يعد الذيل البشري الآن حالة نادرة جدًا لها خلفية تطورية، فقد امتلك أسلافنا والرئيسيات الأخرى ذيولًا منذ عشرات ملايين السنين، وفي وقتنا الحاضر لا تزال الذيول موجودة عند رئيسيات عديدة، منها السعادين والليمور، لكن أسلاف الإنسان الحديث والرئيسيات الأقرب له كالشمبانزي والقرود والبونوبو فقدوا ذيولهم كاملةً في أثناء تنوعهم وتطورهم.
لكن لماذا حافظت بعض الرئيسيات على ذيولها، بينما خسرها البشر والقرود؟ يُعتقد أن خسارة الذيل البشري جزء من تطور البشر وتحولهم للسير على قدمين، وقد حاول العلماء طويلًا معرفة كيفية حدوث ذلك.
كشف العلماء مؤخرًا عن المفتاح الجيني المرتبط بغياب الذيل البشري، وحددوا جينًا قافزًا مرتبطًا بنمو الذيل، وقد قفز هذا إلى موقع مختلف ضمن جينوم أنواع الرئيسيات منذ ملايين السنين مسببًا طفرة أفقدتنا ذيولنا.
على الرغم من تلك الطفرة ما زالت الأجنة البشرية تمتلك ذيولاً، فقد كتب باحثون عام ٢٠٠٨ في مجلة نيتشر: «تعد الذيول ميزةً تمكننا من تعقب الفقاريات الأرضية الأولى، فالأجنة البشرية تملك ذيولًا في مراحلها المبكرة مثل كل الحيوانات، لكن بعد ثمانية أسابيع من الحمل تختفي الذيول نتيجة عملية بيولوجية تعرف بالاستماتة الخلوية، وتعد نوعًا من الموت الخلوي المبرمج الذي حدث في أثناء تطور الكائنات الحية متعددة الخلايا، وتبقّى منها نحو 3 أو 4 فقرات تشكل عظم العصعص أو عظم الذنب».
أحيانًا، تحدث في حالات نادرة ولادات لأطفال يملكون ذيلًا بشريًا، وتعد تلك النتوءات اللاوظيفية بقايا جنينية، وذيولًا كاذبةً أكثر من كونها حقيقية.
وفقًا لدراسة نُشرت عام ٢٠١٢ في مجلة الجمعية الهندية لجراحي الأطفال، يحتوي الذيل الكاذب المغطى بالجلد على عضلات وأعصاب وأوعية دموية ونسيج ضام، لكنه خال من العظام والغضاريف، وغير متصل مع العمود الفقري على عكس الذيول الحقيقة.
لكن كيف اختفى الذيل البشري؟
كان هذا السؤال لغزًا ومصدرًا للإثارة منذ طفولة (بو شيا) طالب الدكتوراه من كلية غروسمان للطب في جامعة نيويورك (NYU)، وفق ما صرح به لموقع ليف ساينس.
درس شيا الآليات الجينية المرتبطة بتطور البشر وحدوث المرض، ويعد المؤلف الرئيس لدراسة جديدة توصلت إلى دليل جيني دامغ لفقدان البشر ذيولهم، ونُشرت تلك الدراسة في شهر أيلول من عام ٢٠٢١ على موقع بيوركسيف ولم تُراجع.
قال شيا: «لقد تساءلت عن سبب عدم امتلاكي لذيل منذ طفولتي، رغم امتلاك معظم أنواع الحيوانات له». وبعد تعرضه لإصابة في عظم العصعص قرر شيا البحث بعمق لمعرفة كيف خسر البشر والقرود ذيولهم.
كتب شيا والمؤلفون المشاركون في الدراسة: «يعد جنس البروكونسل من أوائل الرئيسيات التي فقدت الذيل البشري، والتي عاشت في أفريقيا في أثناء العصر الميوسيني (من 5 إلى 23 مليون سنة)، ولم يملك مؤشرًا على وجود فقرات ذيلية، لكن يُظن أن فقدان الذيل يعود لفترة أقدم من ذلك (قرابة ٢٥ مليون سنة) عندما ابتعدت سلالة الأناسيات من البشر والقرود عن سعادين العالم القديم».
قارن المؤلفون بيانات جينية لستة أنواع من الأناسيات وتسعة أنواع من السعادين بحثًا عن اختلافات تشير إلى وجود الذيول أو غيابها، فوجدوا قطعة قصيرة من الحمض النووي تعرف بالعنصر Alu، وهو نوع من الحمض النووي موجود ضمن جين TBXT يقفز من مكان إلى آخر في الجينوم، ويؤثر في عملية اصطناع البروتين الذي ينظم نمو الذيل، وقد حدثت تلك الطفرة في جينوم القرود والبشر، ولم تحدث عند السعادين.
استخدم الباحثون بعد ذلك تقنية كريسبر لتعديل الجينات لنسخ الطفرة في جين (TBXT) على الفئران.
تنوعت أطوال الذيول عند الحيوانات المعدلة وراثيًا من أطوال طبيعية إلى غياب كامل لها.
لم يكن تأثير الطفرة على الذيول وفق آلية تعطيل وتشغيل الجينات، ما دل العلماء على وجود جينات أخرى في الرئيسيات أدت دورًا في الفقدان الكامل للذيل، وقد عدّ إيتاي ياناي المؤلف المساعد في الدراسة ومدير معهد الطب الحسابي في جامعة نيويورك،،والبروفيسور في قسم الكيمياء الحيوية وعلم الأدوية الجزيئية في حديث لموقع ساينس ظهور الطفرة بالحدث الحاسم الذي عطل عملية تكون الذيل.
ظهور الذيل البشري واختفاؤه
كانت خسارة الذيل عند القرود والبشر الأوائل مفيدة لهم، إذ ساعدتهم على الوقوف والسير على قدمين، وقد حصل ذلك خلال عملية تطورية تزامنت مع خسارة الذيل، وفق ما أشار إليه الباحثون.
قالت ميشيل بيزانسون أستاذة الأنثروبولوجيا في كلية الفنون والعلوم في جامعة سانتا كلارا في كاليفورنيا: « إن الرئيسيات التي حافظت على ذيولها استفادت منها بطرق أخرى، إذ منحتها وظائف مفيدة ومتنوعة؛ من خلال امتدادها في أثناء القفز، وتوجيه الجسم في الهواء والتحضير للهبوط بعد ذلك».
وأضافت لموقع لايف ساينس: «ساعدتها الذيول على التوازن والاستقرار في أثناء الحركة وجمع الطعام وحتى النوم، وتُشكل دعامة للحيوان عندما يكون معلقًا من أرجله الخلفية».
يُستخدم الذيل أيضًا أداةً لأغراض متعددة، مثلًا، تستخدم قرود الكبوشي ذيولها لامتصاص الماء من ثقوب الأشجار كالإسفنجة ثم تشربه من فرائها، وقد تحتضنه كوسادة أو تضعه تحتها ليدفئها، أو لكي تستخدمه في أثناء السلوك الاجتماعي.
تقول بيزانسون: «أحد الأمور المفضلة لدي التي لاحظتها، عندما يستخدم صغير القرد ذيله محاولًا الإمساك بجسم أمه أو بذيلها».
هذا وتشبك القرود ذيولها بعضها ببعض في أثناء لعبها، كما أن قردة تيتي في أمريكا الجنوبية تشبك ذيولها مع شركائها تعبيرًا عن المحبة والعاطفة.
وفي حديثه عن ذلك يقول شيا: «لقد خسر الإنسان وظائف كثيرة عندما فقد ذيله، ويبقى التساؤل حول إمكانية استعادة الذيل قائمًا، لكن لسوء الحظ فقدنا ذيولنا منذ مدة طويلة جدًا تُقدر بأكثر من ٢٥ مليون سنة قبل زمن طويل من ظهور نوعنا الحالي (هومو سابينس) على الأرض، وعلى مدى ملايين السنين اللاحقة توقفت الآلية الجينية المسؤولة عن تطور الذيل في سلالتنا، وجميع القطع اللازمة لتطور الذيل فُقدت منذ مدة طويلة، لذا فاستعادتنا له غير ممكنة».
ويضيف: «حتى لو صححنا الطفرة الجينية النوعية في حمضنا النووي، سنبقى غير قادرين على إعادة تطوير بنية كهذه».
لكن تلك لم تكن المرة الأولى التي فقدنا فيها الذيل البشري، إذ وجدت دراسة جديدة أن أسلافنا الأوائل فقدوا ذيولهم مرتين وليس مرة واحدة فقط، ونُشرت النتائج في مجلة علم الأحياء الحالية، وألقت الضوء على سبب امتلاكنا لعظم العصعص، واختفاء الذيول الحقيقية التي توجد في بداية حياتنا تدريجيًا.
صرحت مؤلفة الدراسة والأستاذة المساعدة في قسم علم البيئة والأرض في جامعة بنسلفانيا لورين سالان لموقع seek: «تعود الذيول اللحمية إلى الأسلاف الفقارية الأولى، وتمتلك الأجنة في مراحل تشكلها الأولى ذيولًا أيضًا، لذا كان التخلص منها صعبًا دون التسبب بمشاكل أخرى، ونتيجةً لذلك حدثت حيلة تطورية عند البشر والأسماك، وذلك بجعل الذيل مدفونًا مثل ساقي الحيتان».
يرجع أصل الذيول المندثرة إلى الأسماك، فقد درست سالان مستحاثة لصغار نوع قديم من الأسماك عاش قبل ٣٥٠ مليون سنة يعرف بآيثيريتمون، ويعد هذا النوع من فكيات الفم، وهم سلف بعيد لحيوانات اليابسة في عصرنا الحالي، امتلكت ذيلًا حرشفيًا وزعنفة ذيل مرنة توضع إحداهما على الأخرى.
اكتشفت سالان أن تلك البنى كانت منفصلة عن بعضها تمامًا، عند مقارنة صغار آيثيريتمون مع الأسماك الحية، وجدت أن الذيلين يتشكلان واحدًا فوق الآخر، ثم ينمو كل منهما بمفرده.
غير هذا الاكتشاف الاعتقاد السائد عند العلماء منذ قرنين من الزمن إلى أن زعنفة ذيل الأسماك البالغة الحالية أضيفت ببساطة إلى نهاية ذيل سلف مشترك مع حيوانات اليابسة.
يشير هذا الانفصال إلى أن كل ذيل سلك مسارًا تطوريًا خاصًا به، فالأسماك فقدت الذيل اللحمي الذي ساعدها على السباحة بقوة، وحافظت على المرن (الزعنفة الظهرية) الذي حسن قدرتها على السباحة والقيام بحركات دقيقة، أما الأسماك التي تطورت وأصبحت برمائية ثم حيوانات برية فقدت الزعنفة المرنة وحافظت على الذيل اللحمي المعروف، والذي نراه عند الكلاب والقطط والأبقار والحيوانات الأخرى، وبالنسبة للكلاب يعد الذيل مفيدًا للتواصل البصري وإبعاد الحشرات وغيرها من الوظائف.
فقد الإنسان الذيل البشري والقرود البالغة ذيولهم لصالح السير على القدمين، ومثل الأسماك دُفنت بقايا الذيل البشري العظمي الجنيني أسفل ظهورنا، وشكلت ما يعرف بعظم العصعص، بعد فقدان الإشارات الجزيئية التي لو بقيت لكان الذيل قادرًا على النمو، مثل الذراع أو الساق، وهكذا تتشارك أجنة البشر والأسماك في الآلية المتحكمة بتشكل الذيل.
لم تكن المستحاثة المكتشفة للقرود الأولى عظيمة، لكن كما فقدت تلك القرود ذيولها فقدها البشر كذلك عندما بدأوا السير على قدمين، كما أن القرود التي تمشي بتلك الطريقة تملك ذيولًا غير مكتملة النمو، ما يدل على أن الذيل يزعجها في أثناء المشي.
اقرأ أيضًا:
كيف فقد أسلافنا ذيولهم قبل 25 مليون عام؟
ماذا لو حافظ الإنسان الحالي على ذيل مثل أسلافه؟
ترجمة: هادي سلمان قاجو
تدقيق: عبد المنعم الحسين