تشتهر الأرجنتين بمزارع الماشية ورُعاتها المعروفين باسم غاوتشو، بالإضافة إلى كون هذه المزارع تنتج كمية وافرة من لحوم البقر التي تُستهلك داخليًا، وتُصدّر خارجيًا على نطاق واسع منذ القرن التاسع عشر، فهي أيضاً أصبحت عاملاً يعزز قطاع السياحة في الأرجنتين.
في المدن، يصطف الناس في طوابير طويلة لحجز طاولة لدى أفضل مطاعم شرائح اللحم، مثل مطعم دون جوليو في العاصمة بيونس آيرس. لكن هذا الولع بلحوم البقر بدأ يغيب في عامة البلاد بسبب ارتفاع التكلفة.
توقع تقرير حديث أن معدلات استهلاك لحوم البقر في الأرجنتين في عام 2024 ستكون الأدنى منذ بدء عمليات التسجيل في 1914، مع ظهور توقعات بأن يكون معدل الاستهلاك هذا العام 44.8 كغ للفرد الواحد، بالمقارنة مع المعدل المتوسط الذي هو 73 كغ.
يمكن القول إن انخفاض الأجور واستمرار التضخم هما الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة، ولم تفلح السياسات الاقتصادية للرئيس خافيير مايلي في معالجة الحالة، بل أدت إلى مفاقمتها.
تولى مايلي منصبه في تشرين الثاني 2023 وحاز على أكبر نسبة تصويتية لرئيس أرجنتيني منذ عودة البلاد إلى الديمقراطية في 1983، وأشار في خطاباته ذات الطابع الرأسمالي المتطرف المعادي لتوسع نفوذ الدولة بأن التقشف -الذي يتضح من ظهوره المتكرر في المحافل يحمل منشارًا آليًا يمثل رغبته في تقطيع نفوذ الدولة- هو الحل الأمثل لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الأرجنتين منذ بداية 2010.
كان هذا البرنامج الانتخابي المناهض لنفوذ الدولة عاملًا رئيسيًا ساعد مايلي في صنع شعبيته، وقد انجذبت له فئة كبيرة من الناخبين الذين سئموا من الحالة السياسية الراهنة.
في الوقت الذي انتُخب فيه الرئيس مايلي، وصلت معدلات الفقر في الأرجنتين إلى 40%، ولم يكن لدى البنك المركزي احتياطيات كافية من العملة الصعبة لسداد قرض بقيمة 913 مليون دولار جزءًا من الدفعة الواجب سدادها لصندوق النقد الدولي من قرض كبير تبلغ قيمته 44 مليار دولار.
تفاقمت الأزمة بسبب الجفاف الذي يضرب الأرجنتين للعام الثالث على التوالي، ما ألحق أضرارًا فادحة بالصادرات الزراعية الرئيسية للأرجنتين.
بهدف الاستمرار في تقديم الدعم الحكومي لقطاعي الطاقة والنقل الذي كان علامةً مميزةً للإدارة السابقة، اتبعت الإدارة الحالية سياسة التمويل بالعجز، أي طباعة المزيد من النقود. ما يعني أن الخلفية الاقتصادية لتنصيب الرئيس الجديد في ديسمبر 2023 كانت ممثلة بارتفاع في التضخم السنوي إلى 210%، وتظهر أرقام شهر ديسمبر وحده زيادة بنسبة 25.5%.
تخفيض قيمة البيزو:
يؤثر التضخم المتزايد في حياة الناس اليومية. فرحلة التاكسي إلى المطار كانت تكلف 5800 بيزو أرجنتيني في مارس الفائت لكنها ارتفعت بنسبة 55% لتصبح 9000 بيزو في يوليو. ما يشكّل عبئًا ثقيلاً على المواطنين الأرجنتينيين.
اتبعت إدارة مايلي أسلوب العلاج بالصدمة، بخفض قيمة البيزو بنسبة 50% من نحو 400 بيزو مقابل الدولار الأمريكي الواحد إلى 800 بيزو في محاولة لسد الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء. لكن التدخلات على العملات الأجنبية بهدف تعزيز البيزو أدت إلى ظهور سوق سوداء مزدهرة للدولار الأمريكي مع كثير من عمليات البيع والشراء غير الرسمية، ما يؤدي بالتالي إلى خلق سعر صرف موازٍ للدولار في الأرجنتين.
كان هذا مصحوبًا بسياسة تُعرف لدى العامة باسم الخلاط، التي تعني زيادة الإنفاق بمعدل أقل من معدل التضخم، ما يؤدي إلى تحقيق تخفيضات حقيقية في الإنفاق. لكن هذا النهج سبب أضرارًا لمعاشات التقاعد التي تنخفض سنويًا بنسبة 40%.
تعرضت الأجور أيضًا للانخفاض، فخسرت أجور القطاع العام 21.3% من قوتها الشرائية وتناقص الحد الأدنى للأجور بنسبة 28.8% بين نوفمبر 2023 ومايو 2024.
وضعت إجراءات التقشف هذه الأرجنتين في ركود اقتصادي، لكنها أيضًا نجحت في خفض التضخم بنسبة 4.6% في يونيو 2024. ومنذ أبريل 2024، ساعدت هذه الإجراءات الحكومة على تحصيل إيرادات ضريبية تفوق قيمتها النفقات الحكومية، وبالتالي تحقيق فائض مالي، وهو ما أشادت به الأسواق المالية وصندوق النقد الدولي.
لكن الأرجنتين دفعت ثمنًا باهظًا جراء هذه السياسات. فرفع الدعم الحكومي عن الطاقة ساهم في زيادة تكاليف المعيشة بنسبة 80%. وتظهر الأرقام الصادرة عن الجامعة الكاثوليكية الأرجنتينية أن معدلات الفقر بلغت 57% بحلول فبراير 2024، وأن معدل التشرد في بوينس آيرس وحدها يرتفع بنسبة 14% سنويًا. وحذرت منظمة اليونيسيف من أن نسبة الفقر بين الأطفال في طريقها لتصبح 70%. وقد أدت إجراءات التقشف إلى اندلاع احتجاجات وإضرابات في عامة البلاد.
وعليه، لا يبدو الانخفاض في استهلاك لحوم البقر مفاجئًا، لكن الأمر يشكل قضيةً يجب على الرئيس مايلي التحرك إزاءها. فبالإضافة إلى أن العالم يميز الأرجنتين بإنتاجها من لحم البقر، فإن الأمر له رمزية أكبر لدى الأرجنتينيين أنفسهم، فلحم البقر من السلع الأساسية التي تدخل في سلة الاستهلاك الأساسية في البلاد، ومن المتعارف عليه أن هذه المواد الاستهلاكية الأساسية تُستخدم لقياس معدلات الفقر، بحساب قدرة الأفراد على شرائها.
في حين ما تزال الطوابير ظاهرةً أمام مطاعم شراء اللحم في الأرجنتين، فإن الطوابير الأخرى التي بدأت تُرى خارج الآلاف من مطاعم الحساء هي التي قد تكون العلامة المميزة لفترة حكم الرئيس مايلي.
اقرأ أيضًا:
هل يعود اقتصاد اليابان إلى مرتبة الاقتصاد الناشئ؟
هل اقتصاد الولايات المتحدة اقتصاد مخطط؟
ترجمة: محمد ياسر الجزماتي
تدقيق: نسرين الهمداني