من السهل تصوّر أكوان أخرى تحكمها قوانين فيزيائية مختلفة، وحينما لا توجد احتمالية لنشوء حياة ذكية، أو تكوين أي نوع من الأنظمة المعقدة والمنظمة، فالسؤال المطروح عندها هو: هل سيكون من الطبيعي أن نتفاجأ بوجود كون آخر نستطيع الوجود فيه؟
منذ عقود والفيزيائيون يبحثون عن إثبات لهذا الطرح، لكنهم استطاعوا إثبات صعوبته وحسب. فمع إننا نستطيع تتبع تاريخ الكون بدءًا من الأحداث التي تلت الثانية الأولى من الانفجار العظيم، فإن معرفة ماهية الأحداث التي تسبق هذه الثانية ظلّت أمرًا صعبًا جدًا، يُعزى السبب وراء ذلك إلى قدرة (المُسرعات-accelerators) على محاكاة الظروف القياسية في أولى نانو ثانية آنذاك، إذ تُساعد معرفة أولى الأجزاء الصغيرة من تلك الثانية في معرفة الملامح الأساسية التي تُميّز كوننا عن غيره.
إضافةً إلى ما سبق، نستطيع توصيف ظروف الكون بواسطة ثوابته الأساسية تكوّن كميات ثابتة في الطبيعة، مثل: ثابت الجاذبية (G) أو سرعة الضوء (C)، إذ يوجد 30 ثابتًا لوصف أحجام المعاملات وقواها مثل كتل الجسيمات وقوتها أو حتى تمدّد الكون.
لسوء الحظ، فإنّ النظريات الفيزيائية الموجودة لا تشترط قيمًا محددةً لهذه الثوابت، وبدلًا من ذلك يجب قياسها وتعويض القيم المُقاسة في المعادلات للوصول إلى توصيف دقيق للطبيعة. وتكون تلك الثوابت ضمن مجالات محددة، إذ تعطي إمكانية تطور الأنظمة المعقدّة مثل: النجوم والكواكب والكربون وحتى الإنسان.
عمومًا أثبت علماء الفيزياء بأنّه عند تغيير قيمة أي ثابتٍ منها ولو بنسبٍ مئوية متناهية الصغر؛ سيؤدي ذلك إلى تلاشي الحياة من الكون. لهذا السبب فإنّ وجود الحياة يتطلب بعض الشروحات؛ فالبعض يؤمن بأنّها محض صدفة، بينما ليس كل ما ألفناه قد يكون صحيحًا، إذ توجد شروحات بديلة لذلك، كأن نعيش ضمن أكوان متعددة تحكمها قوانين فيزيائية متمايزة ومجالات قيم محددة للثوابت الأساسية، ولا يتحتم على ذلك أنّ كافة هذه الأكوان صالحة للحياة، لكن معظمها قد يكون كذلك.
ثورة مرتقبة؟
إلى أي حدّ يتسع الواقع المادّي؟ لا توجد إجابة دقيقة لهذا السؤال سوى بأنّه أكبر بكثير من مجال ملاحظة علماء الفلك، لأن منظور الإنسان محدود جدًا، فمثلًا عند النظر أفقيًا في البحر، نظنّ بأنّ حدود البحر انتهت مع آخر نقطة نستطيع ملاحظتها. وبالوسع إسقاط هذا المثال على مفهوم المجرات التي نتوقع أنّها محدودة في كوننا أيضًا.
يُجمِع معظم علماء الفيزياء على فكرة وجود مجرات لا يمكن الوصول إليها، وقد يفوق عددها ما عُرف لغاية الآن. وفي حال تمدّدها على مجالات بعيدة بما يكفي، فبالوسع تخيّل تكرار حدوث كل شيء ضمنها مرارًا. بعبارة أوضح، قد يُنسخ كل شيء خاص بتلك المجرات بعيدًا خارج أُفق النظر، فقد توجد نُسخ خاصة من كل شيء فيها.
قد تكون تلك المجالات الواسعة وغير الملحوظة أثرًا لتداعيات الانفجار العظيم المعروف لدينا، ومن المحتمل أيضًا أن تكون محكومةً بالقوانين الفيزيائية ذاتها السائدة في الأجزاء المعروفة لدينا من الكون. لكنّ السؤال هنا، هل حدث شيء آخر غير الانفجار العظيم؟
ليست نظرية الانفجار العظيمة وحدها ما يُفسر نشأة الكون، فتوجد نظرية أخرى تقترح أنّ بدايات الكون خضعت لفترة تضاعف فيها حجمه في كل تريليون من تريليون من تريليون من الثانية، وقُدّمت أدلة تدّعم الرصد لتلك الفرضية، وعُرفت هذه النظرية بنظرية التضخم (theory of inflation) التي تُفسر أيضًا سبب ضخامة وسلاسة الكون، باستثناء بعض التموّجات والتقلبات التي تكون أشبه ببذور تكوين للمجرات.
من جهة أخرى، قدّم الفيزيائيون ومن ضمنهم أندريه ليند افتراضات محددةً ومعقولةً حول الفيزياء غير المؤكدة في بدايات الكون، وأهمها افتراض وجود إنتاجية خصبة وسرمدية للانفجارات العظيمة أنشأ كل منها بدوره كونًا جديدًا.
لم يكن ليند وحده من قدم فكرة تعددية الأكوان، إذ توجد نظرية أخرى تناقش هذه الفكرة، وهي نظرية الأوتار (String Theory) التي تطرح فكرة توحيد الجاذبية تحت مظلة قوانين الفيزياء الدقيقة (microphysics)، وتُخمن بأنّ كل شيء في الكون شُكّل بأوتار اهتزازية صغيرة، وتتبنى أيضًا افتراضية وجود أبعاد أكثر مما نعرف.
هذه الأبعاد الكثيرة ضُغطت بإحكام مع بعضها بعضًا لدرجة عدم الملاحظة، وكل نوع من هذه الأبعاد المضغوطة بدوره أنشأ كونًا بفيزياء دقيقة مختلفة عن الآخر قد تخضع بعد استقرارها لانفجارات عظيمة بقوانين فيزيائية مختلفة. لهذا السبب ما تزال (قوانين الطبيعة) أكبر وجهة نظر تُقاد بقوانين محلية للسيطرة على الرقعة الخاصة بكوننا.
وفيما لو كان الواقع المادي على هذا النحو، فعندها يوجد دوافع حقيقية لاستكشاف الأكوان المخالفة للحقيقة (counterfactual) التي تكون أماكن ذات جاذبية وفيزياء مختلفة، وأيضًا لاستكشاف ماهية المجال والمعاملات التي تسمح بظهور التعقيد التي تؤدي بدورها إلى أكوان عقيمة (sterile) أو ميتة منذ نشأتها (stillborn).
حتى الآن لا يوجد ما هو مؤكد بالنسبة لتلك النظريات، لكن ما هو مؤكد أن الأبحاث ستظل مستمرة. فقد أشارت أبحاث أخيرة أيضًا إلى إمكانية تخيّل أكوان أكثر ملاءمةً للحياة من كوننا الحالي. بالإضافة إلى ذلك قد تسبب أغلب التعديلات في ثوابت الكون الفيزيائية ولادةَ أكوان ميتة.
ومع كل هذا، فالبعض لا يحبذ فكرة وجود الأكوان المتعددة؛ لأن ذلك يثير قلقهم وبخاصة حيال فقدان الأمل في إيجاد نظرية أساسية تشرح الثوابت الفيزيائية، وأيضًا كل الأعمال بهذا الخصوص تصبح بلا معنى، مثل مساعي كوبلر العددية لربط مدارات الكواكب بمواد المجسمات الأفلاطونية المتداخلة. لكن تبقى تفضيلاتنا الشخصية غير مرتبطة وبمعزل عن ماهية الواقعية المادية، ولهذا يجب تقبُّل إمكانية حدوث ثورة كونيّة عظيمة ومرتقبة بشدة.
غالبًا ما يباكر أي استكشاف عظيم بتكهنات وتصورات تسبقه، فمثلًا في موضوعنا، غّير مبدأ كوبرنيكوس تصوراتنا عن مركزية الأرض في النظام الشمسي، وأنّها على العكس تدور حول الشمس. ولاحقًا، أدركنا فكرة وجود عدد هائل من أنظمة الكواكب في مجرتنا، وأيضًا عدد هائل من المجرات في كوننا المنظور.
لكن ماذا عن الآن؟ هل يمكن أن يكون كوننا المنظور الناجم عن الانفجار العظيم جزءًا صغيرًا من مجموعة أكبر وأكثر تنوعًا؟
الفيزياء أم الميتافيزيقا؟
كيف نستطيع معرفة مقدار اللانمطية لكوننا؟ لإجابة هذا السؤال يجب علينا تحديد الاحتمالات لكل مجموعة من الثوابت، وهذا أمر صعب جدًا، لذلك يجب علينا انتظار تطورات نظريّة هائلة. في نهاية المطاف، نحن لا نعلم إن وُجدت انفجارات عظيمة أخرى. لكنها ليست ميتافيزيقا وحسب، وربما يأتي يوم ما تُؤكد فيه مبررات التصديق بوجودها.
سيكون علينا أخذ التنبؤات الناجمة عن الانفجارات العظيمة على محمل الجد إذا وُجدت نظرية قادرة على توصيف الفيزياء في ظل الظروف القياسية للانفجار العظيم المبكر بالتحديد، وأن تؤَكد هذه النظرية بطرق أخرى كاشتقاق بعض المعاملات غير واضحة المعالم في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.
تتعرض فكرة تعددية الأكوان لانتقادات جمّة بوصفها غير علمية وذلك لعدم القدرة على ملاحظة أكوان أخرى. لكن البعض يتفق معها ومنهم الأستاذ الفخري في قسم الكونيات والفيزياء الفلكية لجامعة كامبريدج وكاتب المقال مارتن ريز؛ بسبب الملاحظة الصريحة للثقوب السوداء. ويوافقه الرأي الفيزيائي روجيه بينروز من خلال نظريته التي اكتسبت مصداقيةً في الأوساط العلمية لما قدمته من دلائل ملموسة بالوسع ملاحظتها.
منذ حوالي 15 سنة، سُئل مارتن ريز عن رأيه بمفهوم الأكوان المتعددة، وفيما لو يُراهن على حياته أو حياة كلبه أو سمكته الذهبية؟ وأتى رده بأنه يراهن على حياة كلبه. وعند طرح نفس السؤال على أندريه ليند أوشك على المراهنة بحياته، بينما رد الفيزيائي ستيفن وينبيرغ على هذا السؤال وقال: «أنا أُراهن على حياة كلب مارتن رييز، وعلى حياة ليندي». يرد مارتن رييز على كلام وينبرغ بقوله: «للأسف الشديد، أظنّ أنّ ليندي وكلبي سيموتون قبل الحصول على الإجابة».
في الواقع، لا يسعنا اليقين من احتمالية فهمنا لهذه الإجابة، تمامًا كما يصعب فهم نظرية الكمّ على القرود، ومن الممكن أن يستطيع الذكاء الآلي استكشاف التعقيدات الهندسية لبعض نظريات الأوتار ليُخرج مثلًا بعض السمات العامة للنموذج القياسي. عندئذٍ سيكون لدينا ثقة في جدية النظرية وتنبؤاتها الأخرى.
ومن جهة أخرى، ربما لن نحظى قريبًا بلحظة التيّقن تلك التي ستُعدّ وقتئذ أكبر غاية للمنظّر نفسه. وربما يكون الواقع المادي في أعمق مستوياته لدرجة أن توضيحه يستغرق أوقاتًا أكبر من حياة البشرية كاملةً. وسيكون ذلك محبطًا أو مبهجًا وفقًا لذوق الشخص نفسه. مع ذلك كله فلغاية الآن لا يوجد سبب لرفض فكرة تعددية الأكوان بوصفها غير علمية.
اقرأ أيضًا:
هل يمكن إيجاد نظرية فيزياء كمومية تساعد في تفسير الكون؟
كيف حدث الانفجار الكوني العظيم من لا شيء؟
ترجمة: علي الذياب
تدقيق: منال توفيق الضللي
مراجعة: محمد حسان عجك