في تجربة جديدة ورائدة خدّر العلماء الفئران وأثبتوا أن الهياكل الدقيقة في أدمغة القوارض لها دور حاسم في إدراك الوعي. هذه الهياكل الأنبوبية المجهرية، المعروفة باسم (الأنابيب الدقيقة)، لا تعتمد على القوانين التقليدية للفيزياء كما نعرفها. بل يعتقد العلماء أن هذه الأنابيب تُجري عمليات مدهشة في عالم الكم.

واستنادًا إلى أعمال بحثية سابقة، استنتجت الدراسة أن هذه العمليات الكمومية قد تحدث أيضًا في أدمغة البشر.

استخدم العلماء في كلية ويليسلي بولاية ماساتشوستس الأيزوفلورين على القوارض في إطار تجاربهم على أدمغة الفئران، وهو مخدر عام يُستخدم للحفاظ على حالة فقدان الوعي في أثناء العمليات الجراحية. تلقت مجموعة من الفئران المخدرة كذلك أدوية تُثبّت الأنابيب الدقيقة، في حين لم تُعطَ هذه الأدوية للمجموعة الأخرى. أظهرت النتائج أن الفئران التي تلقت المثبتات ظلت واعية فترة أطول مقارنةً بالفئران التي لم تتلقَ المثبتات، إذ فقدت الأخيرة الاستجابة الصحيحة بسرعة أكبر (أي قدرتها على استعادة الوضع الطبيعي). وقد نُشرت هذه النتائج في مجلة eNeuro التي تخضع لمراجعة الأقران في أغسطس 2024.

تكتسب دراسة ويليسلي أهمية بالغة لأنها تسهم في إضفاء المزيد من الوضوح على لغز الوعي الذي حير العلماء عقودًا طويلة. إنها خطوة كبيرة نحو تأكيد النظرية التي تفترض أن أدمغتنا تُجري عمليات كمومية، وهذه القدرة هي التي تولّد وعينا، وهي فكرة نالت رواجًا كبيرًا على مدى الثلاثة عقود الماضية.

ظهرت فكرة ارتباط فيزياء الكم بالوعي أول مرة في التسعينيات، عندما طرح الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل، روجر بنروز، بالتعاون مع طبيب التخدير ستيوارت هاميروف، فكرة الأنابيب الدقيقة العصبية التي تؤدي بعمليات كمومية في أدمغتنا ينتج عنها الوعي. وفي بحث نُشر عام 1996، افترضا أن الوعي يعمل كموجة كمومية تنتقل عبر الأنابيب الدقيقة في الدماغ، ما أُطلق عليه اسم نظرية (Orch OR) التي تشير إلى قدرة الأنابيب الدقيقة على إجراء تحليلات كمية من خلال عملية رياضية أطلق عليها بنروز اسم (الاختزال الموضوعي).

لا تتعامل فيزياء الكم مع الجسيمات بالأسلوب الذي تعتمده الفيزياء الكلاسيكية، فللجسيم موقع فيزيائي محدد كلاسيكيًا، بينا يُعد سحابة من الاحتمالات في فيزياء الكم. وعندما يتفاعل الجسيم مع بيئته -كما يحدث عند مراقبته بواسطة جهاز قياس- يفقد التراكب الكمومي الذي يسمح له بالوجود في حالات متعددة، وينهار إلى حالة محددة يمكن قياسها. وقد افترض بنروز أن انهيار دالة الموجة الكمومية بهذه الطريقة في الدماغ يؤدي إلى لحظة من الوعي.

في حال تأكيد صحة نظرية الكم للوعي المرتبطة بالأنابيب الدقيقة، فقد يحدث تغيير جذري في فهمنا للوعي، بل ويُعزّز النظرية التي تفترض أن الوعي قد يوجد على المستوى الكمومي في جميع الأماكن في الوقت ذاته. وبعبارة أخرى، يمكن للوعي أن يكون حاضرًا في كل مكان بالتزامن، ما يشير إلى إمكانية ارتباط وعيك بالجسيمات الكمومية خارج دماغك، وربما يتشابك مع وعي منتشر في أرجاء الكون.

تواجه نظرية (Orch OR) بعض الشكوك من العلماء، لأن التأثيرات الكمومية التي تُلاحظ تُنتج فقط في المختبرات عند درجات حرارة شديدة البرودة. إذ تعتمد الحواسيب الكمومية الحديثة مثلًا على درجات حرارة تقترب من الصفر المطلق (حوالي -273 درجة مئوية) للحفاظ على حالتها الكمومية. أما الدماغ فتتراوح حرارته بين 32 و40 درجة مئوية في أعمق مناطقه، فتبدو تلك الظروف خارج النطاق اللازم للظواهر الكمومية، وفقًا لدراسة أُجريت عام 2022. لكن الأبحاث على مدى سنوات جمعت بيانات مشجعة تشير إلى أن بعض العمليات الكمومية قد تكون مسؤولة بالفعل عن وظائف الحياة في الكائنات الحية، ومنها الحيوانات والنباتات.

يعتقد العلماء مثلًا أن النباتات التي تعيش في درجات حرارة أعلى بكثير من الصفر المطلق قد تستخدم العمليات الكمومية لتحويل الضوء بكفاءة إلى طاقة. فأولاً، تحول النباتات الفوتونات (أو جزيئات الضوء) إلى شكل من المادة يُعرف بالإكسيتونات، ثم تنقلها إلى البلاستيدات الخضراء لبدء عملية التركيب الضوئي. ويجب خلال هذه الرحلة أن تتنتقل الإكسيتونات بسرعة حول الهياكل الداخلية للنبات للحفاظ على طاقتها حتى تصل إلى وجهتها. ويقترح العلماء أن النباتات قد تستخدم خاصية التراكب الكمومي لاستكشاف جميع المسارات الممكنة في وقت واحد، ما يساعدها على الوصول إلى وجهتها بأكثر الطرق فعالية.

وبالمثل، قد يكون من المعقول أن تعمل مليارات الخلايا العصبية في الدماغ بالتزامن باستخدام خاصية التشابك الكمومي، وهي ظاهرة تشير إلى ارتباط جسيمين بعيدين جدًا عن بعضهما. لاحظ العلماء هذا التشابك في الجسيمات الذرية، فعند دراسة أحد الجسيمات، يتغير جسيم آخر بعيد عنه في خصائصه، رغم عدم وجود أي اتصال مباشر بينهما. وقد أظهرت دراسة نُشرت في أغسطس 2024 في مجلة (Physics Review E) أن مادة الميالين الدهنية التي تغلف محاور الخلايا العصبية قد توفر بيئة مثالية لهذا التشابك. وبما أن الدماغ يبدو قادرًا على إجراء عمليات كمومية، قد تكون هذه العمليات أساسًا لنشوء الوعي.

دعمت دراسات بارزة أخرى أيضًا هذا المنظور الكمومي للوعي، وفي إحدى الدراسات استخدم العلماء جسيمات الضوء لاختبار الأنابيب الدقيقة، ووجدوا أن الإشارة لم تتحلل، بل أظهرت تماسكًا كموميًا أطول مما كان متوقعًا. وفي دراسة أجراها الفيزيائي وأستاذ الأورام جاك توزينسكي، استُخدمت الفوتونات فوق البنفسجية لإحداث تفاعلات كمومية استمرت لمدة تصل إلى خمس نانوثانية، وهي فترة أطول بآلاف المرات مما كان يُتوقع في الأنابيب الدقيقة. كما أجرى باحثون في جامعة سنترال فلوريدا تجارب على الأنابيب الدقيقة باستخدام الضوء المرئي، وقاسوا مدة إعادة إصدار الضوء، ولاحظوا أنها امتدت على مدى مئات المللي ثانية، وهي فترة كافية لعمل الدماغ.

تُعد هذه النتائج بمثابة دليل ملموس على قدرة الخلايا العصبية على العمل بسرعات تسمح بإجراء عمليات كمومية. هذا التقدم يُقربنا خطوة أخرى من فهم كيفية ارتباط أدمغتنا -وربما وعينا- بالكون الكمومي. قد تفتح فكرة (العقل بوصفه ظاهرة كمومية) لنا أفقًا جديدًا في تفسير مجموعة واسعة من الأسئلة، مثل وعي مرضى الغيبوبة أو الحيوانات.يقول عالم الأعصاب مايك ويست بوصفه أستاذ في كلية ويليسلي ومشارك في الدراسة: «إضافةً إلى هذا العمل الجديد الذي يساعدنا على فهم كيفية معالجة المشكلات الصحية المتعلقة بالدماغ، فإننا على أعتاب عصر جديد لفهمنا لطبيعتنا البشرية».

اقرأ أيضًا:

الوعي البشري قد يكون ناجمًا عن تشابك كمومي في الخلايا العصبية!

من أين ينشأ الوعي؟ مناقشة أبرز النظريات العلمية

ترجمة: لور عماد خلیل

تدقيق: مؤمن محمد حلمي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر