مُقابل كل ذرة موجودة في الكون سواء كانت تلك الذرة تُشكل النجوم أو الكواكب أو حتى الغازات، يوجد ما يقارب خمسة أضعاف مما يسمى المادة المظلمة. ومع أن الفيزيائيين متأكدون تمامًا من وجودها، فهم لا يستطيعون العثور عليها ولا حتى معرفة مما تتكون.
لكن لماذا لا نستطيع رؤيتها؟
لن نعرف الأسباب الحقيقية وراء هذا السؤال حتى نُجيب أولًا سؤال: مم تتكون المادة المظلمة؟ ولكن هذا لا يعني أننا لا نعرف شيئًا على الإطلاق عن المادة المظلمة.
كيف نعرف أن المادة المظلمة حقيقية؟
لا تعتمد السرعة التي تدور بها الأجسام حول بعضها على المسافة بينها فقط، بل وعلى كُتلتها أيضًا، فنعلم مثلًا مقدار ثقل الشمس بملاحظة سرعة دوران الأرض والكواكب الأخرى حولها. لكن الأمور تصبح أعقد عندما تكون الكتلة التي تتحكم في سرعة الدوران منتشرة وليست متركزة في نقطة واحدة، ولكن أصبح الفيزيائيون جيدين جدًا في حل هذا النوع من المسائل.
نتيجةً لذلك عندما ينظر الفيزيائيون إلى المعدلات التي تدور بها النجوم حول مركز المجرة في المجرات القريبة، أو السرعة التي تتحرك بها المجرات الموجودة على حافة العناقيد المجرية العملاقة، يعرفون ما هو المقدار المُفترض من الكتلة التي قد تُسبب هذه الحركة.
لكنهم حين حاولوا تقدير عدد النجوم الموجودة في تلك المجرات ومتوسط كُتلتها، وجدوا أن الأرقام لا تتطابق. فلا تُوفر النجوم المرئية كُتلة كافية تُقارب حتى التأثير الذي تُحدثه على الأجسام الموجودة على حواف المجرة. وحتى إن كان تقدير الكتلة النجمية تقريبيًا -بما أننا لا نستطيع عدّ كُل نجم موجود في المجرة-، فإن معدل التناقض كان أكبر بكثير من أن يُعد خطأً بسيطًا في إحصاء النجوم وحسب.
فسَّر عدد قليل من العلماء ذلك بقولهم إن الجاذبية تعمل بطريقة مختلفة في المقاييس الكبيرة التي تفوق نماذجنا الصغيرة نسبيًا المبنية على حركة الكواكب والأقمار في المجموعة الشمسية، وقد حظيت إحدى نُسخ هذه الفكرة بالكثير من الشعبية، ولكن مُعظم الفيزيائيين يعدونها غير واردة الحدوث في أفضل الأحوال.
من المؤكد تقريبًا إذن وجود شيء له كتلة كبيرة تكفي ليحني نسيج الزمكان بطرق تُؤثر في حركة كُل شيء آخر، ولكننا لا نستطيع رؤيته، وهذا ما نسميه المادة المظلمة.
توفر عدسات الجاذبية دليلًا آخر على وجود شيء نجهله، فنحن نرى المجرات وهي تسبب انحناء الضوء القادم إلينا من الأجسام البعيدة، ولكن الانحناء الذي تسببه أكبر بكثير مما تستطيع النجوم المرئية إحداثه.
وما أن ساد الاتفاق على وجود المادة المظلمة، بدأت رحلة البحث عن تحديد ماهيتها وطبيعتها، وفي هذه المرحلة لا نعرف سوى أن المادة المظلمة تُنتج تأثيرات جاذبية -ما يعني أن لها كتلة- ولا تُرى، على الأقل بالأدوات التي نملكها الآن.
إجابة سؤال لماذا لا نستطيع رؤيتها يعتمد على معرفة ماهيتها أولًا:
ظهر في البداية تفسيران شائعان لماهية المادة المظلمة، إذ اقترح الأول أن المادة المظلمة تتكون من أجسام كبيرة لا ينبعث منها أي ضوء، وربما قد تعكس الضوء إذا تموضعت بطريقة صحيحة، ومن المقترح أنها لم تكن قريبة من النجوم بما يكفي لعكس كميات ملحوظة من الضوء، وتخيل علماء الفلك حينها وجود أعداد هائلة مقاربة في الحجم من كوكب المشتري تهيم في الفضاء بين النجوم وتنتمي إلى المجرات، وأسموها الأجسام الهالية المُنضغِطة الضخمة MACHOS.
بينما اقترح التفسير الآخر وجود جسيمات دون ذرية، خفيفة عندما تكون مُفردة، ولكنها إذا وجدت بأعداد كبيرة لا يمكن تخيلها، قد تعوض عن الكتلة المفقودة، وعلى النقيض من فرضية هالات الأجسام المُنضغِطة الضخمة، يُشار إليها بالجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل WIMPs، وكلمة ضخمة هنا تعني لديها كتلة وليست بمعنى هائلة الحجم لأنها ليست كذلك.
توضح هذه الأمثلة سبب عدم وجود إجابة موحدة لمسألة عدم قدرتنا على رؤية المادة المظلمة. فإذا كانت المادة المظلمة هي الأجسام الهالية المُنضغِطة الضخمة MACHOS، فنحن لا نستطيع رؤيتها إذن لأننا لم نقترب كفاية منها. وإن كانت هي الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل WIMPs، فإن رؤيتها مستحيلة دون استخدام النوع الصحيح من أجهزة الكشف، وربما حينها قد نتمكن من رؤيتها.
تُعد فرضية الأجسام الهالية المُنضغِطة الضخمة MACHOS غير مُفضلة هذه الأيام، لوجود عدة مؤشرات تُخبرنا أن هذا النوع من الأجسام يُشكل نسبة صغيرة من الأجسام التي نبحث عنها، إن وجدت هذه الأجسام أصلًا. ومع قلة ذكر MACHOS يقل ذكر نقيضها WIMPs أيضًا، مع إن احتمال وجود أجسام دون ذرية لا نعلم شيئًا عنها يظل احتمالًا مقبولًا.
مع مرور الوقت، واستبعاد المزيد والمزيد من الجسيمات المرشحة لتفسير ماهية المادة المظلمة، أصبح الأمر محبطًا بعض الشيء. وعندما نجد هذه الجسيمات سنعرف ما الذي سمح لها بمراوغتنا فترة طويلة.
توجد بعض فئات الجسيمات دون الذرية التي لا تندرج تحت مظلة الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل WIMPs، وقد تكون هي التي تُشكل المادة المظلمة مثل النيوترينوات الثقيلة. لكن النتيجة ما زالت نفسها، فقط حين نحدد نوع الجسيمات المكونة للمادة المظلمة سنعرف لماذا كان العثور عليها صعبًا.
توجد عدة تفسيرات أخرى لماهية المادة المظلمة تختلف عن المنافسة القوية بين فرضية الأجسام الهالية المُنضغِطة الضخمة MACHOS وفرضية الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل WIMPs، فقد اقتُرِح مثلًا وجود ثقوب سوداء في الأطراف الخارجية للمجرات أكثر بكثير مما نتخيله، ومن المعروف أننا لا نستطيع رؤية الثقوب السوداء بسبب جاذبيتها الشديدة التي لا تسمح حتى للضوء بالهروب منها. ومن الناحية الفنية، تبدو هذه الفرضية مشابهة جدًا لفرضية الأجسام الهالية المُنضغِطة الضخمة MACHOS ولكنها تُعد شيئًا مُختلفًا.
نستطيع العثور على الثقوب السوداء بالبحث عن الضوء الصادر من أقراصها المتراكمة، أو برؤية النجوم وهي تدور حولها. وفي الحواف الخارجية للمجرات حيث النجوم قليلة والمواد المُشكلة للأقراص التراكمية قليلة، قد توجد وفرة من الثقوب السوداء ولن نتمكن من التأكد أبدًا.
بالتأكيد توجد عدة مشكلات في تفسير كيفية وصول الثقوب السوداء إلى حواف المجرات أو تشكّلها، ولهذا لم تحظَ تلك الفرضية بأي شعبية مثل الفرضيات الأخرى. ولكن قد يأتي تفسير جديد يطيح بكل الفرضيات الموجودة، ويقدم تفسيرًا خاصًا لسبب صعوبة العثور على المادة المظلمة.
اقرأ أيضًا:
الصين تفتتح أكبر وأعمق مختبر في العالم لكشف أسرار المادة المظلمة
الكون لا يبدو متكتلًا كمان لاحظناه في السابق، فماذا يحدث؟ وما علاقة المادة المظلمة بذلك؟
ترجمة: محمد إسماعيل
تدقيق: محمد حسان عجك