أعلنت فيسبوك استحواذها على شركة CTRL-Labs الأمريكية الناشئة المتخصصة في التكنولوجيا القابلة للارتداء التي تسمح للناس بالتحكم في الأجهزة الإلكترونية بواسطة أدمغتهم.
فيسبوك ليست الشركة الوحيدة ولا الأولى من نوعها التي تستثمر في هذا المجال، لكنها الأحدث في سلسلة طويلة من الشركات المستثمرة في مجال التكنولوجيا العصبية.
أيضًا أعلنت شركة Neuralink التابعة لإيلون ماسك عن أملها في بدء تجاربها للأجهزة المحوسبة المزروعة في الدماغ على البشر.
قد تبدو هذه المشاريع مجرد خيال علمي، لكن هذا الاتجاه لاستغلال أدمغتنا أكثر ليس جديدًا، فلنا تاريخ قديم مع مثل هذه الاختراعات، إذ استُخدمت مواد كثيرة في محاولات بدائية لتعزيز الوظائف المعرفية، مثل الكافيين والنيكوتين والأمفيتامينات، وأدوية التغفيق مثل مودافينيل Modafinil (التغفيق أو النوم الانتيابي narcolepsy هو مرض عصبي مزمن يسبب فقدان قدرة الدماغ على تنظيم دورات النوم واليقظة طبيعيًّا). لكن استخدام التكنولوجيا لتعزيز الوظائف المعرفية أفضل بكثير من تلك الطرق ويقودنا لاكتشاف وسائل جديدة غير مُختبَرة.
يبحث الجميع في عالمنا شديد التنافسية عن القمة، ومن أهدافهم في هذا التنافس المفرط تطوير الذاكرة وزيادة التركيز والقدرة على العمل ساعات أطول، ولهذا ظهرت أدوية لزيادة فعالية الدماغ.
أفصح 30% من الأمريكيين في 2017 أنهم قد استخدموا المنشطات الذهنية المعروفة باسم مكملات «الأدوية الذكية» مرةً واحدةً على الأقل في تلك السنة، مع أن الدراسات أكدت أن تأثير هذه الأدوية على الذكاء ضئيل جدًّا.
يستخدم بعض الأشخاص المنشطات الدوائية عندما يشعرون أن المنشطات الذهنية العادية غير كافية، وأشهرها أديرال Adderall الذي يعزز التركيز والإنتاجية أكثر من المنشطات التجارية. تزدهر السوق السوداء في حرم الجامعات والمراكز المالية وتوفر هذه المنشطات التي تحقق ميزةً تنافسية أفضل لمتعاطيها.
تشير الأبحاث الحديثة إلى أن فوائد أديرال قد تكون خادعة رغم شعبيته الكبيرة، إذ يغير توازن المواد الكيميائية الموجودة في مناطق الدماغ المرتبطة بالعواطف، ومنها الدوبامين المسؤول عن مشاعر المكافأة والسعادة، ما يمنح الناس المزيد من مشاعر الحماس والبهجة فيحفزهم للعمل بجد أكثر لفترات طويلة. لكن أدمغتنا تدمن النشوة المحفزة التي تسببها زيادة الدوبامين، أي أن مستخدمي أديرال سيظلون في حاجة إلى تناوله للحفاظ على هذه الحالة من الإثارة.
ما زال هذا الدواء شائع الاستخدام رغم كثرة الأدلة التي تبين آثاره الضارة. يُستخدم أديرال والأدوية المشابهة له لأنه وسيلة قصيرة الأمد لتحقيق التفاني في العمل عند الأشخاص الطموحين. وينتشر استخدام هذه الأدوية في البيئات الأكاديمية، إذ صرح نحو 30% من الطلاب الأمريكيين أنهم تناولوا أديرال وأشباهه من المحفزات مرةً واحدةً على الأقل، ويبدو أن هذه الأرقام في ازدياد خصوصًا في المراحل الجامعية ومجالات الأعمال التنافسية.
إن طبيعة البشر تجعلنا دومًا غير راضين عن وضعنا الحالي، فنحن نطمح دائمًا إلى تطوير أنفسنا، إذ يدفعنا تكويننا العصبي الكيميائي إلى الرغبة في أن نكون أفضل، ما يدفعنا إلى تغيير طبيعتنا العصبية الكيميائية من طريق أديرال وغيره من الأدوية، لكن المحفزات قصيرة الأمد قد تكون مجرد بداية.
تُعرف عملية تغيير كيميائية الدماغ صناعيًّا (من خلال المحفزات مثلًا) باسم التعديل العصبي neuromodulation، ولا يمكن في هذه العملية الدقيقة تغيير أحد أجزاء الدماغ دون سائر الدماغ بسبب تشابكه وتعقيده، إذ قد تسبب زيادة مستويات الدوبامين مثلًا تغيرات أخرى مثل فقد التعاطف والسيطرة على الانفعالات والخوف. تخيل الآن ما قد تفعله مجموعة من التغييرات الكيميائية بالعقل.
لكن توجد فوائد واضحة للتغيير العصبي، إذ قد يُحدث ثورةً في علاج الصحة الذهنية إذا استُخدمت مستويات كيماويات السعادة -مثل سيروتونين وأوكسيتوسين- بدقة وحذر، ومع ذلك فإن تجربتنا مع المحفزات لمواجهة اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ومرض التغفيق تشير إلى أن التعديل العصبي لن يقتصر على الرعاية الصحية.
إذن، إلى أي مدى يمكننا «تعزيز» عقولنا دون أن نخسر هويتنا الإنسانية؟
قد يبدو التخلص من المشاعر السلبية مثل الخوف والقلق أمرًا بسيطًا، لكنه يفقدنا جانبنا العاطفي والأخلاقي. سعت الوكالة الأمريكية لمشاريع بحوث الدفاع المتقدمة (DARPA) إلى صنع أدوات طبية حيوية تمكّن الجنود من خصائص مثل مقاومة الضغط وسرعة التعلم، لكن هل سيحتفظ الجندي «المثالي» بعد ذلك بجوانب شخصيته التي تجعله بشريًّا؟
توجد أيضًا الكثير من التداعيات الأخلاقية والمجتمعية، مثل إشكاليات العدل والجدارة والثقة. من المحتمل أن هذه المُعزِّزات ستعمق عدم المساواة بين البشر، وذلك لأن أغنياء المجتمع سيسبقون سواهم في الحصول على الأدوية والتقنيات العصبية المتطورة ويكتسبون أفضليةً أكبر.
إضافةً إلى ذلك ستضعف مفاهيم الجدارة، وسيصعب على أنظمة التعليم مكافأة المتميزين بإنصاف. ولو أصبح من السهل الوصول للعقاقير الذكية عالميًّا، سيُدفع متعاطوها إلى مزيد من العمل، بينما سيتخلف من لا يتعاطون المحفزات في هذا السباق.
ولكن قد توجد جوانب إيجابية للمحفزات إذا استُخدمت استخدامًا صحيحًا، إذ قد يعزز تحسين الوظائف المعرفية تطوير مختلف المجالات. وتبقى المساوئ على أي حال نظريةً لأن الاستخدام الحالي للمحفزات القوية يقتصر على جانب ضئيل من المجتمع، ومع ذلك يجب أن ننشر الوعي عن الأخطار المحتملة لهذا التطور.
يسير التطور في وقتنا الحالي أسرع من قدرة الثقافة والقوانين على التعامل معه، ولن يبقى لنا حتى ميزة الوقت الكافي لمناقشة فوائد هذه المنبهات وأضرارها. نحن نتعامل اليوم مع محفزات توفر فوائد مؤقتة قصيرة الأمد، لكن مع دخول شركات مثل فيسبوك وNeuralink مجال الاستثمار في التقنيات العصبية، ماذا سيحدث إذا ابتُكر دواء أو جهاز طويل الأمد ودخل حيز التنفيذ؟ إذا توصلنا إلى إجابة هذا السؤال بعد توافر الجيل القادم من المعززات للجميع، فسيكون قد فات الأوان قليلًا.
اقرأ أيضًا:
ما هو التغفيق أو النوم الانتيابي أو السبخ أو النوم القهري ؟
إيلون ماسك: الفرق بيننا وبين الذكاء الاصطناعي هو نفس الفرق بين الشمبانزي والبشر
ترجمة: عدي بكسراوي
تدقيق: غزل الكردي
مراجعة: أكرم محيي الدين