بدأَت القصة قبل سبع سنوات لدى عامل مزرعة من خارج مدينة كانساس في ميسوري بالولايات المتحدة، يبلغ من العمر 56 عامًا، عندما بدأ بملاحظة ظهور طفح جلدي على خاصرته وذراعيه في غضون ساعات قليلة من تناوله شطيرة من الهامبرغر، ولم يكن متأكدًا حينها مما يجب عليه فعله للتعامل مع ذلك الموقف الغريب!
لم يقتصر ظهور الطفح الجلدي والشرى عند المريض دائمًا بعد تناول وجبة تحتوي على اللحوم الحمراء، بل قد يتكرر ظهورها عدة مرات خلال الأسبوع الواحد، إضافةً إلى إصابة المريض نادرًا بضيق في التنفس، ولكن لم تكن الأعراض على درجة عالية من الخطورة أو الشدة التي قد تستدعي زيارة الطبيب.
تعد هذه الحالة من الحالات الخاصة التي نشرت مؤخرًا في المجلة الطبية بي إم جي، والتي يلخص فيها التاريخ الطبي الكامل للمريض الذي يعد أكثر تعقيدًا بسبب معاناة المريض الحساسية الموسمية إضافةً إلى تلقيه العلاج ضد فيروس نقص المناعة البشرية الذي أصيب به في سن الواحد والعشرين.
مثله مثل الكثير من المصابين بمتلازمة ألفا-غال (AGS)، وهي رد فعل تحسسي تجاه اللحوم الحمراء وغيرها من المنتجات المشتقة من الحيوانات الثديية، والتي تظهر عادةً بسبب التعرض للدغة القراد، ولكن لم تكن حينها الآلية المرضية التي تتسبب فيها لدغة القراد بالحساسية واضحة تمامًا.
كان الأطباء يطلعون على التقارير الطبية للمريض والأعراض التي يشكو منها دوريًا على مدى عدة سنوات، ولكن دون الوصول إلى استنتاجات ملموسة تفيد في تشخيص حالته المرضية بشكل دقيق وواضح، حتى أنهم حاولوا اتباع إجراءات عديدة التي قد تكون مفيدة للتشخيص، مثل تغيير المنظفات التي يستخدمها المريض في حياته اليومية، أو حتى تغيير الملابس ونوعية الأقمشة التي اعتاد أن يرتديها، ولكن دون جدوى أو فائدة ملحوظة، واستبعد الأطباء إصابة المريض بالحساسية الغذائية، إذ تحدث الأعراض عمومًا في غضون دقائق من استهلاك الطعام الذي يبدي الجسم رد فعل تحسسي تجاهه، وليس في غضون ساعات كما في حالة هذا المريض.
على الرغم من أن هذه الحالة تعد من الحالات الطبية المثيرة للحيرة، ولكنها ليست من الحالات نادرة الانتشار، فقد أبلغ عن نحو %3من سكان بعض مناطق الولايات المتحدة بأن لديهم نوع من الأعراض المرتبطة بـمتلازمة ألفا-غال AGS، وأن هذا المرض قد امتد وانتشر بلا شك عبر تاريخ البشرية، على الرغم من أننا في الحقيقة ما زلنا نعرف القليل عن كيفية انتشار هذه الحالة، فقد بدأ الباحثون بدراسة هذا المرض بالتفصيل منذ نحو 20 عامًا فقط!
في عام 2002، وبينما كان هناك العديد من الأفراد الذين يشكون معاناتهم الحساسية تجاه بعض اللحوم الحمراء ومنتجاتها، لفت انتباه الباحث البريطاني توماس بلاتس ميلز استجابات الجسم التحسسية لدى مرضى السرطان الذين كانوا يعالجون بدواء سيتوكسيماب، وقد استبعد حينها احتمال وجود أي ارتباط أو علاقة بين حالتي رد الفعل التحسسي السابقتين.
أخيرًا في عام 2008، ومع تسجيل حالات شديدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة لأشخاص يعانون رد الفعل التحسسي تجاه المعالجة بدواء سيتوكسيماب، حدد بلاتس ميلز السبب الجذري للمشكلة – استجابة الأضداد من نوع IgE لكربوهيدرات تسمى غالاكتوز ألفا- 3,1- غالاكتوز أو ما يسمى اختصارًا بـ( ألفا-غال)، وهو سكر موجود طبيعيًا في أجسام العديد من الحيوانات باستثناء الرئيسيات مثل البشر.
كما نعرف بأن ردات الفعل التحسسية تحدث عادةً بسبب استجابة الجسم لبروتين غريب عنه لا يتعرف عليه، ولم يكن تناول الكربوهيدرات سببًا شائعًا لحدوث الحساسية، ولكن بعد العديد من الدراسات، استطاع الباحث بلاتس ميلز إثبات وجود سكر ألفا-غال ضمن مكونات دواء سيتوكسيماب، والذي انتقل بطريقة ما من الفئران المعدلة جينيًا التي تستخدم لصنع هذا النوع من العلاج الكيميائي، مسببًا هذا النوع من الحساسية لدى العديد من المرضى.
ومع حل هذا اللغز وراء السبب الأساسي للحساسية، ما يزال هناك سؤال محير حول كيفية تطوير المرضى لرد الفعل التحسسي هذا في المقام الأول!!
كان هناك بعض الأدلة والحالات المشابهة التي ساعدت الباحث بلاتس ميلز بالتوصل إلى استنتاجاته، كان أحدها نمط من الحالات، التي تداخلت وتشابهت على نحو مريب مع تلك الحالة الخاصة بحمى الجبال الصخرية المبقعة التي تنتقل من خلال لدغة نوع من القراد النجمي الشكل يسمى اليغموش الأمريكي Amblyomma americanum.
أما الحالة الثانية فهي لصياد أصيب بردود فعل تحسسية شديدة بعد تناوله للحوم الحمراء وتحديدًا للحم البقر، الذي اتضح لاحقًا تعرضه كثيرًا للدغات القراد!
لم يشبع ذلك كله فضول الباحث بلاتس ميلز، الذي لم يقتنع في النهاية إلا من خلال تجربته الشخصية مع المرض، فقد حاول عمدًا تعريض نفسه للدغات القراد في أثناء خروجه في نزهة في الجبال بالقرب من منزله، وفي وقت لاحق من ذلك العام، أظهر بلاتس ميلز رد فعل تحسسي شديد مألوف للغاية بعد تناوله لوجبة من اللحوم الحمراء!
اليوم، وبعد العديد من الدراسات والأبحاث، أصبح العلماء على ثقة من أن الجزيء ألفا-غال المرتبط بالبروتينات الموجودة في لعاب القراد هو المسؤول عن رد الفعل التحسسي لأجسامنا تجاه الكربوهيدرات الموجودة في اللحوم الحمراء، وخاصةً لحم الضأن والبقر، وخصوصًا أن هذا الجزيء لا يتخرب بالحرارة في أثناء طهي اللحوم، ولذلك تولّد أجسامنا رد فعل تحسسي بصفتها نوعًا من الآليات الدفاعية تجاه هذا الجزيء الغريب.
أما بالنسبة للمزارع الذي وصفت حالته مؤخرًا، وبعد أن أخبره أحد أصدقائه عن متلازمة ألفا-غال، وحذره من خطر تعرضه للدغات القراد خلال عمله في المزرعة؛ بدأ باستشارة الأطباء حول حالته بعد سبع سنوات من ظهور الأعراض لديه لأول مرة عند تناوله للحوم الحمراء، ووجد أخيرًا أطباء استطاعوا تشخيص حالته ووصفها على نحو صحيح!
وفي النهاية، وبعد هذه المعاناة الصحية الطويلة للمزارع، استطاع التغلب على الأمر وخاصةً بعد اتباعه لإجراءات وقائية، مثل ابتعاده عن تناول اللحوم الحمراء، والتأكد من وجود دواء إيبيبين(EpiPen) دائمًا في جيبه، وهو دواء يحتوي على الإبينيفرين ويساعد في تقليل رد الفعل التحسسي للجسم، ونتيجةً لذلك، لم يصب المزارع بأي رد فعل تحسسي كالسابق مدة ثماني سنوات من تشخيص حالته وحتى الآن!
إنها حقًا نهاية سعيدة! ولكن ما تزال متلازمة ألفا-غال مرضًا جديد نسبيًا خاصةً فيما يتعلق بالأبحاث والدراسات، وما زال أمامنا طريق طويل لنتعلم الكثير بعد عن انتشار هذا المرض وآلية تأثيره ضمن الجسم، إضافةً إلى تفاعلاته المحتملة مع الأدوية والعلاجات والأمراض الأخرى.
عند الشعور بوجود خطب ما أو اضطراب تحسسي بعد تناول شريحة من اللحوم الحمراء، أو شطيرة من الهامبرغر، يجب استشارة الطبيب على الفور لتشخيص الحالة وإعطاء العلاج المناسب، إذ لا ينبغي الانتظار ثماني سنوات من المعاناة لاكتشاف السبب!
اقرأ أيضًا:
اللحوم الحمراء واللحوم البيضاء على نفس الدرجة من السوء بالنسبة للكوليسترول
ترجمة: أليسار الحائك علي
تدقيق: أسعد الأسعد
مراجعة: لبنى حمزة