حاليًا، يُعد دور الجاذبية والتوسع الكوني في تطور الكون من أكبر الألغاز التي تواجه علماء الفلك والكونيات.
لمحاولة حل تلك المشكلات، سلك الفلكيون وعلماء الكونيات نهجين في الآن ذاته: الرصد المباشر للكون لملاحظة سلوك تلك القوى في أثناء عملها، ومحاولة إيجاد حل نظري للظواهر المرصودة، مثل المادة المظلمة والطاقة المظلمة.
بين هذين النهجين، يصمم العلماء نموذجًا تطوريًا للكون بواسطة المحاكاة الحاسوبية، لملاحظة تناسبه مع التوقعات النظرية. صممت المحاكاة الأحدث (AbacusSummit) بالتعاون بين مركز الفيزياء الفلكية الحاسوبي التابع لمعهد فلاتيرون، ومركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية.
بإمكان المحاكاة معالجة نحو 60 تريليون جسيم، بهذا فهي أكبر محاكاة كونية أُنتجت حتى الآن.
أعلن منشئو المحاكاة عنها في سلسلة من الأبحاث التي تضمنتها الإشعارات الشهرية للجمعية الفلكية الملكية.
تتضمن مجموعة المحاكاة أكثر من 160 محاكاة، نمذجت الكيفية التي قد تتصرف بها الجسيمات في بيئة صندوقية الشكل تمثل الجاذبية. عُرفت تلك النماذج باسم «محاكاة الجسم N». وتهدف لمعرفة كيف قد تتفاعل المادة المظلمة مع المادة الباريونية (المرئية).
طور الفريق المحاكاة بقيادة ليمان جاريسون، الباحث في معهد فلاتيرون، ونينا ماكسيموفا طالبة الدراسات العليا، ودانيال آيزنشتاين، أستاذ علم الفلك في مركز هارفارد سميثسونيان.
شُغلت المحاكاة على الحاسوب الفائق «سامت» (Summit) في حوسبة القيادة في مدينة أوك ريدج في ولاية تينيسي، تحت إشراف وزارة الطاقة الأمريكية.
تُعد حسابات الجسم N، التي تتضمن نمذجة تفاعلات الجاذبية بين الكواكب والأجسام الأخرى، من أعظم التحديات التي تواجه الفيزيائيين الفلكيين اليوم.
من أسباب ذلك أن كل جسم يتفاعل مع كل الأجسام الأخرى حوله، بصرف النظر عن المسافة التي تفصل بينها، وكلما أصبح لدينا المزيد من الأجسام لدراستها، أصبح لدينا المزيد من التفاعلات التي يجب أخذها في الحسبان.
إلى الآن، لا يوجد حل لمشكلة الجسم N التي تتضمن ثلاثة أجسام ضخمة أو أكثر، والحسابات المتوفرة مجرد تقريبات. مثلًا، الرياضيات المستعملة لحساب تفاعل ثلاثة أجسام، مثل نظام نجمي ثنائي يتضمن كوكبًا -المعروفة بمشكلة الأجسام الثلاثة- لم يتوصل لحل لها بعد.
يعتمد النهج الشائع المستخدم في المحاكاة الكونية على إيقاف الزمن، وحساب القوة الكلية المؤثرة في كل جسم، وتحريك الوقت إلى الأمام ببطء، وتكرار ذلك الأمر.
صمم الفريق الرمز الأساسي الخاص بهم «أباكس» (Abacus) للاستفادة من قوة المعالجة المتوازية لـ «سامت» إذ يمكن إجراء العديد من الحسابات معًا في وقت واحد.
واستخدموا خوارزميات التعلم الآلي، واعتمدوا طريقة حسابية جديدة، سمحت لهم بحساب 70 مليون جسيم لكل ثانية/عقدة في الأوقات المبكرة، ولاحقًا 45 مليون جسيم لكل ثانية/عقدة.
يوضح جاريسون: «تُعد تلك المجموعة كبيرةً حقًا، إذ قد تمتلك جسيمات أكثر بكثير مما احتوته كل نماذج محاكاة الجسم N الأخرى التي شغلناها معًا، رغم صعوبة التيقن من ذلك. تقدم لنا الملاحظات الرصدية للمجرات خرائط كونية مفصلة للغاية. نطمح إلى محاكاة تغطي نطاقًا كبيرًا من الأكوان المحتملة التي قد نعيش فيها».
«المحاكاة هي الأولى من نوعها التي تتسم بالدقة والتوسع، لمقارنتها بالملاحظات المذهلة المرصودة. تكمن رؤيتنا في إنشاء هذا الرمز لنصل إلى محاكاة يمكنها تضمين عمليات المسح الرصدي التي حصلنا عليها من المجرات. لقد أنشأنا الرمز لنجعل المحاكاة أسرع وأدق من أي وقت مضى».
إضافةً إلى التحديات المعروفة، يتطلب تشغيل عملية محاكاة لحسابات الجسم N تصميم الخوارزميات بعناية بسبب ذاكرة التخزين المتضمنة.
للتوضيح، لا يستطيع «أباكس» صناعة نسخ للمحاكاة بتوصيل أجهزة كمبيوتر فائقة أخرى للعمل عليها، بل قسّم كل محاكاة إلى شبكة، تتضمن إجراء حسابات تقريبية للجسيمات البعيدة، التي تؤدي دورًا ثانويًا مقارنةً بالجسيمات القريبة.
ثم قسم الجسيمات القريبة إلى خلايا ليستطيع الحاسوب العمل عليها كل على حدة، ثم دمج البيانات مع وضع تقريبي للجسيمات البعيدة.
وجد الفريق أن اتباع هذا النهج -التقسيمات المتقاربة- أفضل من استخدام المعالجة المتوازية، إذ يسمح بحساب كم كبير من تقريبات الأجسام البعيدة قبل بدء المحاكاة.
يُعد هذا تحسنًا كبيرًا مقارنةً بالرموز الأساسية الأخرى للجسم N، إذ تقسم عمليات المحاكاة بشكل غير منظم اعتمادًا على توزيع الجسيمات.
بفضل تصميمه، تمكن «أباكس» من تضمين 70 مليون جسيم لكل ثانية/عقدة، إذ يمثل كل جسيم من المادة المظلة ما يعادل 3 بلايين كتلة شمسية. باستطاعته أيضًا تحليل المحاكاة في أثناء تشغيلها والبحث عن مناطق المادة المظلمة، التي تعني وجود مجرات في طور تكون النجوم.
تلك الأشياء وغيرها من الأجسام محل الدراسة في المسح الرصدي المستقبلي، ستزودنا بتفاصيل غير متوقعة لرسم تفاصيل أدق لخريطة كوننا. من الأدوات المستخدمة لذلك جهاز التحليل الطيفي للطاقة المظلمة، وتلسكوب نانسي جريس رومان الفضائي، ومركبة إقليدس التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية.
من أهداف تلك المهام ذات الميزانية الضخمة تحسين تقديرات المُعامِلات الكونية والفيزيائية الفلكية، التي تحدد كيف يعمل الكون وكيف يبدو.
هذا بدوره سيسمح بالمزيد من المحاكات التفصيلية التي توظف قيمًا محدثة للعديد من المعاملات مثل الطاقة المظلمة.
يتطلع دانيال أيزينشتاين الباحث في مركز هارفارد سميثسونيان، المؤلف المشارك للورقة، إلى ما يمكن أن يحققه أباكس للمسوح الكونية المرصودة في المستقبل.
يقول دانيال: «يمضي علم الكونيات قدمًا بسبب الدمج بين المسوحات الرصدية المذهلة والحوسبة الحديثة. يبشر العقد القادم بأننا على موعد لمعرفة الكون بشكل غير مسبوق».
اقرأ أيضًا:
علماء ينجحون بمحاكاة ظروف اللب الخارجي للأرض في المختبر
محاكاة البنية الكمومية البدائية للكون
ترجمة: آية قاسم
تدقيق: نور عباس
مراجعة: أكرم محيي الدين