في الفضاء المعروف بين النجوم والمجرات، ينتشر وهج خافت جدًا، بقايا من الكون المبكر، أو ما يسمى إشعاع الخلفية الكونية الميكروي CMB، وهو أول ضوء انتقل عبر الكون، عندما برد كثيرًا بعد 380 ألف سنة بعد الانفجار العظيم، حتى اتحدت الأيونات والإلكترونات في الذرات.
لكن الآن اكتشف العلماء شيئًا غريبًا عن إشعاع الخلفية الكونية، فقد كشفت تقنية قياس جديدة عن أدلة لانحناء الضوء، التي قد تكون علامة على انتهاك تناظر التكافؤ Parity، وتلميحًا لفيزياء أخرى خارج النموذج القياسي للفيزياء.
فحسب النموذج القياسي للفيزياء، إذا قلبنا الكون ليصبح كأنه منعكس على مرآة، تبقى القوانين الفيزيائية ثابتة، ويجب أن تحدث تفاعلات الجسيمات دون الذرية بنفس الطريقة في الكون المقلوب كما في الكون الحقيقي، وهذا ما يسمى بتناظر التكافؤ.
وبعد القياسات المختلفة، وجد تفاعل أساسي وحيد يكسر هذا التناظر، وهو القوى النووية الضعيفة بين الجسيمات دون الذرية المسؤولة عن التفكك الإشعاعي، لذا فإن إيجاد مكان آخر ينتهك فيك تناظر التكافؤ قد يقودنا إلى فيزياء جديدة تتجاوز النموذج القياسي.
يعتقد عالمان أنهما وجدا أدلة عن هذا في زاوية الاستقطاب في CMB، هما يوتو مينامي من منظمة أبحاث مسرعات الطاقة العالية في اليابان وإيشيرو كوماتسو من معهد ماكس بلانك للفيزياء الفلكية في ألمانيا ومعهد كافلي لفيزياء ورياضيات الكون في اليابان.
يحدث الاستقطاب عندما يتشتت الضوء ما يتسبب في انتشار موجاته في اتجاه معين. لذا فالأسطح العاكسة مثل الزجاج والماء تستقطب الضوء، ربما تكون معتادًا على النظارات الشمسية التي تستقطب الضوء ، المصممة لحجب اتجاهات معينة لتقليل كمية الضوء التي تصل إلى العين.
حتى الماء والجسيمات الموجودة في الغلاف الجوي يمكن أن تشتت الضوء وتستقطبه، وقوس قزح مثال جيد على ذلك.
كان الكون المبكر لمدة 380 ألف عام تقريبًا، حارًا وكثيفًا، لدرجة أن الذرات لم تكن موجودة، فقد كانت البروتونات والإلكترونات تتطاير كبلازما مؤينة، وكان الكون معتمًا، مثل ضباب كثيف ودخان.
عندما انخفضت حرارة الكون بما يكفي لتتحد تلك البروتونات والإلكترونات وينشأ غاز الهيدروجين المحايد، أصبح الفضاء صافيًا ما سمح بالفوتونات للسفر بحرية فيه.
عندما تتحول البلازما المتأينة إلى غاز محايد، تتشتت الفوتونات بعد اصطدامها بالإلكترونات فتتسبب باستقطاب CMB الذي قد يخبرنا بالكثير عن الكون خاصة إذا دار بزاوية معينة.
لنرمز لهذه الزاوية بالرمز بيتا، قد تشير بيتا إلى تفاعل CMB مع المادة المظلمة أو الطاقة المظلمة، القوتان الغامضتان الداخلية والخارجية المنتشرتان بكثرة في الكون، واللتان لا يمكننا الوصول إليهما مباشرة.
أوضح مينامي قائلًا: «إذا تفاعلت المادة المظلمة أو الطاقة المظلمة مع إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بطريقة تنتهك تناظر التكافؤ، فيمكننا أن نجد أثرها في بيانات الاستقطاب».
تكمن مشكلة تحديد الزاوية بيتا هي في التكنولوجيا التي نستخدمها للكشف عن استقطاب إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. لذلك فقد تم تجهيز القمر الصناعي بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية الذي أصدر أحدث أرصاده للإشعاع CMB في عام 2018، بأجهزة كشف حساسة للاستقطاب.
لكن إذا لم تكن تعرف بالضبط كيف توجه هذه الكواشف إلى السماء، فمن المستحيل معرفة إذا كان ما تبحث عنه هو بالفعل بيتا، أو دوران في الكاشف يشبه بيتا، لذا تعتمد تقنية الفريق على دراسة مصدر مختلف للضوء المستقطب، ثم مقارنة الاثنين لاستخراج الإشارة الخاطئة.
قال مينامي: «طورنا طريقة جديدة لتحديد الدوران الاصطناعي باستخدام الضوء المستقطب المنبعث من الغبار في مجرتنا درب التبانة، بهذه الطريقة حققنا دقة تبلغ نحو ضعف دقة العمل السابق، فأصبحنا أخيرًا قادرين على قياس بيتا».
إن مصادر إشعاع مجرة درب التبانة هي أقرب بكثير من CMB، لذا فهي لا تتأثر بالمادة المظلمة أو الطاقة المظلمة. فأي دوران في الاستقطاب يجب أن يكون نتيجة دوران في الكاشف فقط.
يتأثر CMB بكل من بيتا والدوران الاصطناعي، لذلك إذا تجاهلنا الدوران الاصطناعي الذي لوحظ في مصادر مجرة درب التبانة من ملاحظات CMB، فسيبقى لدينا بيتا فقط.
حدد الفريق باستعمال هذه التقنية أن بيتا ليست معدومة بدقة 99.2%. ومع أن هذه القيمة تبدو مرتفعةً جدًا لكنها لا تكفي للادعاء باكتشاف فيزياء جديدة، فالمطلوب هو مستوى ثقة 99.99995 بالمئة.
لكن النتيجة تؤكد أن CMB يستحق الدراسة من كثب، فقد قال عالم الفيزياء الفلكية إيشيرو كوماتسو من معهد كافلي للفيزياء والرياضيات في الكون: «واضح أننا لم نعثر على دليل قاطع للفيزياء الجديدة حتى الآن، فنحتاج إلى دقة أعلى لتأكيد هذه الإشارة. لكننا متحمسون لأن طريقتنا الجديدة سمحت لنا أخيرًا بإجراء هذا القياس المستحيل، الذي قد يشير إلى وجود فيزياء جديدة».
نُشر البحث في مجلة Physical Review Letters.
اقرأ أيضًا:
دراسة جديدة لأقدم ضوء في الفضاء تكشف عن العمر الحقيقي للكون
إشعاع الخلفية الكونية الميكروي
تدقيق: بهاء قاسم
ترجمة: صابر مخلوف