نعلم أن أسبوع العمل فيه خمسة أيام أو 40 ساعة عمل، وذلك بحسب المعيار المعتمد في قانون العمل للوظائف بدوام كامل في أمريكا، لكن الحال لم يكن كذلك حتى ثلاثينيات القرن العشرين.
إذ لم تترسخ هذه الفكرة إلا بعد إقرار قانون معايير العمل العادل عام 1938، وجاء هذا القانون تتويجًا لأكثر من قرن من النضال خاضه العمال الأمريكيون من أجل الحصول على عدد ساعات عمل أقل وأجور أفضل إضافة إلى ظروف عمل أكثر أمانًا.
في بداية القرن العشرين، لم يكن غريبًا أن يعمل معظم الأمريكيين 60 ساعة أو أكثر في الأسبوع، وذلك حسب المؤرخ جوزيف مكارتين المتخصص في جامعة جورجتاون. ففي 1898 نشرت ولاية ماساتشوستس (نشرة عمالية) تتبع أجور وساعات عمل العمال المنزليين في الكومنولث، وكان الطهاة المنزليون حينها يعملون نحو 78 إلى 83 ساعة في الأسبوع مقابل 9 سنتات في الساعة فقط، وكانوا يحصلون على إجازتهم الأسبوعية يوم الأحد، أو نصف يوم السبت أحيانًا.
وتميَّز بعض عمال المصانع في ماساتشوستس بحال عمل أفضل، لأنه حسب قانون الولاية، لا يُسمح للنساء والأطفال بالعمل أكثر من 58 ساعة في الأسبوع في مصانع النسيج.
حركة الثماني ساعات عمل في القرن التاسع عشر
يشير إريك لوميس المؤرخ من جامعة رود آيلاند إلى فكرة الحد من ساعات العمل قائلًا: «في جوانب مختلفة، تعود فكرة الحد من ساعات العمل والأيام إلى بداية الحركة العمالية الأمريكية».
كانت حركة العمال في القرن التاسع عشر تنادي بشعار (ثماني ساعات للعمل، وثماني ساعات للترفيه، وثماني ساعات للراحة)، وهي العبارة التي صاغها لأول مرة روبرت أوين، صانع المنسوجات الويلزي الذي تحول إلى مصلح عمالي.
انتعشت حركة الثماني ساعات بعد فترة الحرب الأهلية، بعد عودة الجنود إلى ديارهم في المدن والبلدان الصناعية. وفيما بعد، انضم إليهم ملايين الأشخاص الذين كانوا مُستعبدين ويناضلون من أجل الحصول على أجور عادلة وظروف عمل إنسانية.
كانت شيكاغو مركز النشاط العُمالي في منتصف القرن التاسع عشر، فيوم العمل المعتاد كان يستمر 12 أو 14 ساعة ما أرهق عمال شيكاغو، فكانوا من بين أول من نجحوا في الضغط على ممثلي الدولة لإقرار الحد الأقصى للعمل ثماني ساعات للعاملين في إلينوي عام 1867. لكن لسوء الحظ، اشتمل قانون إلينوي على بعض الثغرات التي سمحت لأصحاب الأعمال بالتفاوض على ساعات عمل أطول، ما أدى إلى عدم فاعليته.
في 1886، جاء دور الدفعة التالية الكبيرة، عندما نادت نقابات شيكاغو والناشطون السياسيون إلى عمل إضراب وطني في الأول من مايو من أجل تحديد عدد ساعات العمل بثماني ساعات فقط. تجمع حينها أكثر من عشرة آلاف شخص في مظاهرة سلمية بشيكاغو، لكن فيما بعد تصاعدت حِدة التوترات بين المُضربين عن العمل والشرطة، ما أسفر عن مقتل أربعة متظاهرين. وردًا على ذلك، نزل مثيرو الشغب والفوضويون إلى الشوارع في الرابع من نفس الشهر، وحدث اشتباك عنيف انتهى بتفجير مميت في ساحة هايماركت في شيكاغو.
كانت حادثة هايماركت عام 1886 بمثابة انتكاسة مؤلمة للحركة العمالية، ولم تستعد عافيتها تمامًا حتى الحرب العالمية الأولى.
انتشار أيام عمل أقصر بعد الحرب العالمية الأولى
بينما كان السياسيون يناقشون مسألة دخول الحرب العالمية الأولى عام 1916، هدد أكثر من 400 ألف عامل في السكك الحديدية الأمريكية بالإضراب عن العمل ما لم يُمنَحوا يوم عمل مدته 8 ساعات. وأوشك هذا الإضراب الضخم على مستوى البلاد أن يصيب إنتاج أمريكا الصناعي بالشلل عشية الدخول في الحرب.
عندما فشلت المفاوضات بين هيئة السكك الحديدية والعمال المُضربين، تدَّخل الرئيس وودرو ويلسون والكونغرس لمنع حدوث أزمة وطنية. وانتهى الحال بإصدار قانون آدمسون لعام 1916، وهو أول قانون فيدرالي يفرض يوم عمل مدته 8 ساعات، حتى وإن كان فقط لصناعة واحدة.
دخلت الولايات المتحدة الحرب أخيرًا عام 1917، وقد أدى حينها نقص العمالة الناتج عن ذلك إلى تعزيز موقف العمال للمطالبة بساعات عمل أقل وأسابيع عمل أقصر.
يقول ماكارتن المؤلف المشارك مع ميلفين دوبوفسكي لكتاب تاريخ العمالة في أمريكا: «بعد انخراط أمريكا في الحرب، وقعت المزيد من عمليات الإضراب في الولايات المتحدة في الأشهر الستة الأولى أكثر من أي فترة سابقة في التاريخ الأمريكي».
بسبب الخوف من أن تؤدي الإضرابات إلى إبطاء عملية إنتاج المعدات الحربية الأساسية، أنشأ الرئيس ويلسون مجلس العمل الوطني للحرب بهدف التدخل للبت في النزاعات العمالية وإجبار أرباب العمل على الاعتراف بالتفاوض الجماعي. وكانت النتيجة بدء العصر الذهبي القصير للعمال الأمريكيين خلال عامي 1917 و1918، وتضمن ذلك التبني واسع النطاق لثماني ساعات عمل في اليوم.
عندما انتهت الحرب في 11 نوفمبر 1918، حاول رجال الصناعة التراجع عن المكاسب التي حققها العمال بزيادة ساعات العمل، لكنهم واجهوا معارضة شرسة، فقد نظم العمال الأمريكيون الشجعان 3000 إضراب عام 1919، شارك فيها أكثر من 4 ملايين عامل.
يقول ماكارتن: «لقد أدرك أصحاب العمل أن الشيطان قد خرج من القمقم في أثناء الحرب ولم تعد إعادته بالكامل ممكنة، وكذلك لم يتمكنوا من العودة إلى الوضع الراهن ومحاولة إجبار العمال على العمل بنفس الطريقة التي كانوا يعملون بها قبل الحرب».
في عام 1913، أصبح مصنع هايلاند بارك التابع لشركة هنري فورد أول مصنع يعتمد تكنولوجيا خطوط التجميع المبتكرة في الشركة، ومع قدرة خط التجميع على إنتاج السيارات بشكل أسرع وأرخص من أي وقت مضى، كانت العملية أيضًا مرهقة ومتكررة، وبعد مرور بضعة أشهر فقط من الافتتاح، كان العمال يستقيلون بمعدل سريع جدًا، وقد وصل معدل دوران العمالة في هايلاند بارك إلى 380%.
يقول لوميس: «كانت شركة فورد تعاني ما كانت العديد من الصناعات تعانيه حينها، وهو مبدأ دوران العمالة. فقد أصبحت هذه الوظائف فظيعة ولم يرغب أحد في البقاء فيها. وقرر حينها تبني أفكار الإدارة العلمية وإبرام صفقة مع القوى العاملة».
تميَّز العرض الذي قدمته شركة فورد كثيرًا، فقد تقرر أن وقت يوم العمل 8 ساعات بمقابل 5 دولارات، أي ما يقرب ضعف الأجر مقابل فترات عمل أقل عن السابق.
وتماشيًا مع أهم أجزاء الصفقة، كان يجب على العمال في هايلاند بارك الموافقة على عمليات مفتشي قسم علم الاجتماع في الشركة، الذين كانت مسؤوليتهم مراقبة العمال الذين يشربون الخمر أو يقرؤون مواد راديكالية مؤيدة للنقابات العمالية.
اتخذت شركة فورد بحلول عام 1922 خطوات نحو تشكيل أسبوع عمل مكون من 40 ساعة؛ خمسة أيام عمل كل يوم يمتد حتى 8 ساعات، إضافة إلى عطلة نهاية الأسبوع مدة يومين، وأكد نجل المؤسس فورد في ذلك الوقت: «إن أي رجل يحتاج إلى أكثر من يوم كل أسبوع من أجل الراحة والترفيه».
وحسب قول مكارتين، لم يتعلق القرار فقط بسعادة العمال، ولكن كان جزءًا من فلسفة اقتصادية سميت لاحقًا باسم (فوردية) أو (تحت الفوردية)، وهي أن الإنتاج الضخم يستلزم الاستهلاك الضخم، لقد أراد فورد أن يُدفع للعمال جيدًا وأن يكونوا مرتاحين لكي يستغلوا أوقات فراغهم في شراء المزيد من المستلزمات، ومن ذلك سياراته.
عام 1926، تبنى فورد رسميًا فكرة أسبوع العمل الذي يتكون من خمسة أيام عمل و40 ساعة، ولأنه كان الصناعي الأكثر نفوذًا في عصره، اتبعت شركات كبرى أخرى القانون الذي اعتمده.
أسبوع العمل المكون من أربعين ساعة يصبح قانونًا
يقول مكارتن: «كانت توجيهات صناع السيارات -مثل فورد- مؤثرة بالتأكيد في ما فعله بعض قادة الشركات الآخرين في مؤسساتهم، لكن لم يعتمَد أسبوع العمل المكون من 40 ساعة على نطاق واسع حتى اعتمدته الحكومة قانونًا للبلاد، وهذا ما حدث مع فرانكلين روزفلت وقانون معايير العمل العادل».
عند انتخاب روزفلت عام 1932، كانت أمريكا تعاني من الكساد الكبير، فقد وصلت نسبة البطالة إلى 25%، ولمواجهة هذا التحدي المذهل، عيّن روزفلت السيدة فرانسيس بيركنز في منصب وزيرة العمل، وقد كانت بيركنز أول امرأة في مجلس الوزراء في تاريخ الولايات المتحدة، ومناصرة لحقوق العمال.
أقر روزفلت وبيركنز بالتحالف مع أعضاء الكونغرس قانون التعافي الوطني الصناعي عام 1933، وقد تناول تشريع الصفقة الجديدة أكثر القضايا العمالية إلحاحًا حينها، فقد أُقر الحد الاتحادي الأدنى للأجور الفيدرالية من 12 إلى 15 دولارًا أسبوعيًا، إلى جانب حظر عمل الأطفال دون سن 16 عامًا، وأخيرًا توحيد أسبوع العمل ليكون 40 ساعة.
لم يدم قانون العمل الرائد، ففي عام 1935 حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية قانون التعافي الوطني الصناعي، وقضى روزفلت وبيركنز السنوات الثلاث التالية في محاربة المحاكم وموجات النقد في الكونغرس لاستعادة ما فُقِد من مكاسب حول قانون العمل، ثم حدث انتصار عظيم عام 1936، حين صدر قانون العقود العامة الذي ألزم معظم المقاولين الفيدراليين بالالتزام بأسبوع عمل مدته 40 ساعة.
أخيرًا نجح روزفلت وبيركنز عام 1938 بإصدار قانون معايير العمل العادل (FLSA)، وقد حددت النسخة الأصلية من القانون أسبوع العمل عند 44 ساعة، وأُنشِئت أيضًا أولى القواعد الفيدرالية لدفع أجور ساعات العمل الإضافية، ووجوب التعويض عن أي ساعات عمل تتجاوز 44 ساعة بمعدل واحد ونصف مرة من المعدل الأساسي للساعة.
نص (FLSA) على تقليل أسبوع العمل إلى 42 ساعة بعد مرور عام واحد، ثم وصل إلى 40 ساعة بعد عامين، وهكذا أصبح أسبوع العمل المكون من 40 ساعة و5 أيام معيار قانون العمل في أمريكا منذ ذلك الحين.
اقرأ أيضًا:
مستقبل العمل وبدائل العدد التقليدي لأيام العمل في الأسبوع
أسبوع العمل الرباعي: نجاح مرهون بتجاوز التحديات
ترجمة: ماريان رأفت الملاح
تدقيق: تمام طعمة
مراجعة: محمد حسان عجك