في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، أصيبت المواشي في بريطانيا بعدوى عُرفت بجنون البقر، فمنذ ظهور أول حالة مؤكدة عام 1986م وحتى ذروة تفشي المرض في منتصف التسعينيات، ارتبط انتشار المرض بظهور حالات وفاة بشرية وصل عددها آنذاك إلى 232 شخص. وقد أدى تفشي المرض إلى تدهور صناعة لحوم البقر في بريطانيا.
نتج من تفشي المرض والذعر الذي أعقبه ذبح أكثر من 4.5 مليون رأس من الأبقار للوقاية. على هذا، خسرت بريطانيا نحو 4.6 مليار دولار.
انتشار وباء جنون البقر عام 1986
اكتُشفت أول حالة من التهاب الدماغ الإسفنجي البقري، أو ما يُعرف بجنون البقر في ساسكس عام 1986، تلك الحالة كانت بداية تفشي هذا الوباء الكارثي. ارتفع عدد الحالات إلى أكثر من 420 حالة بحلول عام 1988، ثم تجاوز عدد الحالات 120 ألف حالة مؤكدة بحلول عام 1993.
ينجم مرض جنون البقر عن بروتين خاطئ التطوّي يسبب تلف أدمغة الأبقار التي تُصاب به نتيجة تناولها للأعلاف المصنعة من أبقار أخرى، إذ كانت هذه الأعلاف المصنعة ممارسة شائعة قبل اكتشاف مخاطرها، لكن وفقًا لمنظمة الصحة العالمية توقفت تلك الممارسة منذ ذلك الحين.
بحسب تصريح إميلي جادام ممرضة في علم الأوبئة: «تشمل العلامات المبكرة لمرض جنون البقر تغيرات سلوكية، مثل العصبية أو العدوانية، إضافةً إلى بعض الأعراض الجسدية مثل عدم التنسيق الطوعي لحركات العضلات وصعوبة الوقوف. أدت هذه الأعراض إلى حالة من الغرابة، لأنها كانت إشارة إلى وجود تلف عصبي لدى الحيوانات، وهي حالة لم تكن معروفة سابقًا».
وفقًا لتصريحات إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، لا يمكن إجراء فحوصات مرض جنون البقر على الأبقار الحية، لكن تُفحص أنسجة الدماغ بعد نفوق الأبقار للتحقق من إصابتهم به.
الاستجابة المبكرة للحكومة البريطانية
استجابةً لتفشي المرض، حظرت الحكومة البريطانية استخدام اللحوم والعظام في علف الماشية، ومنعت عام 1988 تناول حليب الأبقار المصابة، إضافةً إلى حظر الاستهلاك البشري للأحشاء، ومنعت الولايات المتحدة استيراد لحوم الأبقار البريطانية.
رغم كل الإجراءات الاحترازية، ظل المسؤولون الحكوميون البريطانيون يؤكدون لسنوات أن مرض جنون البقر لا يشكل تهديدًا على الإنسان. في مايو 1990، أجرى وزير الزراعة البريطاني جون جومر جلسة تصوير تناول خلالها شطيرة هامبرجر إلى جانب طفلته البالغة من العمر 4 سنوات لتأكيد سلامة لحوم البقر البريطانية.
في حين أعلن السير دونالد أتشيسون، كبير المسؤولين الطبيين في بريطانيا: «يمكن لأي شخص، سواء كان بالغًا أم طفلًا، والمرضى في المستشفيات، أن يتناول لحوم البقر بأمان».
بحلول عام 1992، شُخصت ثلاثة من كل 1000 بقرة بمرض جنون البقر في بريطانيا، لكن كبير الأطباء السير كينيث كالمان قال إن لحوم البقر البريطانية كانت آمنة عام 1993، حتى بعد تفشي المرض ووصوله إلى الذروة، كان هناك ما يقرب من 1000 حالة مؤكدة جديدة أسبوعيًا.
الحالات المبلغ عنها بين البشر
تصاعدت حالة الذعر بشأن مرض جنون البقر عندما اتضح ارتباطه بوفيات البشر. في مايو 1995، توفي ستيفن تشرشل البريطاني البالغ من العمر 19 عامًا، ليصبح أول شخص يموت بمرض كروتزفيلد جاكوب، وهو أحد أشكال مرض جنون البقر. مع الإعلان عن وفاة شخصين آخرين بسبب جنون البقر في العام نفسه، أعلنت الحكومة البريطانية أن مرض جنون البقر قد ينتقل إلى البشر بسبب متحور كروتزفيلد جاكوب.
أضافت جادام: «يُعتقد أن انتقال مرض جنون البقر إلى البشر، الذي يؤدي إلى الإصابة بمتحور كروتزفيلد جاكوب، يحدث بسبب تناول منتجات البقر الملوَّثة بمرض جنون البقر». وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن متحور كروتزفيلد جاكوب مرض قاتل لا سبيل للشفاء منه.
تشمل أعراض الإصابة بمتحور كروتزفيلد جاكوب الشعور بالوخز أو الحرقان، ومشكلات نفسية وسلوكية، إضافةً إلى الخرف وعدم القدرة على المشي. ظهر جميع المصابين بهذا المتحور في البلدان التي تعاني تفشي مرض جنون البقر بين قطعان الماشية.
«معظم الأشخاص الذين أصيبوا بمتحور كروتزفيلد جاكوب عاشوا في المملكة المتحدة فترةً ما من حياتهم. أظهرت الدراسات البحثية أنه لا يمكن للإنسان الإصابة بمرض جنون البقر نتيجة شرب الحليب أو لتناول منتجات الألبان، حتى لو كان مصدرها بقرة مصابة».
حظر الاتحاد الأوروبي عام 1996 صادرات لحوم البقر البريطانية، في العام التالي حظرت المملكة المتحدة مبيعات لحوم البقر بعظامها، في حين حظرت اليابان لحوم البقر والضأن البريطانية ولم يُرفع الحظر حتى عام 2019. عام 1997، حظرت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية الأعلاف المخصصة للثدييات والمجترات.
التأثير الاقتصادي
وفقًا للتقرير الصادر عن هيئة الإذاعة البريطانية في يونيو 1998، تراجعت مبيعات لحوم البقر بأكثر من الثلث بعد الإعلان الصادر في مارس 1996، الذي يربط بين مرض جنون البقر ومرض كروتزفيلد جاكوب. رغم انتعاش الاستهلاك في النهاية، عانت الصناعة آثارًا دائمة لاحقًا، ولم ترفع الولايات المتحدة حظرها على لحوم البقر البريطانية إلا عام 2020، أي بعد مرور أكثر من عقدين.
«حصل المنتجون الذين فقدوا كثيرًا من قطعانهم على تعويضات من الحكومة، لكنهم ترددوا في زيادة إنتاجهم لأن المستهلكين لم يكونوا يريدون سوى اللحوم ذات الجودة المرتفعة. لذلك، فقد تقلصت تلك الصناعة بأكملها».
مع أن انتشار مرض جنون البقر قد تصدَّر عناوين الأخبار في أميركا، لم يؤثر تأثيرًا بالغًا في صناعة لحوم البقر في الولايات المتحدة. أفاد تقرير صحفي بأن أنباء اكتشاف إصابة بقرة واحدة في ولاية واشنطن لم تؤثر في حركة مبيعات لحوم البقر بالتجزئة في أمريكا.
أعلن رون جوستافسون من دائرة البحوث الاقتصادية التابعة لوزارة الزراعة الأمريكية: «أظن أن السوق سينفرج قليلًا استنادًا إلى النظام المطبق هنا».
انتشار مرض جنون البقر
وفقًا لبرنامج الاعتماد البيطري الوطني التابع لوزارة الزراعة الأمريكية، اكتُشف مرض جنون البقر في أكثر من 185 ألف حالة منذ عام 1986، مع العلم بأن 95% من الحالات كانت في المملكة المتحدة. أُكدت خمس حالات في الولايات المتحدة الأمريكية، حالة واحدة في كل من الأعوام 2003 و2005 و2006 و2012 و2017.
أدت الإجراءات الاحترازية التنظيمية إلى ندرة مرض جنون البقر، لكنه ما زال موجودًا. أشارت وكالة صحة الحيوان والنبات في المملكة المتحدة إلى وجود حالة مؤكدة في سومرست عام 2021. وبحلول عام 2023، أدى ظهور حالة مؤكدة لمرض جنون البقر في البرازيل إلى امتناع بلدان عدة عن استيراد لحوم البقر، تشمل الصين وإيران وروسيا.
«الحالات الأخيرة من مرض جنون البقر نادرة لكنها تظل موجودة. مثل الحالة التي اكتُشفت في ولاية كارولينا الجنوبية عام 2023، لكنها لم تشكل أي تهديد على إمدادات الغذاء أو صحة الإنسان».
مع ذلك، فإن تأثير مرض جنون البقر في المملكة المتحدة كان عميقًا، إذ لم يؤثر في قطاعي الاقتصاد والصحة فقط، بل أثر أيضًا في ثقة الأفراد بسلامة الغذاء واستجابة الحكومة لمثل هذه الأزمات: «أدت التدابير المتخذة إلى الحد من حدوث مرض جنون البقر إلى حد بعيد، لكن المرض ما زال يشكل مصدر قلق بسبب قدرته على التأثير في صحة الإنسان».
اقرأ أيضًا:
مرض جنون البقر يضرب حيث لم يكن متوقعا له ان يضرب!
لحم الدجاج ولحم الخنزير ولحم البقر: ما هو أفضل لحم والأكثر صحة؟
ترجمة: ماريان رأفت الملاح
تدقيق: ريمي سليمان