لا توجد فيها حتى البروتونات والنيوترونات. إنها مجرد حساء لأجزائها الأساسية: الكواركات والغلونات. ولكن مرة أخرى، مع توسع الكون وتبرده بعد الدقائق القليلة الأولى من وجوده المحموم، فإن الأنوية الأخف وزنًا، مثل الهيدروجين والهيليوم، تجمعت وتشكلت.
في الوقت الحاضر تعامل الفيزياء النووية بشكل لائق، ويمكننا استخدام هذه المعرفة للتنبؤ بالكمية النسبية من العناصر الأخف وزنًا في الكون. التنبؤ: كان يجب أن يكون هذا الحساء المخلوط قد ولد حوالي ثلاثة أرباع هيدروجين وربع هيليوم، وقليلًا من (العناصر الأخرى).
نتوجه بالسؤال الآن إلى علماء الفلك: وماذا يجدون؟ يتكون الكون من حوالي ثلاثة أرباع هيدروجين وربع هيليوم، ونسبة مئوية أصغر من (العناصر الأخرى).
هناك المزيد من الأدلة بكل تأكيد، ولكن هذه مجرد بداية لصورة الانفجار العظيم الحديثة للكون. تشير الدلائل المستقلة المتعددة إلى نفس الاستنتاج: يبلغ عمر الكون حوالي 13.8 مليار عام، وفي وقت ما كان بحجم الخوخة وبدرجة حرارة تزيد عن تريليون درجة.
اقرأ أيضًا:
التضخم الكوني – ماذا حدث بعد الانفجار العظيم ؟
تطور الكون منذ الانفجار العظيم وإلى الآن
ترجمة: أحمد جمال
تدقيق: علي فرغلي
مراجعة: رزان حميدة