تلعب العلوم في عصرنا الحديث دورًا هامًّا في كلّ جانب من حياتنا، إنْ أدركنا ذلك أو لم ندرك. أبرز هذه الأدوار نراه جليًا في التطور التكنولوجي الهائل الذي أصبح جزءًا روتينيَّا من حياتنا نكاد لا نعيره أيّ اهتمام خاص. في الحقيقة، يصعب على معظمنا تقييم حجم التطوّر الذي تعيشه الإنسانيّة، وخاصة خلال القرن الأخير. تخيّل/ي مثلاً أننا نقلنا إنساناً من عهد هارون الرشيد أو من أثينا القديمة عبر الزمن ليرى الحياة العصريّة التي نحياها، لحسب نفسه في عالم مسحور من عوالم الخرافات والقصص الخياليّة. سوف يرانا ننتقل من مكان إلى آخر بالسيارات التي تقود نفسها، ونطير في الهواء في الطائرات مثل الطيور، ونُطلِق الصواريخ التي تقلّنا إلى القمر والكواكب، ونتحدّث ونرى بعضنا بعضاً عبر أبعاد خياليّة كأنّنا نقف أحدنا أمام الآخر، ونحلّ بواسطة حاسوب صغير، نحمله بيد واحدة، معضلات لا يمكن أن يتخيل الأقدمون حتى وجودها، ونداوي أمراضًا كان من المستحيل أن يفهمها معاصروه. وهذه فقط عينة صغيرة جداً من العجائب التكنولوجيّة الحديثة التي تملأ واقعنا اليوميّ وتخدمنا بشكل روتينيّ.
لا يختلف اثنان على أنّ هذا العالم السحريّ الذي نحياه اليوم لم يكن ممكنًا قط من غير التقدُّم الكبير الذي شهدته، وما زالت تشهده، العلوم منذ الثورة العلميّة التي حدثت قبل حوالي 350 عامًا. فقد أضأنا البيوت وحوّلنا الليل نهاراً بعد أنْ اكتشفنا النظريّة الكهرومغناطيسيّة، وبنيْنا الطائرات بعد التقدّم الكبير الذي حقّقناه في مجال قوانين الغازات والمحرّكات النفاثة، وطوّرنا الحاسوب بعد اكتشاف نظريّة الكم في بداية القرن العشرين، ونظام التموضع العالميّ نتيجة فهمنا لقوانين الميكانيكا، وفيزياء الكم ونظريّة النسبيّة الخاصّة والعامّة وعدد كبير من الخوارزميّات الرياضيّة المعقّدة. هذا إضافة إلى التقدم المذهل في الكيمياء وعلم الاحياء والطب وغيرها ممّا لا يُعَدّ ولا يُحصى من التطورات العلمية والتقنيّة التي من الصعب أنْ نتخّيل حياتنا العصريّة بدونها.
رغم الارتباط الواضح بين تقدم العلوم بشكل عام والتطور التكنولوجي الكبير في حياة البشر، إلا أنني كثيرًا ما أُسأل عن الفائدة من الدراسة والبحث في العلوم المجردة بشكل خاص، والمواضيع الفكرية الصرفة بشكل عام، حيث يقصد السائل عادة أن يستفهم عن الفائدة الاقتصادية والتكنولوجية. أجيب على هذا السؤال عادة بشقين، حيث أوضح في الشق الأول المنفعة الاقتصادية للعلوم الصرفة وأصحّح الانطباع المغلوط عند السائل. وأناقش في الشق الثاني من الإجابة أن أهمية المواضيع الفكرية الصرفة توفر لنا ما هو أهم بكثير من المنفعة الاقتصادية.
المنفعة الاقتصادية للعلوم الصرفة:
تشير الأبحاث الاقتصادية بشكل لا يقبل التأويل إلى أن الأبحاث الصرفة تعود بالمعدل بعشرة أضعاف المنفعة الاقتصادية التي تجنيها البشرية من الابحاث التطبيقية والتقنية (أي التي تُجرى بهدف تطبيقي عيني مُحدد مسبقا، مثل تطوير دواء معين أو بطاريات للسيارات الكهربائية وغيرها من الأهداف الواضحة مسبقًا).
يكفينا لتوضيح هذا الادعاء أن نعطي بعض الأمثلة التي تبين المنفعة الاقتصادية الكبيرة للعلوم الصرفة.
تطور الفهم الفيزيائي العميق لظاهرة الكهرومغناطيسية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، بواسطة مايكل فاراداي وجيمس كلارك ماكسويل تحديداً، واللذين كان دافعهما الأساس السعي وراء الفهم الفيزيائي لهذه الظاهرة المثيرة للاهتمام. لم يكن أحد حينها يعرف الأهمية الكبيرة التي سوف تلعبها هذه النظرية في حياتنا، وهو أمر يكاد لا يُصَدَّق بالنسبة لنا الذين لا يمكن أن نتخيل حياتنا من غير الكهرباء واستعمالاتها في كل منحى من مناحي حياة البشر.
يشهد على هذا، التساؤل الذي طرحه وزير المالية البريطاني، ويليام جلادستون، الذي زار مايكل فراداي في مختبره عام 1850 ودُهش من التجارب التي كان يقوم بها هذا العالم الفذ، لكنه في نهاية زيارته قال لمضيفه “لكن ما الفائدة من كل هذا؟”. أي، ما الفائدة العملية للقوة الكهرومغناطيسية وفهمها؟ فأجابه فاراداي في حينها إجابته الشهيرة: “من الممكن يا سيدي أن تفرض الضريبة عليها قريبًا”. استغرقت التطبيقات العملية للكهرباء أكثر من خمسين عامًا بعد هذه الحادثة لكي تصبح جزءًا هامًا من حياة البشر. إذن، لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الاقتصادي الكبير للكهرباء، لكن هذا الدور تطور نتيجة بحوث فكرية صرفه هدفها فهم الطبيعة.
المثال الثاني هو نظريّة الكم، وهي النظريّة الفيزيائيّة التّي تُعنى بقوانين الفيزياء التّي تحكم الأجسام الصغيرة جدًا، مثل الذرّة ونواتها. تطورت هذه النظرية لفهم ظواهر فيزيائية بحتة من غير التفكير في أية تطبيقات عملية. ونظرية الكم هذه هي أدّق نظريةٍ فيزيائيّةٍ عرفها البشر في تاريخهم. فهي تتّفق مع القياسات لبعض المقادير الفيزيائيّة (مثل عزم الإلكترون المغناطيسي) بدقة واحدٍ على مئة مليار، وهي دقّة تعادل قياس المسافة بين القدس وباريس بدقةٍ تعادل أقل من سُمك شعرةٍ واحدة! تمخّضت نظريّة الكم عن واقعٍ غريبٍ جدًا، بعيدٍ كلّ البُعد عن فهمنا السليقي للطّبيعة وقوانينها، وأدّت إلى شرخٍ كبيرٍ بين علماءِ الفيزياء حول فهمهم للواقع الموضوعي ومعناه.
أنبثق عن هذه النظرية، على الرغم من طبيعتها الفكرية الصرفة، عدد كبير جدًا من التطبيقات العملية التي تكمن وراء حياتنا المعاصرة المبنية على الاتصالات والإلكترونيات الحديثة والهواتف الذكية ونظام التموضع العالمي (GPS) وغيرها من الابتكارات الحديثة التّي نكاد لا نستطيع تخيّل حياتنا بدونها. يجدر التنويه بأن التقديرات تشير إلى أن الصّناعات المرتبطّة بفيزياء الكمّ تشكّل اليوم أكثر من % 30 من حجم الاقتصاد الأمريكي.
علم الفلك هو أحد العلوم الصرفة التي يدفعها حب المعرفة وفهم الكون، أي أن أهدافه علميّة بحتة. لكن هناك العديد من التقنيات التي نستخدمها في حياتنا تطورت بشكل مباشر من علم الفلك أو لم تكن تتطور بدونه. من أهم هذه التقنيات ما يسمى بجهاز اقتران الشحنات (Charge-Coupled-Device) الذي استبدل فيلم التصوير الكيميائي ونستعمله في الكاميرات التي نستخدمها بشكل يومي في الهواتف الذكية وأجهزة التصوير العصرية. لم يطور هذه التقنية علماء فلك، بل فيزيائيو الحالة الصلبة، لكنها من دون علم الفلك لم تكن لتتطور إلى الدرجة التي سمحت لنا باستخدامها بشكل روتيني. تقنية أخرى تطورت بفضل علم الفلك هي تقنية الـ WIFI التي نستخدمها للاتصال مع الإنترنت في كل مكان تقريبًا. تطورت هذه التقنية نتيجة عمل ثلاثة علماء كانوا يبحثون في صفات الثقوب السوداء كما نرصدها بواسطة تلسكوبات الراديو. مثال آخر هو تقنية كاشفات أشعة إكس المستخدمة لفحص الأمان في المطارات والأبنية والتي طورها علماء الفلك لقياس الأشعة السينية (أشعة إكس) الآتية من أجرام الفلك المختلفة. وغيرها.
أكتفي هنا بهذه الأمثلة الثلاثة، التي هي عينة صغيرة جدًا فقط، والتي توضح بشكل قاطع الأهمية الاقتصادية للمعرفة الصرفة.
أهمية البحث العلمي المجرد غير الاقتصادية:
إضافة إلى الإنجازات التكنولوجيّة الكبيرة التي تشهد على خصوصيّة الفهم العلميّ للواقع، هناك جانب أعمق لهذا النجاح. وهو أنّ النظرّيات العلميّة التي بحوزتنا لا تمكّننا فقط من فهم الطبيعة بشكل غير مسبوق واستغلال ذلك لتطوير اختراعات جديدة، بل هي تُوفّر لنا أيضًا الأدوات للتنبؤ بما سيحدث في أوضاع جديدة لم نجرّبها من قبل. مثلاً، ما سوف نراه عند اندماج ثقوب سوداء في الفضاء الفسيح، أو كيف ستتصرّف المادّة عندما تقترب درجة حرارتها من الصفر المُطلق، أو كيف ستتفاعل مادّة من نوع جديد (صنعناها في الحال في المختبر) مع الضوء. هذه الأمثلة، وغيرها الكثير في الفيزياء والكيمياء وعلوم الأحياء والعلوم العديدة الأخرى، تُوضّح أنّ النظريّات العلميّة لا تفسّر الواقع فقط، بل وربّما أهمّ من ذلك، هي تفتح أمامنا آفاقاً جديدة للأبحاث وتتنبأ بحيثيات جديدة للواقع كنّا نجهلها من قبل. وهذه الحيثيّات الجديدة بدورها ترشدنا إلى أسئلة مختلفة تكشف لنا جوانب كثيراً ما تفتح أمامنا مجالات أبحاث لم نفكّر بها من قبل.
ختامًا، عليّ الاعتراف بأن ما يدفعني لدراسة الطبيعة هو ليس تطبيقات هذه المعرفة العملية التي تكاد لا تهمني. بل ما يدفعني هو شغفي للمعرفة وفهم الواقع الذي نعيش فيه وسياق وجودنا الكوني والتاريخي كبشر وموقعنا في هذا العالم الفسيح. هذا في الحقيقة هو ما يدفع أغلب العلماء الباحثين في الطبيعة. لأن هذه المعرفة لا تكتسب أهميتها من تطبيقاتها العملية والاقتصادية فحسب، بل من كونها تثري الفكر وتشحن الروح والأحاسيس بالضبط كما تفعل الموسيقى والشعر والفن. كما تعطينا الطريق لنشكل صورة واضحة عن واقعنا وفهمه بشكل عقلاني. هذا الشغف للمعرفة هو ما يميزنا كبشر وهو حق أساسي لنا، علينا أن نسعى لتحقيقه في كل زمان مكان، بالضبط كما يحق لنا العيش بكرامة وحرية كذلك يحق لنا أن نطلب العلم والمعرفة، دائمًا وفي كل مكان. وهنا نتحدث عن المعرفة الخلاقة والمتجددة التي تجعلنا نرى واقعنا بشكل أرقى وأفضل من سابقينا وليس المعرفة الخاملة والسلبية التي نستهلكها من غير إضافة أو تحدٍ لما كان في السابق. إذن، بالنسبة لي، شغفي هو في المعرفة الخلاقة التي تعتمد على معارفنا في الحاضر لكن هدفها هو التجدد الذي يمكننا من أن نكون طلائعيي المستقبل، وليس المعرفة المنغلقة على ذاتها والتي تتجاهل الواقع والحقائق وتجعلنا عبيدًا للماضي وأسرى له، والتي تسلم زمام مستقبلنا للآخرين (كما سلمت مجتمعاتنا العربية مصيرها للتطورات الطبية التي تحدث في الدول المتطورة علميًا خلال أزمة الكورونا) وللغيبيات الفارغة والجمود الفكري.
اقرأ أيضًا:
أربعة عوامل تفسر رفض الكثير من الناس للعلم!
نصل أوكام: أبسط الحلول هو الحل الصحيح في أغلب الأحوال