عام 1859، وصلت إلى أستراليا سفينة تحمل 24 أرنبًا للسيد توماس أوستين «Thomas Austin»، مالك أراضي أسترالي. قطعت هذه السفينة رحلة شاقة من إنجلترا لكي تصل إلى أستراليا وتقوم بتوصيل هذه الأرانب البرية. اختلفت هذه الأرانب البرية عن الأرانب الأليفة والمستأنسة في أستراليا رغم أن كليهما كان من النوع «Oryctolagus cuniculus». وقام أوستين باطلاق هذه الأرانب على أرض له في مدينة فيكتوريا. بعد أن تحررت هذه الأرانب من موطنها البريطاني، وبسبب أنها تمتلك معدل تكاثر عال –وهو ما تتسم به الأرانب، تمكنت هذه الأرانب البرية من التكاثر والتضاعف بصورة جنونية.
خلال 6 سنوات، كان أوستن وزملاؤه قد قتلوا 20 ألف أرنبًا على أرضه، بينما هربت باقي الأرانب بعددها المهول. [4][2]
بحلول عام 1880، كانت الأرانب قد عبرت نهر موراي، ووصلت إلى مدينة ساوث ويلز الجديدة، وكانت لاتزال تتحرك نحو الشمال والغرب بمعدل 113 كيلو مترًا (70 ميلًا) في السنة. وهو معدل مخيف، باعتبار أن هذه الأرانب تتوقف كل حين وآخر لتتكاثر قبل أن تتابع الانتشار. بحلول عام 1950، كان هناك 600 مليون أرنب في أستراليا ينافسون باقي أشكال حياة أستراليا البرية وباقي الحيوانات على الطعام والشراب. وكان الأستراليون يائسين في محاولة البحث عن حل.[5]
في هذه السنة، وافقت الحكومة على استحضار فيروس من البرازيل من نوع الفيروسات الجدرية «Poxvirus». كان اسم هذا الفيروس ميكسوما «Myxoma». وكان ميكسوما مشهورًا بقدرته على إصابة الأرانب البرازيلية بالعدوى لكن بدون الإضرار بهم بشدة. ففي موطنه الأصلي، وداخل مضيفه الأساسي، يستطيع فيروس ميكسوما أن يتسبب في قرح صغيرة على الجلد. وهذه القرح قد تظل كما هي أو تُشْفى بالتدريج. ولكن الأرنب البرازيلي كان أرنبًا من القارتين الأمريكيتين وينتمي إلى نوع «Sylvilagus» الموجود في الأمريكتين، وليس نوع «Oryctolagus cuniculus» الأوروبي الأصل الذي نتحدث عنه حاليًا. حيث أن التجارب المعملية أثبتت أن الأرانب الأوروبية قد تتأثر بصورة أفظع بسبب هذا الفيروس الأمريكي.[2][5]
وكما افترضنا، فقد أثبت فيروس ميكسوما قدرته الفتاكة في الأرانب الأوروبية التي أتت ضيفًا ثقيلًا على أستراليا، حيث أن هذا الفيروس الفعال تمكن من قتل 99.6% من الأرانب التي أصيبت به في أول وباءٍ له. حيث أنه تسبب في هذه الأرانب بقُرح أيضًا، ولكنها لم تكن صغيرةً البتة؛ بل كانت كبيرةً، ولم تكن فقط على الجلد، بل وصلت للأعضاء الداخلية للجسم، مما جعلها تتمكن من قتل الحيوان في فترة لاتزيد عن أسبوعين. كان يتم انتقال الفيروس من أرنب لأرنب بواسطة البعوض. وأستراليا غنية بشدة بالبعوض. حيث أن هذه الحشرة تشعر بالعطش، فتقف على القرحة لتمتص دم الأرنب. ولكن نقل الفيروس لم يكن بيولوجيًا (أي أن الفيروس لم يدخل داخل البعوضة وينمو بداخل جهازها الهضمي وغددها اللعابية)، بل كان ميكانيكيًا (أي أن الفيروس تعلّق بفم البعوضة حين وقفت على القُرحة لكي تتناول وجبتها، واستغل هذه الأفواه البعوضية المتسخة لينتقل بواسطة البعوضة من أرنب مصاب إلى أرنب سليم). قد يعتبر القارئ أسلوب الانتقال هذا أسلوبًا أخرقًا، ولكنه كان بسيطًا وفعالًا.[6]
بعد بضع أوبئة أخرى، تمكن فيروس ميكسوما من الانتشار في وادي نهر موراي بسرعة تم وصفها بأنها (لامثيل لها في تاريخ العدوى الفيروسية). فبفضل البعوض وتيارات الرياح التي ساعدت على نقل البعوض، تمكن الفيروس من الانتشار سريعًا. كانت الأرانب الميتة تتراكم أكوامًا وأكوامًا في مدينة فيكتوريا، ومدينة ساوث ويلز الجديدة، وفي مدينة كوينزلاند. كان الكل سعيدًا باستثناء الناشطين في حقوق الحيوان، والمتعاطفين مع هذه الحيوانات الرقيقة، والتجار الذين احتاجوا أن تتكاثر الأرانب لكي يتاجروا في فروها (الذي كان يفسد الآن بسبب القُرح). ولكن خلال عقدٍ من الزمان، حدث أمران جللان:
– أصبح الفيروس أقل شراسة بصفة جينية. أي أن كل فيروس أصبح يرث من أجداده صفات تقلل من شراسته، وليس صفات تزيد منها.
– زادت مقاومة الأرانب لهذا الفيروس.
قل معدل وفيات الأرانب وبدأ تعداد الأرانب في الصعود مرةً أخرى. هذه هي النسخة القصيرة والبسيطة من القصة، والتي قدمت درسها السطحي في جملة: (التطور يقوم بتقليل الشراسة، ويقوم بتوليد أنسب تسامح مشترك بين العائل (المضيف) والكائن المسبب للمرض).[5][2]
ولكن القصة ليست بهذه البساطة. حيث أن فرانك فينر «Frank Fenner»، عالِم الميكروبيولوجي الأسترالي، وزملاؤه قاموا بإجراء تجارب استنتجت أن حِدّة الفيروس انخفضت من 99% (النسبة العالية بشدة) بسرعة كبيرة، ثم استقرت عند مستوى أقل شدة، ولكنه لازال عاليًا أيضًا (90%). هل سيعتبر القارئ معدل وفيات 90% شيئًا يمكن وصفه بـ(التسامح المشترك بين العائل والكائن المسبب للمرض)؟ لا نعتقد ذلك. حيث أن 90% هي أيضًا حِدة فيروس الإيبولا حين يكون متوحشًا. وصل فينر إلى هذا الرقم عن طريق جمع عينت من الفيروس في البرية وقياس شراسة هذه العينات بالمقارنة بالأرانب السليمة الموجودة في المعمل. لاحظ العلماء وجود تنوع واسع بين فصائل الفيروس، وبهدف التحليل، قاموا بفصل هذا التنوع إلى خمس فصائل مختلفة من فيروس ميكسوما حسب ترتيبٍ تنازلي للشراسة. فالفصيلة 1 كانت الأصلية، والتي اقترب معدل وفياتها من 100%، بينما قتلت الفصيلة 2 95% من المصابين بها، وكانت الفصيلة 3 متوسطة حيث قتلت 70% من الأرانب الحاملة لها. بينما 4 و5 كانتا أخف في الحِدة أيضًا (ولكن لازالتا بعيدتين عن أن تكونا أمراضًا خفيفةً)، حيث قتلتا أقل من 50% من أرانبهما.[3][8][9]
كيف كان خليط هذه الفصائل بين الأرانب المُصابة؟ بفحص الأرانب البرية، وقياس مستوى وجود كل فصيلة، وتعقب تغيرات الفصيلة المسيطرة على مستوى الزمن، حاول فينر وزملاؤه الإجابة عن بعض الأسئلة البسيطة مثل: هل تعلم فيروس ميكسوما ألا يقتل ضحاياه؟ هل ستسود الفصيلة الخامسة، الأخف فتكًا بضحاياها؟
كانت الإجابة: لا. فبعد عقدٍ من الزمان، اكتشف فينر وزملاؤه أن الفصيلة الثالثة من فيروس ميكسوما كانت هي الفصيلة المسيطرة. كانت لاتزال تتسبب في مقتل 70% من المصابين بها، ولكنها كانت في أكثر من نصف العينات التي جمعها العلماء. فأكثر الفصائل شراسةً (رقم 1) كانت شبه مختفية، وأقل الفصائل قوةً (رقم 5) كانت لاتزال نادرة. ولكن يبدو أن الوضع كان قد استقر هكذا.[1][7][8]
ولكن 10 سنوات تُعتبر طرفةَ عينٍ في مقياس التطور، حتى بالنسبة لحيوانات سريعة التكاثر كالأرانب والفيروسات. ولذلك استمر فرانك فينر بالمراقبة.
بعد حوالي عشرين سنة، لاحظ فينر تغيرًا كبيرًا. فبحلول عام 1980 كانت الفصيلة الثالثة من ميكسوما تُمثّل ثُلُثَي العينات، وليس فقط نصفها. يبدو أن الوصفة السحرية للنجاح التطوري هي (عالي الشراسة، لكن ليس دائمًا شرسًا). بينما اختفت الفصيلة الخامسة. لم تكن تنافسية بالقدر الكافي. لقد رسبت في الاختبار الدارويني، فالضعيف لاينجو.
كيف نستطيع شرح هذه النتيجة غير المتوقعة. كان تفسير فرانك الثاقب يعود للديناميكية بين الشراسة والنقل. حيث أن كفاءة النقل تتناسب طرديًا مع كمية الفيروس الموجود على فرو الأرنب. لذا فإذا كثرت القُرح، أو دامت لفترة أطول، فإن الفيروس سينتشر بصورة أوسع. حيث أنه سينتقل بعدد أكثر لفم البعوضة، ومنها إلى عدد أكبر من الأرانب التالية. لذا، فالفيروس يحتاج أن يكون الأرنب حيًا، يضخ دمًا دافئًا للبعوضة لكي تمتصه. فالأرانب الميتة الباردة لاتجذب بعوضًا. ولذا فبين الأرانب الميتة بكثرة، والأرانب المعافاة بدون اصابات عديدة، لم ينجو سوى الفيروس الذي اختار الطريق الوسط.[7]
أثبتت التجارب المعملية أن كل الفصائل تقوم بإنتاج إصابات (قُرح) تستطيع الانتشار عبرها. ولكن الفصائل ذات الشراسة العالية (1 و2) قتلت الأرانب بسرعة شديدة، لذا لم تتمكن من الانتشار بواسطتها إلا لبضع أيام. بينما لم تتمكن الفصائل الخفيفة (4 و5) من الانتشار لأنها لاتنتج قُرحًا كافية لكي تنتشر عبرها، كما أن القُرح التي تتسبب بها الفصائل الخفيفة تُشفى بسرعة. بينما الفصيلة الوُسطى (3) تسببت في عدوى أشد ولمدة أطول للأرنب المريض بها، حيث أنه عاش لفترة أطول. الفصيلة الثالثة في هذه المرحلة كانت لاتزال تتمتع بمعدل وفيات 67% من أرانبها. لقد وجد فيروس ميكسوما، بعد 30 عامًا من وصوله، معدل الشراسة الملائم له لكي يتمكن من الاستمرار بالبقاء. لقد كان لايزال قادرًا على قتل الأرانب التي يصيبها، لكنه أيضًا قادرٌ على استغلالها لكي تصبح وسيلة نقله بين العائل والآخر.2]]
ما هو أول قانون للطفيلي الناجح؟ نجاح ميكسوما في أستراليا يبين لنا أن الحكمة الطفيلية هي: لاتقتل عائلك، لاتحرق جسورك. ليس إلا بعد أن تكون قد عبرتها كلها.
المصادر:
- Quammen, David. 2012. Spillover: animal infections and the next human pandemic. 1st edition. W. W. Norton & Company. Chapter 64.
- Peter J. Kerr, Elodie Ghedin, Jay V. DePasse, Adam Fitch, Isabella M. Cattadori, Peter J. Hudson, David C. Tscharke, Andrew F. Read, Edward C. Holmes. 2012. Evolutionary history and attenuation of myxoma virus on two continents. DOI: 10.1371/journal.ppat.1002950
http://goo.gl/49sSCQ
- Kerr PJ1, Best SM. 1998. Myxoma virus in rabbits. Rev Sci Tech. 1998 Apr;17(1):256-68.
http://goo.gl/IgvzJ7
- The Argus. 18 December 1871. p. 6.
http://goo.gl/xp0L6L
- Wendy Zukerman. Australia’s battle with the bunny
http://goo.gl/mVsz5G
- Sonja M. Besta, and Peter J. Kerra. Coevolution of Host and Virus: The Pathogenesis of Virulent and Attenuated Strains of Myxoma Virus in Resistant and Susceptible European Rabbits. 2014 doi:10.1006/viro.1999.0104
http://goo.gl/igHEZu
- Peter J. Kerr, June Liu, Isabella Cattadori, Elodie Ghedin, Andrew F. Read, & Edward C. Holmes
Elliot J. Lefkowitz, Academic Editor and Chris Upton, Academic Editor
Myxoma Virus and the Leporipoxviruses: An Evolutionary Paradigm. 2015 Mar; 7(3): 1020–1061.