جمهورية أفلاطون هي أحد النصوص الأساسية للفلسفة الغربية والفكر السياسي، وهي مكتوبة بوصفها حوارًا حيًا بين سقراط وزملاء أفلاطون وغيرهم. يقدم كتاب «الجمهورية» فحصًا شاملًا للعدالة وكيف يمكن تحقيقها -أو عدم تحقيقها- سياسيًا.
في معظم الكتاب، يقدم أفلاطون الحجج الفلسفية لأعلى شكل من الحكم وهو الأرستقراطية، إذ يحكم فلاسفة حكماء وفاضلون، وإمكانية وجود دولة «مثالية» كهذه -أو عدم وجودها- يبقى سؤالًا مفتوحًا.
لم يكن الغرض من كتاب الجمهورية أن يكون فحصًا تاريخيًا للأشكال الحالية –آنذاك- من الحكم، بل مناقشة فلسفية للإيجابيات والسلبيات لأنظمة سياسية افتراضية مختلفة.
يقول مارك بليتز، أستاذ الفلسفة السياسية في كلية كلايرمونت ماكينا في كاليفورنيا: في رأي أفلاطون، فإن هدف الحكومة هو تعزيز التميز البشري والفضيلة البشرية، على هذا فإن أفضل أشكال الحكم هو حكم الفلاسفة.
لكن تظل الأسئلة الأساسية للجمهورية هي: ما العدالة؟ وما حدود العدالة سياسيًا؟
تظهر هذه الحدود في الكتاب الثامن من الجمهورية، إذ يناقش سقراط أشكال الحكم الأدنى مرتبة بترتيب تنازلي: الأوليغاركية، والتيموقراطية، والديمقراطية، والاستبداد.
1- الأرستقراطية:
في اللغة اليونانية تعني كلمة «الأرستقراطية» حرفيًا «حكم الأفضل»، في رأي أفلاطون، ليست الأرستقراطية مجتمعًا يحكمه طبقة غنية من النخبة أو النبلاء، بل مجتمع يقوده أعظم مواطنيه، يصف سقراط هؤلاء الحكام بأنهم «أفضل الفلاسفة وأشجع المحاربين»، المخلصين للمصلحة العامة.
يقول بليتز: الفلسفة في اليونان القديمة لم تكن ذلك الانضباط الأكاديمي المحدد الذي نتعامل معه الآن. إذ كانت الفلسفة تعني الدراسة الكاملة للأمور البشرية، متضمنةً الرياضيات والعلوم الطبيعية والسياسة.
كان يُختار الفلاسفة الحكام في الدولة المثالية لأفلاطون من الطفولة بناءً على شخصيتهم الأخلاقية ومواهبهم البدنية، ويُعلَّم المرشحون الواعدون ويُدربوا على تفوق العقل وكبح جماح العواطف، ويتولى أفضل هؤلاء الفلاسفة الحكم معًا بوصفهم ملوكًا حكماء ومحسنين.
لتجنب الإغراءات والفساد، لم يكن الحكام الفلاسفة في نظر أفلاطون يحصلون على أي دخل أو يكون بوسعهم امتلاك ممتلكات خاصة، وكانوا يتقاسمون كل شيء بالاشتراك مع زملائهم الأوصياء، حتى زوجاتهم وأولادهم.
في رأي أفلاطون، فإن مجتمعًا يحكمه فلاسفة يمارسون أعلى درجات الحكم الأخلاقي والسياسي، من شأنه أن يوفر أكبر فرصة لمواطنيه لتجربة العدالة والسعادة والسلام الحقيقيين.
لكن حتى في رأي أفلاطون فإن هذه النوعية من الحكام «إن لم تكن مستحيلة حرفيًا، فهي على الأقل غير محتملة للغاية».
يقول بليتز، مؤلف كتاب الفلسفة السياسية لأفلاطون: بشأن ما قصده أفلاطون بفيلسوف حقيقي، ربما يمكنك أن تعد على أصابعك عدد من عاشوا منهم على الإطلاق، مثل أرسطو ولوك وهيغل. في جيل واحد، قد يكون لديك عدد قليل منهم في أفضل الأحوال.
ولما كان أفلاطون قد أدرك أن الأرستقراطية الفلسفية الحقيقية -إذا كانت قابلة للتحقيق- ستكون قصيرة المدى، فقد استخدم الكتاب الثامن من الجمهورية لوصف أشكال الحكومة الأدنى.
2- التيموقراطية:
كان كل نظام من «الأنظمة الأدنى» في رأي أفلاطون، يهيمن عليه نوع مختلف من الشخصية البشرية، أو عيب الشخصية. فالتيموقراطية هي مجتمع يحكمه من يحبون الشرف فوق كل شيء.
يقول بليتز : تمثل أسبرطة القديمة مثالًا جيدًا -وإن كان ناقصًا- للنظام التيموقراطي. فقد كان مجتمعًا «مكرسًا للحرب وشرف المحارب، وليس للتميز الكامل».
في كتاب الجمهورية، عندما طُلب من سقراط وصف شخصية من ينجذبون إلى التيموقراطية، أجاب: هو شخص محب للسلطة ومحب للشرف. يدعي الحكم، ليس لأنه ذو فضيلة، بل لأنه جندي خاض الحروب. وهو أيضًا محب للرياضة والصيد.
يتحدث أفلاطون كثيرًا عن «الروح» في كتاب الجمهورية. إذ يشرح أن الجسد هو مجرد أداة للروح الخالدة، التي يمكن قد تكون فاسدة بالرذيلة أو مطهرة بالفضيلة، على هذا فإن روح الفيلسوف الحقيقي يهيمن عليها العقل.
أما روح التيموقراطي فتهيمن عليها «الروحانية»، ثوموس في اليونانية، التي يصفها بليتز بأنها «موطن الغضب والكبرياء وحب الشرف».
يقول بليتز: إن حب الشرف ليس خطأ، إنه فقط غير كافٍ، فهو ليس التكريس الكامل للعقل الذي يعده أفلاطون أسمى حالات الروح.
التيموقراطية، مع أنها أدنى من الأرستقراطية، ما زالت على الأقل تركز على الصالح العام، وهو ما لا ينطبق النظام التالي، الأوليغاركية.
3- الأوليغاركية:
أحد أخطر جوانب الحكم التيموقراطي في نظر أفلاطون، وهو مدى سرعة تدهوره إلى حكم الأقلية، ففي ظل الأقلية الحاكمة، يحل حب المال الأناني الذي لا يشبع محل حب الشرف.
في كتاب الجمهورية، يصف سقراط الأوليغاركية بأنها: حكومة تستند إلى تقييم الممتلكات، إذ يكون للأثرياء القوة ويُحرم منها الفقير، فيسعى المرء عند رؤية الآخر يزداد ثراءً إلى منافسته، فتصبح الغالبية العظمى من المواطنين محبين للمال، وهكذا يزدادون ثراءً، وكلما فكروا في كسب الثروة، قل تفكيرهم في الفضيلة، وكلما احترمت الدولة الثروة والأثرياء، احتقرت الفضيلة والفاضلين.
فهم أفلاطون الجاذبية التي لا تمكن مقاومتها للمال، وتأثيره الفاسد على الحكام، لهذا السبب في مجتمعه المثالي، لا يتلقى الفلاسفة الحكام مستحقات سوى الطعام والمأوى، ولن يُسمح لهم بامتلاك أو تراكم الممتلكات. عندما تُقدر الثروة والممتلكات فوق كل شيء آخر، تتركز القوة في أيدي قلة لن تتورع عن شيء في سبيل الحصول على المزيد.
في رأي أفلاطون، لم يكن النمو الاقتصادي همًا سياسيًا كما في الديمقراطيات الرأسمالية اليوم.
يقول بليتز: عمومًا، كان أفلاطون ينظر بعين الريبة إلى المشروع بأكمله، المتعلق بالنمو الاقتصادي والتطور البشري.
4- الديمقراطية:
لا يعد أفلاطون الحرية والعدالة والمساواة متطلبات لمجتمع عادل، في الواقع، كانت الشكوى الرئيسية لأفلاطون من الديمقراطية أنها أدت إلى «فائض من الحرية».
في رأي أفلاطون، كان أحد تحديات الحالة البشرية هي الاختيار بين الرغبات «الضرورية» و«غير الضرورية» في الأرستقراطية، وهذه ليست مشكلة لأن الحكام الفلاسفة يستخدمون قدراتهم الفائقة للرغبة فقط في الأشياء التي تؤدي إلى الصالح العام، حتى الأوليغاركيون سيوجهون طاقتهم نحو بعض الرغبات الضرورية، وإن كانت أدنى من الشرف والثروة.
المشكلة الحقيقية في الديمقراطية -مع الأخذ في الحسبان أن أفلاطون يتحدث عن التجربة الأثينية بعيوبها- أن الحكومة تعمل وفقًا لهوى الرغبات الفردية، وهي -في كثير من الحالات- غير ضرورية وتتعارض مع الصالح العام.
يقول بليتز: توجد حرية في الديمقراطية، لكن هذه الحرية ليست موجهة، بل مفتوحة لأي نوع من الرغبة، ما يؤدي إلى نوع من خفض أو تقليل قيمة المجتمع.
لهذا السبب، لم يكن أفلاطون من محبي المساواة، ففي رأيه، ليس كل مواطن مؤهلًا لتولي دور قيادي، ويجب أن تُترك القرارات المؤثرة في المجتمع الأوسع في أيدي النخبة، دون تقيد بطبقة أو أسرة معينة، بل تحددها الموهبة والتدريب.
في كتاب الجمهورية، يضع أفلاطون الديمقراطية أدنى مرتبةً من الأوليغاركية، لأنه يراها الخطوة الطبيعية التالية للثورة، فعندما يمل الفقراء من الظلم، فإنهم سيطيحون بالأوليغاركيين ويستخدمون أدوات الديمقراطية، لحرمان الأثرياء من ممتلكاتهم وتوزيعها بين الناس، كما يقول سقراط.
هذه العقلية الشعبية هي «الحشد» في منطق أفلاطون، التي تساعد على تشكل الاستبداد أو الطغيان.
5- الاستبداد أو الطغيان:
كيف يصل الطاغية إلى السلطة؟ يكون ذلك من خلال التظاهر بأنه حامي الشعب.
يقول سقراط في كتاب الجمهورية: إن الناس دائمًا ما لديهم بطلًا يعينونه فوقهم ويرعونه حتى يصلوا إلى العظمة، هذا البطل دون سواه هو الجذر الذي ينبع منه الطاغية. فعندما يظهر لأول مرة فوق الأرض يكون حاميًا.
فور أن يحصل الطاغية على دعم الحشد، يتحول ضد أعدائه وناقديه، مستخدمًا المحاكم لإعدامهم أو نفيهم، ويحرض الطاغية باستمرار على الحروب ليجمع مؤيديه ضد عدو خارجي ويشغلهم عن حقيقة أن حياتهم لا تتحسن، وفور أن يدرك الناس أنهم أعطوا الطاغية الكثير من السلطة، يكون الأوان قد فات وتصبح حياتهم تحت سيطرته الكاملة.
الطاغية، من وجهة نظر أفلاطون، هو طرف النقيض للفيلسوف، ففي حين يهتم الفيلسوف بالصالح العام، لا يهتم الطاغية إلا بنفسه وبدائرته الداخلية، وفي حين يتحكم الفيلسوف في رغباته «غير الضرورية»، لا يبدي الطاغية أي قدر من ضبط النفس.
يقول بليتز: حجة أفلاطون في كتاب الجمهورية هي أن الطاغية هو الأكثر ظلمًا والأقل سعادة، وأن الفيلسوف هو الروح الأعدل ومن ثم الأسعد.
اقرأ أيضًا:
الانتخابات الرئاسية الأمريكية: ما المؤهلات المطلوبة للترشح؟
ما الفرق بين الشمولية والسلطوية؟
ترجمة: علي صبح
تدقيق: جلال المصري