نجح العلماء في تحفيز الدماغ باستخدام أقطاب كهربية مزروعة على سطحه، وبعثوا فيه أنماطًا كهربائية لحثه على رؤية أحرف غير موجودة. وفقًا للدراسة المنشورة في مجلة Cell، نجحت التجربة على مشاركين أصحاء، ومكفوفين فقدوا بصرهم في مرحلة البلوغ، ومع أن هذه التقنية ما زالت في مراحلها المبكرة، فقد تُستخدم هذه الأجهزة المزروعة مستقبلًا لتحفيز الدماغ واستعادة البصر جزئيًا.
زُرعت الأعضاء البصرية الاصطناعية في القشرة البصرية، وحُفزت لتتبع أشكال استطاع المشاركون رؤيتها، وقد تعمل الإصدارات الأكثر تقدمًا منها بطريقة مشابهة للطُعم القوقعي، الذي يحفز أعصاب الأذن الداخلية باستخدام أقطاب كهربية للمساعدة على تحسين القدرة السمعية لدى من يستخدمها.
قال مؤلفا الدراسة من كلية بايلور للطب، الباحث في علم الأعصاب مايكل بوشامب وجراح الأعصاب دانيال يوشور: «قد يساعد الاستخدام المتكرر لمثل هذا الجهاز على اكتشاف ملامح الأشكال المرئية، ستكون القدرة على التعرف على ملامح أفراد الأسرة أو تحسن إمكانية التنقل المستقل تقدمًا مذهلًا للعديد من المكفوفين». تمثل الدراسة الحالية خطوةً أولية نحو تحقيق مثل هذه التقنية.
(رؤية النجوم)
صاغ باحثو الدراسة الأحرف من طريق تحفيز الدماغ باستخدام تيارات كهربية، ما سبب توليد وبصات (نقاط ضوئية صغيرة يدرك الناس وجودها دون أن تلتقط أعينهم الضوء فعليًا)، وتمثل الوبصة شذوذًا في نظام المعالجة المرئية، على عكس ما يحدث عندما يرتد الضوء فعليًا عن جسم نحو العين، إذ تُرى نقاط الضوء مع أنها غير موجودة فعليًا، يمكن مشاهدة هذه الوبصات مثلًا عند فرك العينين في غرفة مظلمة، وتوصف هذه الظاهرة غالبًا برؤية النجوم حسب تعبير المؤلفين.
وفقًا لجون بيزاريس، رئيس مختبر الأعضاء البصرية الاصطناعية في مستشفى ماساتشوستس العام، فإن الفيلسوف وعالم الفسيولوجيا اليوناني القديم ألكميون كان أول من وصف النجوم التي تظهر عند فرك العينين، المعروفة باسم الوبصة الميكانيكية. وبعد ذلك بقرون، اكتشف الطبيب الفرنسي تشارلز ليروي سنة 1755 أن تحفيز الدماغ كهربيًا قد ينتج أيضًا وبصات واضحة، حتى لدى المكفوفين.
وأوضح بيزاريس أن العلماء بدأوا في الستينيات بالعمل على الأعضاء البصرية الاصطناعية، فزرع الباحثون أقطابًا كهربية في القشرة البصرية (منطقة في الدماغ تعالج المعلومات القادمة من العينين)، بهدف توليد الوبصات وتجميعها في أشكال مترابطة، وافترض العلماء أن تحفيز مناطق متعددة على القشرة سيؤدي إلى ظهور العديد من الوبصات واندماجها تلقائيًا في أشكال واضحة، مثل بيكسلات منفردة على شاشة الكومبيوتر.
لكن الدماغ أعقد من شاشة الكومبيوتر، ومن الصعب للغاية إنتاج أشكال معروفة من تراكيب الوبصات، وذلك لأسباب غير معروفة بالكامل حتى الآن، لكن الباحثين وجدوا طريقةً للتحايل على هذه المصاعب.
الكتابة على الدماغ
وضع الفريق مجموعةً من الأقطاب الكهربية على القشرة البصرية لدى 5 مشاركين، 3 مبصرين وكفيفَيْن، واستقرت الأقطاب الكهربية تحديدًا فوق منطقة من الدماغ تُسمى (V1)، وهي منطقة تُوجه إليها المعلومات من شبكية العين للمعالجة المبكرة.
خضع المبصرون سابقًا لجراحة زرع الأقطاب في أدمغتهم جزءًا من علاج الصرع، إذ صُممت الأقطاب لمراقبة النوبات، أما الكفيفان فقد شاركا في دراسة منفصلة تتعلق بالأعضاء البصرية الاصطناعية، زُرعت في أثنائها الأقطاب في دماغيهما.
تعمل منطقة (V1) مثل خريطة تترابط فيها المناطق المختلفة مع مناطق متنوعة في مجالنا البصري (مثل أعلى اليمين أو أسفل اليسار)، ووجد الباحثون أنهم إذا نشطوا قطبًا كهربيًا واحدًا في كل مرة، فسيرى المشاركون بالتأكيد وبصةً في المنطقة المُتوقعة، أما إذا نُشطت عدة أقطاب كهربية في الوقت ذاته، فستظهر الوبصات الفردية لكن دون أن تتجمع في أشكال مترابطة.
لذلك اتبع الباحثون استراتيجيةً مختلفة، مفترضين أنه بتمرير التيار الكهربي عبر عدة أقطاب، يمكنهم تتبع الأنماط على سطح الدماغ، ومن ثم إنشاء أشكال يمكن التعرف عليها، ولأن الدماغ مُصمم ليمكنه اكتشاف التغيرات المحيطة، فمن المتوقع أن يتبع نمطًا من الوبصات المُقدمة تواليًا.
يستخدم (الطعم القوقعي) استراتيجيةً مشابهة لتوليد النغمات السمعية. قال بيتر رويلفسيما، مدير مؤسسة علم الأعصاب في هولندا: «بافتراض أن القطب الكهربي الأول يعطي طبقةً صوتية عالية، وأن القطب الثاني يعطي طبقةً أخفض، فبتطبيق تيار كهربي عبر كل منهما، يمكن الحصول على درجة متوسطة بين الطبقتين».
وجد الباحثون إمكانية تحقيق أمر مماثل في الرؤية، وذلك بتوليد الوبصات بين موقعي قطبين كهربيين منفصلين، بالربط بين نقاطهما، وباستخدام هذه التقنية رسم الباحثون حروفًا مقلوبة على سطح (V1)، فهكذا تصل المعلومات المرئية طبيعيًا إلى القشرة البصرية من العين.
تمكن المشاركون من رؤية الأشكال وإعادة كتابتها بدقة على الشاشة، ووصف الباحثان مدى سعادة المشاركين وحماسهم عندما بدأوا يرون حروفًا تتشكل في أذهانهم.
التطلع إلى المستقبل
قال رويلفسيما: «يجب التغلب على العديد من التحديات قبل تطبيق نتائج البحث على الأعضاء البصرية الاصطناعية».
قد تتضمن الأعضاء البصرية الاصطناعية مستقبلًا عدة آلاف من الأقطاب الكهربية، في حين استخدمت الدراسة بضع عشرات فقط، وأضاف الباحثون: «قد تُصمم الأقطاب الكهربية لاختراق القشرة، لتكون أطرافها أقرب إلى الخلايا العصبية التي تقع على بعد مئات الميكرونات تحت السطح القشري».
وأشار بيزاريس إلى أن الأقطاب الكهربية التي تخترق الدماغ تولد وبصات أدق مع مجالات كهربية أضعف مما تتطلبه الأقطاب الكهربية على سطح الدماغ، إذ تستخدم الأقطاب السطحية مجالات كهربية قوية للوصول إلى خلايا الدماغ داخل النسج، ما يؤدي أحيانًا إلى تحفيز الخلايا المجاورة أو تداخلها.
وأوضح رويلفسيما إنه لتعمل الأعضاء البصرية الاصطناعية، يجب ابتكار أقطاب كهربية جديدة تتوافق مع أنسجة المخ فترات طويلة من الزمن، وقال: «تسبب الأقطاب الحالية الضرر ولا تعمل فترةً كافية»، لكن قد تعمل الأقطاب الكهربية السطحية بطريقة أفضل عند بعض المرضى، اعتمادًا على المخاطر المترافقة مع زراعة الأقطاب بعمق في أدمغتهم، نظرًا إلى اختلاف أسباب فقدان البصر، حتى أن بعض المرضى قد يستفيدون أكثر من الأقطاب المزروعة بعمق، وقد يستفيد سواهم من الأقطاب السطحية، أو من الأعضاء الاصطناعية المزروعة في شبكية العين مباشرة، التي لا تتطلب سوى جراحة عينية لزرعها.
وقال الباحثان: «لجعل الأعضاء البصرية الاصطناعية مفيدةً فعلًا للمكفوفين، يجب أن تحسن من جودة حياتهم»، ما يعني أنه إضافةً إلى تحسين الأقطاب وكيفية عملها، يجب تطوير برامج موثوقة تساعد على تنقية المعلومات البصرية ومعالجتها، وفور تجميعها يجب أن يكون النظام بالكامل مفيدًا بما يكفي ليُستخدم فعليًا.
وقال بيزاريس عن الأعضاء البصرية الاصطناعية: «من الأمور الأساسية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار هو أن العمى ليس عاملًا مُهددًا للحياة، وعلى هذا تجب الموازنة بين المنافع المُحتملة والمخاطر».
اقرأ أيضًا:
تطبيق جديد للهواتف الذكية يساعد المكفوفين على التنقل داخل المباني
تطوير جلد للأطراف الصناعية يمكنه الإحساس بالضغط و الحرارة و الرطوبة.
ترجمة: آية وقاف
تدقيق: محمد حسان عجك
مراجعة: أكرم محيي الدين