تشير حدسية كولاتز (اللغز المحير الذي وصفه كاكوتاني) إلى واحدة من تلك المشكلات التي يفترض أنها بسيطة، ولكنها تسبب الضياع لمن يفكر فيها، وغالبًا ما يحذّر الأساتذة ذوو الخبرة طلابهم الطموحين من التورط فيها وإهمال أبحاثهم الفعلية.
تبدو هذه المسألة للوهلة الأولى بسيطة إلى حد يبعث على السخرية، لكن الخبراء لم يتمكنوا من إيجاد حل لها طوال عقود. وقيل على لسان عالم نظرية الأعداد شيزو كاكوتاني أن الجميع في جامعة ييل عملوا على هذه النظرية في أثناء الحرب الباردة مدة شهر تقريبًا دون أن يحققوا أي تقدم، وذُكر حالة مشابهة في جامعة شيكاغو حين راجت مزحة تقول إن هذه المسألة جزء من مؤامرة لإبطاء الأبحاث الرياضية في الولايات المتحدة.
بالوسع صياغة الحدسية ببساطة يفهمها طلاب المدارس الابتدائية، لنأخذ عددًا طبيعيًا، إذا كان فرديًا، نضربه في 3 ونضيف 1، وإذا كان زوجيًا نقسمه على 2، ثم بنفس الطريقة مع النتيجة x، أي إذا كانت x فردية نحسب 3x+1 أو نحسب x/2 ونتابع. تقول الحدسية إن تكرار هذه التعليمات أكبر عدد ممكن من المرات سينتهي دائمًا بالعدد 1.
فإذا بدأنا بالعدد 5 مثلًا، علينا أن نحسب 5×3+1، فينتج 16 وهو عدد زوجي، علينا إذن قسمته إلى النصف ما يعطينا 8، ثم نتابع بنفس الطريقة لجد 4 ثم 2 ثم 1، وبهذا توصلنا عملية الحساب التكراري إلى النهاية بعد خمس خطوات.
بوسعنا الاستمرار بالعملية بالتأكيد باستخدام 1، لكنه سيمنحنا 4 ثم 2 ثم 1 مرة أخرى، ما يقود إلى حلقة تكرارية لا يمكن الخروج منها. ولذلك يعد 1 بمثابة نقطة نهاية العملية.
من الممتع حقًا الاطلاع على قاعدة الحساب التكراري لأعداد مختلفة وإلقاء نظرة على التسلسلات الناتجة. إذا بدأنا بـ 6 🙁 6 ← 3 ←10 ←5 ←16 ←8 ←4 ←2 ←1 )
أو 42: (42 ← 21 ← 64 ← 32 ← 16 ← 8 ← 4 ← 2 ← 1 )
بصرف النظر عن العدد الذي نختار البدء به، يبدو أننا ننتهي بالعدد 1 دائمًا. وتوجد بعض الأعداد التي تستغرق وقتًا طويلًا (مثل 27 الذي يتطلب 111 خطوة)، ولكن حتى الآن كانت النتيجة دائمًا 1.
لكن الغريب أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل رياضي على صحة حدسية كولاتز، وقد حير هذا الأمر علماء الرياضيات طوال سنوات.
أصل حدسية كولاتز غير مؤكد، ولهذا السبب تُعرف هذه الفرضية بأسماء مختلفة. يصفها الخبراء بمشكلة سيراكيوز، أو مشكلة أولام، أو حدسية 3n + 1، أو خوارزمية هاس، أو مشكلة كاكوتاني.
أسرت هذه الحدسية البسيطة الخبراء، إذ بحثوا طوال عقود عن دليل على أن تكرار تعليمات كولاتز لعدد محدود من المرات سينتهي بالواحد. والسبب في هذا الإصرار ليس بساطة المسألة وحسب، إذ ترتبط الحدسية بأسئلة مهمة أخرى في الرياضيات، إذ تظهر مثل هذه الوظائف التكرارية في الأنظمة الديناميكية (كالنماذج التي تصف مدارات الكواكب)، وترتبط هذه الحدسية أيضًا بحدسية ريمان (واحدة من أقدم المسائل في نظرية الأعداد).
الأدلة التجريبية لحدسية كولاتز
في عامي 2019-2020 عمل الباحثون في مشروع تعاوني مع علوم الحاسوب، إذ فحصوا جميع الأعداد المتسلسلة تحت 268 (أو حوالي 3×1020)، وجميعها تحقق حدسية كولاتز عند البدء بها. لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد شيء متطرف في مكان ما. من الممكن وجود قيمة عند البدء بها وبعد إجراء تعليمات كولاتز المتكررة، تنتج قيمًا كبيرة جدًا وتصل في النهاية إلى ما لا نهاية. لكن هذا السيناريو يبدو غير مرجح بالنظر إلى المسألة إحصائيًا.
حسَبَ لاجارياس في عام 1985 المتوسط الهندسي للتسلسل التالي من الإعداد لتقييم سلوكه طويل المدى، وحصل على النتيجة التالية:
(3/2)1/2 x (3⁄4)1/4 x (3⁄8)1/8 … = 3⁄4
يوضح هذا أن عناصر التسلسل تتقلص بمعامل متوسط قدره 3⁄4 في كل خطوة من قاعدة الحساب التكراري. ولذلك فمن غير المرجح أن تكون هناك قيمة بداية تنمو إلى ما لا نهاية نتيجة لهذا الإجراء.
ولكن قد توجد قيمة بداية تنتهي بحلقة ليست 4 ←2 ←1، قد تتضمن هذه الحلقة أعدادًا أكثر بكثير بحيث لا نصل إلى 1 أبدًا.
العثور على مثل هذه الحلقات اللاصفرية ممكن مثلًا إذا سمحنا أيضًا بالأعداد الصحيحة السالبة لحدسية كولاتز، في هذه الحالة، قد تنتهي قاعدة الحساب التكراري ليس فقط عند( –2 ← –1 ← –2 ← …) ولكن أيضًا عند( –5 ←–14 ←–7 ←–20 ←–10 ←–5 ←… )أو ( –17 ←–50 ←… ←–17 ←….).
لكن إذا اقتصرنا على الأعداد الطبيعية، فلا توجد حلقات لاصفرية معروفة حتى الآن، وهذا لا يعني أنها غير موجودة. لقد تمكن الخبراء الآن من إظهار أن مثل هذه الحلقة في حدسية كولاتز يجب أن تتكون من 186 مليار عدد على الأقل.
ومع أن ذلك يبدو غير محتمل فليس من الضروري أن يكون غير محتمل، إذ توجد كثير من الأمثلة في الرياضيات التي تتلاشى قوانين معينة فيها فقط بعد دراسة عدد كبير من التجارب. فمثلًا تبالغ نظرية الأعداد الأولية بتقدير الأعداد الأولية لحوالي 10316 عدد فقط، ومجموعة الأعداد الأولية بحسب النظرية بعد هذه النقطة تقلل تقدير الأعداد الأولية الفعلية. وقد يحدث شيء مماثل مع حدسية كولاتز، فربما يوجد عدد كبير يكسر النمط الملاحظ حتى الآن.
دليل صالح عند جميع الأعداد تقريبًا
لقد ظل علماء الرياضيات يبحثون عن دليل قاطع منذ عقود، وفي 2019 أحرز تيرينس تاو من جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس أكبر تقدم وهو حائز على ميدالية فيلدز، وذلك عندما أثبت أن جميع الأعداد الطبيعية تقريبًا عند استخدامها قيمة للبدء، تنتهي في النهاية بقيمة قريبة من 1.
(جميع الأعداد تقريبًا) له معنى رياضي دقيق، فإذا اخترنا عددًا طبيعيًا على نحو عشوائي ليكون قيمة للبدء، فإن احتمال أن ينتهي بنا الأمر عند العدد 1 هو 100%، لكن الحدث ذو الاحتمالية صفر ليس بالضرورة مستحيلًا، وهذا أقرب ما يمكن أن يصل إليه المرء في حدسية كولاتز دون حلها فعليًا، قال تاو في محاضرة ألقاها في عام 2020. «لسوء الحظ، لا يمكن تعميم طريقة تاو على جميع الأعداد، لأنها تعتمد على اعتبارات إحصائية».
وقد أدت جميع الأساليب الأخرى إلى طريق مسدود أيضًا، ربما يعني هذا أن حدسية كولاتز خاطئة، قال عالم الرياضيات أليكس كونتوروفيتش من جامعة روتجرز في مقطع فيديو على قناة فيريتاسيوم على يوتيوب: «ربما ينبغي لنا أن نبذل المزيد من الجهد في البحث عن أدلة لدحض الحدسية أكثر مما نبذله حاليًا».
قد تُحدد صحة أو خطأ حدسية كولاتز في المستقبل، ولكن هناك احتمال آخر وهو أن هذه المسألة قد لا يمكن إثباتها باستخدام الأدوات الرياضية المتاحة. في الواقع، في عام 1987، حقق عالم الرياضيات الراحل جون هورتون كونواي في تعميم حدسية كولاتز، ووجد أن التوابع التكرارية لها خصائص غير قابلة للإثبات، وربما ينطبق هذا أيضًا على حدسية كولاتز، ورغم بساطتها قد تبقى دون حل إلى الأبد.
اقرأ أيضًا:
هل الرياضيات حقيقية؟ سؤال أذكى مما تتوقع
ترجمة: يوسف الشيخ
تدقيق: حسام التهامي
مراجعة: محمد حسان عجك