هل بإمكاننا العودة إلى الحياة بعد الموت؟ يجيب فريق من العلماء والمختصين في الذكاء الاصطناعي بأن هذا الأمر ممكن، بتخزين البيانات الشخصية للبشر وإنشاء نسخ رقمية طبق الأصل عنهم. لكن تكمن المشكلة في توفير الطاقة اللازمة لتحقيق ذلك.
من هنا جاءت فكرة «كرة دايسون»، التي تقترح بناء هيكل ضخم على شكل كرة تحيط بالشمس وتمتص طاقتها، لتغذية روبوتات فائقة الذكاء بالطاقة الكافية لجمع ما أمكن من البيانات الشخصية للبشر، وإنشاء نسخ رقمية طبق الأصل عنهم.
فور اكتمال تنزيل نسختك الرقمية، ستحيا مجددًا في واقع افتراضي، ستعيش فيه مدة معينة قبل أن تنتقل في نهاية المطاف إلى عالم جديد يحاكي الآخرة!
أي يمكنك أن تعيش مع أصدقائك وعائلتك والمشاهير المفضلين لك إلى الأبد. قد تبدو لك هذه الفكرة مستحيلة، لكن كم من خيال تحول إلى حقيقة!
مشروع «خارطة الطريق إلى الخلود»:
يسعى هذا المشروع الذي انطلق منذ عام 2004 بقيادة أبرز علماء ما بعد الإنسانية، الروسي «أليكسي تورشين»، لبحث سبل تمديد حياة البشر إلى أطول فترة ممكنة. نشر تورشين رفقة زميله «مكسيم تشيرنكوف» ورقة علمية بعنوان «مقاربات تصنيف البعث التكنولوجي»، تتناول أربع خطط لإطالة الوجود البشري. تركّز الخطط «أ» و«ب» و«د» على إطالة الوجود البيولوجي عبر الحفظ بالتبريد والخلود الكمومي، أما الخطة «ج» فتستهدف الخلود الرقمي.
بدأ هوس توشين بالخلود عندما بلغ من العمر 11 عامًا، إذ توفيت زميلته. هذه الحادثة كان لها كبير الأثر ودفعته للبحث في فكرة الخلود، فبدأ بأفكار الخيال العلمي.
سنة 2007 انضم توشين إلى حركة ما بعد الإنسانية الروسية، وأسس أول حزب لها عام 2012، تهدف هذه الحركة إلى إقناع الروس بتبني التكنولوجيا المستقبلية التي تسمح لهم بتجاوز حدود قدراتهم الجسمانية والذهنية. منذ ذاك يكرس توشين جل وقته في العمل على مشروع «خارطة الطريق إلى الخلود»، مسجلًا كل جوانب حياته، ومنها أحلامه وأحاديثه وتجاربه اليومية وانحيازاته العاطفية.
يقول توشين إن هذه المراقبة الشاملة لتفاصيل حياته ضرورية للغاية، مع أن روبوتات الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى إخضاع «العائد إلى الحياة» للظروف ذاتها التي مر بها في حياته، حتى يتسنّى لنا الحصول على نسخ رقمية مطابقة للأصل.
أوضح تورشين أن كل شيء سيصبح ممكنًا فور إتمام صنع نسختك الرقمية الدقيقة، متضمنةً إحياء نسختك البيولوجية، إذ سيبحث الذكاء الاصطناعي في كل مكان عن حمضك النووي، حتى قبرك لن يسلم من التنقيب بغرض عمل نسخة من جسدك المادي الذي ستسكنه النسخة الرقمية.
وفقًا لتوشين، تكمن المشكلة الرئيسية أن الأرض لا تملك الطاقة الكافية لهذا العمل الهائل، بحكم مليارات النسخ الرقمية التي سيجب علينا إحصاؤها وتسجيلها في حواسيبنا، إلى جانب النسخ المتفرعة عنها نتيجة الخيارات المختلفة أو الظروف الاستثنائية التي ستمر بها. لهذا نحتاج إلى حصد ما أمكن من طاقة الشمس، وهنا يأتي دور كرة دايسون للقيام بهذه المهمة.
كرة دايسون الافتراضية:
كان الفيزيائي الراحل فريمان دايسون أول من اقترح مفهوم هذه البنية العملاقة، في ورقة علمية صدرت عام 1960 بعنوان «البحث عن المصادر النجمية الاصطناعية للأشعة تحت الحمراء». يُفترض أن تحيط هذه الكرة العملاقة بالشمس وتمتص جزءًا كبيرًا من الطاقة التي تصدر عن نجمنا كل يوم، ما يقارب تريليون ضعف استخدامنا الحالي للطاقة حول أنحاء العالم.
تخيّل كرة دايسون مثل سرب من الأقمار الاصطناعية ذات المدارات المختلفة، أو أسطول من الألواح الشمسية المترابطة، تشكّل غلافًا مذهلًا يمتد نحو 300 مليون كيلومتر حول الشمس.
سيكون هذا الغلاف الفضائي العملاق نقلة نوعية في تاريخ البشرية، وسيقفز بجنسنا من حضارة كوكبية إلى حضارة تجوب النجوم وتسخّرها.
تحديات كرة دايسون والنسخة الرقمية للإنسان:
وفقًا للباحث في معهد أكسفورد لمستقبل الإنسانية، ستيوارت أرمسترونج: «يُعد إنشاء كرة دايسون حول الشمس مشروعًا غير عملي».
يوضح أرمسترونج أن قوة الشد المطلوبة لمنع انكسار كرة دايسون الافتراضية تتجاوز بكثير أي مادة معروفة، وأن الكرة لن تظل مشدودة إلى النجم بوتيرة مستقرة، فإذا اقترب أي جزء منها، بفعل نيزك مثلًا، فسيكون هذا الجزء أكثر عرضة لقوة الجذب، ما يؤدي إلى عدم استقرار النظام.
وفقًا لتورشين، إذا كان الإنسان غير قادر على بناء كرة دايسون، فإن الروبوتات النانوية يمكنها تجاوز هذه العقبة، واستخراج المواد المفيدة كالحديد والأكسجين من الكواكب، واستخدامها لصنع سطح عاكس من معدن الهيماتيت حول الشمس.
مع افتراض قدرة تقنيات النانو على استخراج كل المواد المطلوبة لصنع كرة دايسون واستغلال طاقة الشمس، تبدو فكرة الخلود الرقمي غير معقولة، وفقًا لأستاذ الفيزياء في جامعة فوردهام، ستيفن هولمر.
يقول: «لا أعتقد أنه يمكنك إخضاع شخص ما لظروف النشأة ذاتها التي مر بها في حياته، لأن هذا يفترض أنك على علم بكل تفاصيل حياته، وهي تفاصيل نجهلها ومن ثم لن نستطيع تسجيلها، لكن ربُما كان لها أثر كبير في بناء الشخصية، ما يجعل مهمة صنع نسخة رقمية مطابقة صعبة للغاية».
إذن هل يكون «التوأم الرقمي» بديلًا أفضل، إذا تعذر الحصول على نسخة رقمية مطابقة للأصل؟
يعلق هولمر: «ستخضع النسخة الرقمية بعد تنزيلها إلى ظروف مختلفة وتتطور تبعًا لذلك، ما يجعل منها كيانًا جديدًا. ستكون النسخة الرقمية مختلفة دائمًا عن النسخة البيولوجية»
يوجد تحد آخر، وفقًا لكيلي سميث، أستاذ الفلسفة وعلم الأحياء في جامعة كليمسون، الذي يبحث في القضايا الأخلاقية والاجتماعية المتعلقة باستكشاف الفضاء، إذ يرى أن بناء كرة دايسون يمثل مشكلة سياسية إضافةً إلى كونه تحديًا هندسيًا.
«لقد تطوّر البشر ليفكروا على المدى القصير ويهتموا بالمسائل المتعلقة بحياتهم اليومية. من سيكرّس جل حياته لصنع شيء لن يفيده هو شخصيًا ولا أطفاله أو حتى أحفاد أحفاده؟ بل أشخاص بعد ألف سنة من الآن!»
حتى لو طورنا التكنولوجيا اللازمة، وحمّلنا شخصياتنا الرقمية على الحواسيب المدعومة بطاقة كرة دايسون، فإننا ما زلنا نتحدث عن تمديد كبير جدًا لعمر الإنسان، وليس الخلود. إذا شعرت بالأسى يمكنك إلقاء اللوم على القانون الثاني في الديناميكا الحرارية، الإنتروبيا: «سيتحول النجم الذي يمد كرة دايسون بالطاقة إلى مستعر أعظم في مرحلة ما، ومن ثم سيزول مصدر طاقتنا».
يشارك سميث مخاوف هولر بشأن تحديات استنساخ ظروف النشأة الدقيقة ذاتها لصنع نسخة رقمية مطابقة للإنسان: «لا توجد طريقة لفعل ذلك في الوقت الحالي، بصرف النظر عن مدى قدرتنا على تسجيل تفاصيل حياتنا مسبقًا».
قد تُشغّل المحاكاة لمليارات السنين، ومن المؤكد أن الأخطاء قد تتسلل إلى أكواد الكمبيوتر. يتساءل سميث: «قد تؤدي الأخطاء إلى نسخ 90% من شخص ما، فكيف ستكون النتيجة؟ هل سأكون سعيدًا بمعرفة أن نسخة تشبهني بنسبة 90% ستعيش إلى الأبد؟».
بهذا الخصوص يُعرب تورشين عن قلقه، رغم اعتقاده أنه تحد فلسفي أكثر منه لغزًا فيزيائيًا: «إذا كانت النسخة الرقمية مشابهة بدرجة كافية للأصل، إلى الحد الذي يتعذر علينا فيه تمييز أحدهما عن الآخر، فهل نعدّ النسخة مطابقة للأصل؟»
وفقًا لتورشين، لن تعيد الخطة «ج» إحياء الناس على طريقة الأديان الإبراهيمية، لكن بمساعدة كرة دايسون العملاقة وروبوتات فائقة الذكاء، سيكون الخلود الرقمي حدثًا مشهودًا في المستقبل.
ختامًا، تأمّل فيما سيحدث بعد وفاتك. يوجد احتمالان: إذا كانت الروح حقيقة فستستمر في العيش بعد الموت ويكون كل شيء رائعًا، وإن كانت خيالًا فإن مصيرك إلى زوال تام، غير أن نسخة رقمية عنك ستعيش إلى الأبد، إنه وضع مربح في الحالتين!
اقرأ أيضًا:
وفاة فريمان دايسون عالم الفيزياء الكمومية صاحب الخيال الخصب عن عمر 96 عامًا
ترجمة: رضوان بوجريدة
تدقيق: نور عباس