كانت هيدي لامار من أكثر الممثلات شعبية وجمالًا في أربعينيات القرن العشرين. ومع أخذها دور البطولة في عشرات الأفلام، وتصدرها أغلفة مجلات مشاهير هوليوود، فإن قلةً من الناس كانت تعرف أن هيدي مخترعة موهوبة! إذ ساهمت هيدي في إحدى التقنيات التي كانت ركيزةً أساسيةً لأنظمة الأتصالات المستقبلية، بما في ذلك تقنية جي بي إس وواي فاي وبلوتوث.
يقول ريتشارد رودس، المؤرخ الحائز على جائزة بوليتزر، الذي كتب سيرةً ذاتيةً عن حياة هيدي: «شعرت هيدي دائمًا أن جمالها كان عائقًا لها، وأن الناس لم تكن تقدرها بسبب ذكائها. فبعد عمل لمدة 12 أو 15 ساعة في استديوهات MGM كانت هيدي تفضل التغيب عن حفلات هوليوود أو شرب نخب مع إحدى الشركات العديدة المهتمة بالعمل معها من أجل أن تحظى ببعض الوقت على طاولة اختراعاتها».
وقال رودس مؤلف كتاب: حماقة هيدي: حياة واختراعات هيدي لامار، أجمل امرأة في العالم: «كان لدى هيدي مرسمًا وجدارًا كاملًا مليئًا بالكتب الهندسية. ومع أنها لم تكن مهندسةً أو عالمة رياضيات مدربة، لكن هيدي كانت بارعةً في حل المشكلات. وكانت معظم اختراعاتها تمثل حلولًا عمليةً للمشكلات التي تواجهنا في حياتنا اليومية؛ مثل ملحق مضاف لعلبة المناديل لوضع المناديل المستخدمة، أو طوق كلاب متوهج في الظلام».
في أثناء الحرب العالمية الثانية، طورت هيدي طريقةً لنقل الإشارات الراديوية تعتمد في عملها على تغيير تردد حامل الإشارة، الأمر الذي يُعرف بنظام القفز الترددي للاتصالات. وهو اختراع معترف به الآن على أنه تقنية أساسية للاتصالات الآمنة، لكنها لم تحصل على الفضل في اختراعها حتى وقت متأخر جدًا من حياتها.
طفولة هيدي لامار في النمسا
ولدت هيدويغ إيفا كيزلر التي عُرفت باسم هيدي لامار في فيينا في النمسا عام 1914. وكانت الطفلة الوحيدة لعائلة يهودية علمانية ثرية، بدءًا من والدها الذي كان مديرًا لبنك، وأمها التي كانت عازفة بيانو في الأمسيات الموسيقية. تلقت هيدي تعليمها وصفوفًا في الباليه والبيانو والفروسية، وظهرت على هيدي علامات لامتلاكها فضولًا هندسيًا طبيعيًا منذ سن مبكرة. في النزهات الطويلة في شوارع فيينا الصاخبة، كان والد هيدي يشرح لها آلية عمل عربات الترام، وكيف تتولد الكهرباء في محطة توليد الطاقة. وفي عمر الخمس سنوات فككت هيدي صندوقًا موسيقيًا وأعادت تجميعه قطعةً قطعة.
يقول رودس :«لم تتلق هيدي أي نوع من التعليم في المجال التقني، لكن هذا المجال استحوذ على مكانة خاصة في قلبها. أحبت والدها حبًا جمًا، ولذلك من السهل القول إنها تعلقت بهذا المجال بسبب حبها لوالدها، لتصبح من المخترعين الهواة».
العرض الأول لفيلم هيدي في مراهقتها
حتى لو رغبت هيدي بأن تكون عالمةً أو مهندسة، لكن هذا المجال لم يكن متاحًا لفتيات فيينا في ثلاثينات القرن العشرين. وعوضًا عن ذلك، توجهت أنظار هيدي نحو مجال صناعة الأفلام.
يقول رودس: «في سن 16 عامًا، زور
ت هيدي ملاحظة لمعلميها تقول فيها: «لن تتمكن ابنتي من الذهاب إلى المدرسة اليوم». وذلك حتى تتمكن من الذهاب إلى أكبر استديو للأفلام في أوروبا والدخول من الباب لتقول: مرحبًا، أريد أن أكون نجمةً سينمائية».
بدأت هيدي مراقبة للنص، لكنها سرعان ما حصلت على بعض الأدوار الثانوية. واصطحبها المخرج النمساوي ماكس راينهارت إلى برلين حيث تألقت في بعض الأدوار التي قامت بها في بضعة أفلام، قبل أن تأخذ دورًا في عمر 18 في فيلم يسمى إكستاسي للمخرج التشيكي غوستاف ماشاتي. ندد البابا بيوس الحادي عشر بهذا الفيلم ومُنع من العرض في ألمانيا، ومنعته الهيئات الجمركية الأمريكية وذلك لكونه مخلًا للحياء.
أطلق راينهارت على هيدي لقب المرأة الأجمل في أوروبا. وحتى قبل ظهورها في فيلم إكستاسي، لفتت هيدي الأنظار في عروضها المسرحية في جميع أنحاء أوروبا. خلال عرض المسرحية الشهيرة في فيينا التي سُميت سيسي، لفتت هيدي أنظار تاجر السلاح النمساوي الثري فريتز ماندل. ليتزوج هيدي وماندل عام .1933 لكن الزواج كان خانقًا منذ بدايته، فقد أجبر ماندل زوجته على مرافقته في أثناء عقده صفقات مع العملاء بما في ذلك مسؤولين من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وحتى موسوليني نفسه.
يقول رودس: «كانت هيدي تجلس على العشاء مستمعةً بكل ضجر للمناقشات حول القنابل والصواريخ. ومع ذلك كانت تكتسب المعلومات حول كل ما تسمع».
ويضيف رودس: «بالطبع، لم يسألها أحد أية أسئلة، وكان من المفترض أن تكون جميلةً وصامتة. لكنني أظن أنه من خلال تلك الأحاديث طورت معرفتها حول آلية توجيه الصواريخ». وعام 1937 هربت هيدي من زواجها الفاشل، لأنها لم تعد تحتمل الحياة مع زوجها الذي كان شديد الغيرة عليها، وتركت النمسا.
بلد جديد واسم جديد
كانت بداية هيدي الجديدة في لندن، حيث كان لويس ماير من استديوهات MGM يشتري عقود الممثلين اليهود الذين لم يعد بإمكانهم العمل بأمان في أوروبا.
التقت هيدي مع ماير لكنها رفضت عرضه المنخفض جدًا والبالغ 125 دولارًا في الأسبوع في عقد حصري مع شركة MGM. وبخطوة ذكية منها حجزت هيدي رحلة إلى الولايات المتحدة الأميركية على متن السفينة الفاخرة إس إس نورماندي، وكانت السفينة نفسها التي كان ماير عائدًا على متنها إلى وطنه.
حرصت هيدي على أن تبدو جميلةً على ظهر المركب في أثناء لعبها التنس مع بعض الرجال الوسيمين، ويقول رودس: «بحلول وقت الوصول إلى نيويورك، كانت هيدي قد أبرمت صفقةً أفضل بكثير من الصفقة السابقة تبلغ 500 دولار في الأسبوع، بشرط أن تتعلم اللغة الإنكليزية في ستة أشهر». لكن ماير طلب شيئًا آخر، وهو تغيير اسمها بحجة أن اسم هيدويغ كيزلر بدا ألمانيًا للغاية. كانت زوجة ميلر من محبي الممثلة باربارا لامار التي توفيت عن عمر 29 عامًا، لذلك قرر مايير أن الممثلة الجديدة ل MGM ستعرف باسم هيدي لامار.
ممثلة نهارًا و مخترعة ليلًا
لم يستغرق الأمر طويلًا حتى لمعت هيدي في سماء هوليوود، وكان من ألمع أدوارها دورها المتميز جنبًا إلى جنب مع تشارلز بوير في فيلم ألجيرز عام .1938 وبعد ذلك لعبت هيدي العديد من الأدوار طوال أربعينيات القرن العشرين. وبقدر ما استمتعت بنجوميتها في هوليوود، وجدت توأم روحها هاورد هيوز وهو منتج أفلام ومهندس طيران، وشاركت معه فكرة اختراعات عدة من بينها حبة تذوب في المياه لتحولها إلى مشروب غازي. وظف هيوز بعض الكيميائيين للعمل معها، لكن معظم أعمال هيدي كانت تتم في منزلها وعلى مرسمها، حيث كانت ترسم تصاميم لحلول إبداعية للمشاكل اليومية. إضافةً إلى الاختراعات التي ذكرناها سابقًا، ابتكرت هيدي مقعد دش خاص لكبار السن.
يقول رودس: «كانت هيدي مخترعةً بالفعل. إذا رأيت مخترعين حقيقيين من قبل، فهم في أغلب الأحيان ليسوا أشخاصًا قد تلقوا تعليمًا عاليًا، بل هم أناس يرون العالم بطريقتهم الخاصة. فعندما يجدون شيئًا لا يعمل على نحو صحيح، لا يطلقون الشتائم كما يفعل أغلبنا، بل يكتشفون طريقةً لحل المشكلة».
لامار تتحدى الغواصات الألمانية
عام 1940 كانت هيدي مستاءةً بشدة جراء الأخبار الجديدة القادمة من أوروبا، حيث كانت آلات الحرب الألمانية تكتسح الأراضي اكتساحًا ملحوظًا، والغواصات الألمانية تعيث فسادًا في المحيط الأطلسي. وكانت هذه المشكلة أكثر صعوبةً من المشكلات التي اعتادت على حلها، لكن هيدي كانت مصممةً على أداء دورها ضمن الحرب.
كانت نقطة التحول عندما التقت هيدي بالملحن الموسيقي جورج أنثيل في حفل عشاء، علمًا إن جورج كان قد فقد أخاه في الأيام الأولى للحرب. كان هناك الكثير من التشابه بين جورج وهيدي، فكلاهما يتمتع بطريقة تفكير غير تقليدية وذكاء لامع، وكانا مصممين على إيجاد طريقة لإيقاف هتلر.
وهنا يظن رودس أن هيدي استعانت بالمعرفة التي اكتسبتها قبل سنوات في اجتماعات العمل المملة التي حضرتها مع زوجها الأول في فيينا، وكانت مدركةً لوجود مشكلة في تصويب الصواريخ. فلو تمكن البريطانيون من الإطاحة بالغواصات الألمانية بصواريخ تطلق من السفن أو الطائرات، فقد يكون من الممكن إيقاف سفك الكثير من الدماء. من الواضح أن الإجابة كانت تكمن في صواريخ تتحكم بها موجات الراديو، لكن كيف سيمنعون الألمان من التشويش ببساطة على موجات الراديو؟
يعتقد رودس أن الحل الإبداعي لهيدي وأنثيل كان مستوحى من حبهما المتبادل للبيانو!
تسخير هيدي وأنثيل الموسيقى لاستلهام الاختراع
في أثناء جلسات العصف الذهني المتأخرة، لعب كل من هيدي وأنثيل لعبةً موسيقية. إذ كانا يجلسان معًا على البيانو ويبدأ أحدهما في عزف أغنية شعبية، والآخر يرى كم من الوقت قد يتطلب للتعرف عليها، ومن ثم يعزفان سويًا. وفي تلك اللحظة يظن رودس أن هيدي وأنثيل قد راودتهما الفكرة نفسها، وهي نظام القفز الترددي. فإذا عزف موسيقيان نفس الموسيقى، يمكنهم التنقل حول لوحة المفاتيح بتزامن مثالي. لكن إذا كان المستمع جاهلًا للأغنية، من المستحيل له التعرف على المفتاح الذي سيتم الضغط عليه لاحقًا. باختصار، كانت الموجة مخفيةً في الترددات المتغيرة باستمرار.
كيف طُبقت هذه الفكرة على الصواريخ الموجهة بموجات الراديو؟ كان بإمكان الألمان بالطبع التشويش على تردد راديوي واحد، لكن ليس على سيمفونية من الترددات المتغيرة باستمرار.
يقول رودس، إن كل ما كانا بحاجته هو ساعتان متزامنتان، لكن بشرط أن تبدأ الساعتان في السفينة وداخل الصاروخ بنفس الوقت. وسيبقى التزامن مستمرًا بين السفينة والصاروخ حتى لو كانت الموجات تتغير كل ثانية، وأي شخص سيحاول التشويش على الإشارة لن يعرف مكانها من لحظة إلى أخرى لأنها تتغير باستمرار. وكانت هيدي وراء تسميته بنظام القفز الترددي.
القوات البحرية ترفض الاختراع
طور هيدي وأنثيل اختراعهما بمساعدة وكالة ظهرت في زمن الحرب، سميت المجلس الوطني للمخترعين. وكانت الوكالة مكلفةً بتنفيذ الاختراعات المدنية في المجال الحربي. ربط المجلس هيدي وأنثيل مع فيزيائي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وعمل على تنفيذ الجزء الإلكتروني ليكون العمل متكاملاً. وعندما انتهى العمل على براءة الاختراع عام 1942، عرض أنثيل الفكرة على البحرية الأمريكية التي كانت أقل تقبلًا ولم تعطه الفرصة أبدًا. وحُفظت براءة اختراع هيدي وأنثيل في خزنة حتى نهاية الحرب، ووصفت بأنها وثائق سرية للغاية. عاد هيدي وأنثيل إلى وظائفهما وروتينهما اليومي، ظنًا منهما أن اختراعهما لن يبصر النور. ولم يعلما أن الاختراع سيعود للحياة لاحقًا.
نظام القفز الترددي مرةً أخرى
في خمسينيات القرن العشرين، استخدمت شركة سيلفانا المصنعة للكهرباء نظام القفز الترددي، لبناء نظام آمن للتواصل مع الغواصات. وفي أوائل ستينيات القرن العشرين طُبقت هذه التكنولوجيا على السفن الحربية الأمريكية لمنع التشويش السوفيتي على الإشارات في أثناء أزمة الصواريخ الكوبية.
توفي أنثيل عام 1959، بينما لم تكن هيدي تعرف أن فكرتها على وشك أن تحقق نجاحًا كبيرًا. عندما أصبحت هواتف السيارات شائعةً لأول مرة في سبعينيات القرن العشرين، استخدمت شركات الاتصالات نظام القفز الترددي لتمكين مئات المستخدمين من مشاركة طيف محدود من ترددات الراديو. وطُرحت ذات التكنولوجيا لشبكات الهاتف الخليوي الأولى.
بحلول عام 1990، كان نظام القفز الترددي في كل مكان لدرجة أنه أصبح المعيار التكنولوجي المطلوب من قبل لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية (FCC) للاتصالات اللاسلكية الآمنة. هذا هو السبب في أن بلوتوث وواي فاي والتقنيات الأساسية الأخرى تعتمد في جوهرها على فكرة حلمت بها هيدي لامار وجورج أنثيل.
مع مرور الوقت، خفت نجم هيدي في هوليوود وتقاعدت في فلوريدا، حيث واصلت العبث بالاختراعات الجديدة، بما في ذلك نوع من إشارات المرور “ملائم للسائق”. لم يكن الأمر كذلك حتى بلغت هيدي الثمانينات من عمرها، إذ أدركت مجموعة من المهندسين أن اسم “هيدفيغ كيسلر ماكاي” المدرج في براءة اختراع القفز الترددي لم يكن سوى أسطورة هوليوود، هيدي لامار.
يقول رودس: «لم تكن هيدي تريد المال، لكنها أرادت أن تلفت الأنظار. وقد أغضبها حقًا أن أحدًا لم يمنحها الفضل في هذا الاختراع المهم. وفي تسعينيات القرن العشرين، حصلت أخيرًا على جائزة لمساهمتها».
اقرأ أيضًا:
ترجمة: لؤي بوبو
تدقيق: جنى الغضبان
مراجعة : باسل حميدي
https://www.history.com/news/hedy-lamarr-inventor-frequency-hopping-wifi?fbclid=IwAR3teNgj3tVLFQNM3_impHgcHZgaIzO-PL8Hia4cF0yKFFIsVpTlbl3VGGE