من قطرة دم واحدة، استطاع باحثون في الطب من ستانفورد قياس آلاف الجزيئات الاستقلابية وغيرها من البروتينات والدهون والعلامات الالتهابية، وذلك بفضل تطبيق تقنية جديدة على جهاز أخذ العينات الدقيقة (أداة وخز ذاتية للإصبع)، إذ تسمح التقنية الأوميات المتعددة بتحليل متزامن لعدد كبير من هذه الجزيئات.
قال الدكتور ميشيل سيندر بوصفه مدير مركز علم الجينوم والطب التشخيصي والمؤلف المشرف للبحث الذي نشر في مجلة nature للهندسة الحيوية الطبية: «إن الأهم مما سبق هو إمكانية أخذ قطرة الدم في المنزل وإرسالها بالبريد إلى المختبر».
بعكس اختبار الأنسولين الواخز للإصبع الذي يقيس نوعًا واحدًا (جزيئات الغلوكوز)، فإن تقنيات الوخز متعددة الأوميات تستطيع إعطاء معلومات حول آلاف الجزيئات المختلفة في وقت واحد.
يبدو البحث شبيهًا للنهج المعروف المُروّج له في الماضي لاختبار قطرة دم واحدة، لكن أبرز الاختلافات أن تحليل البيانات يُجرى في المختبر وليس في صندوق محمول، وأن النهج السابق اعتمد على تكرار الاختبارات التشخيصية الحالية، بينما يستخدم أخذ العينات الدقيقة متعدد الأوميات نوعًا مختلفًا من البيانات، إذ يعتمد تقنية تسمى قياس الطيف الكتلي التي تصنف الجزيئات حسب كتلتها وشحنتها الإلكترونية.
دم أقل و بصيرة أعمق
عوضًا عن التركيز على بروتين وحيد أو ناتج استقلابي وحيد أو حتى علامة التهابية واحدة، يتخذ المجال المتنامي لأبحاث الأوميات نهجًا واسعًا لبيولوجيا الأنظمة، كتحليل المجموعة الكاملة للبروتينات (البروتيوم) والدهون أو نواتج الاستقلاب. مع أن التطورات الأخيرة جعلت من تحليل البيانات أكثر قوة وفعالية، فإن فائدتها في العالم الحقيقي بدت محدودة بسبب صعوبة جمع العينات وذلك من بين العديد من التحديات الأخرى.
لقياس استجابة فرد ما لطعام أو دواء، قد نحتاج إلى عدة عينات في فترة زمنية قصيرة، حاليًا يتطلب أخذ العينات الذهاب إلى العيادات السريرية لسحب الدم الوريدي من 10 إلى 50 ملليلتر.
بحسب رايان كيلوج أستاذ علم الوراثة في جامعة ستانفورد والمشارك بالبحث، طُلب من المشاركين في الدراسة أخذ عينات من الدم خمس مرات خلال أربع ساعات فقط. تقليديًا كان يعني هذا إدخال قسطرة وسحب الكثير من الدم في كل مرة وبحلول السحب الخامس تقل كمية الحديد وخلايا الدم الحمراء لدى المشاركين.
أراد الباحثون معرفة إن كانوا يستطيعون تقليل حجم الدم المستخدم في تحليل متعدد الأوميات لحد كبير مع المحافظة على إمكانية تحديد آلاف الجزيئات.
وبعد اختبار مجموعة متنوعة من أجهزة أخذ العينات الدقيقة، وقع الاختيار على جهاز اسمه ميترا، وهو جهاز محمول يعمل على سحب 10 ميكروليتر من الدم إلى مصفوفة هلامية داخله. ثم اختبروا تقنيات استخلاص متعددة لفصل البروتينات والدهون ونواتج الاستقلاب، بينما استخدمت عينة صغيرة منفصلة ثانية لقياس علامات الالتهاب.
أوضح باحث في علم الوراثة مشارك في الدراسة أنه قدرتهم على إجراء هذا النوع من التحليل على مثل هذه العينة الصغيرة لم يكن متوقعًا أبدًا.
وفي دراسة تجريبية على عينتين، تمكن الباحثون من قياس مستويات 128 بروتينًا و 1461 ناتج استقلاب و 776 جسيمات دهنية من كل عينة صغيرة جزيئيًا. ثم راقبوا العينات للتأكد من ثباتها عند تخزينها بدرجات حرارة مختلفة.
قال سيندر: «كان عدد البروتينات غير المستقرة قليلًا جدًا وذلك بغض النظر عن درجات الحرارة، وكذلك أيضًا معظم الدهون ونواتج الاستقلاب، لكن بعضها ينحل لدى التخزين عند درجات حرارة معينة».
قارن الباحثون نتائج الأوميات المتعددة التي حصلوا عليها من أخذ العينات الدقيقة مع نتائج سحب الدم التقليدي، فوجدوا أن النتائج من نوعي التجميع متشابهة بالنسبة للغالبية العظمى من الجزيئات، ما أعطاهم الثقة بأن تلك العينات الدقيقة عديدة الأوميات موثوقة وبالوسع الاعتماد عليها في التطبيقات القادمة.
تتبع استجابات الاستقلاب الفردية للطعام
أجرى الباحثون دراسة لمراقبة التأثير الجزيئي لمخفوق التغذية، وحللوا بيانات 28 مشاركًا خلال أربع ساعات من تناولهم كمية محددة من السكريات والدهون والبروتينات والعناصر الغذائية الصغرى من الوجبة البديلة المخفوقة.
أشار سيندر إلى استجابة الناس المختلفة تمامًا لهذا المزيج، فقد تختلف الاستجابات الاستقلابية كثيرًا لنفس الطعام بين مختلف الأشخاص، لكن اختبارات الدم القياسية لا تعطي معلومات كافية لفهم السبب.
استطاع الباحثون في النهاية اكتشاف ما يقارب 50% من المركبات الموجودة ضمن المخفوق في دم المشاركين، فقسّموا المشاركين إلى مجموعتين رئيسيتين بحسب سرعة تغير حال الجزيئات في دمائهم إذ سجلت إحداهما استجابة سريعة للمخفوق، وكان المشاركون ذوي مقاومة الأنسولين أكثر عرضة للتصنيف فيها.
أظهر بعض المشاركون أيضًا رد فعل التهابي، إذ بلغت الجزيئات المسؤولة عن ردة الفعل المناعية ذروتها بعد حوالي 30 دقيقة من تناول المخفوق.
قال سيندر: «الهدف النهائي من هذا التصنيف المفصّل هو تزويد الناس بالمعلومات، فإذا علمت أن لديك رد فعل مناعي لطعام معين، فقد يظهر لديك دافع كبير لتغيير نظامك الغذائي».
مراقبة على مدار الساعة باستخدام حساسات قابلة للارتداء
في التجربة الثانية، أخذ الباحثون بالمراقبة الجزيئية خطوة نحو الأمام بأخد عينات من دم سيندر كل ساعة أو ساعتين طوال أسبوع وهو مستيقظ، إذ ارتدى أربع ساعات ذكية مختلفة وجهاز تتبع مستمر لمستويات الغلوكوز وجهاز لتتبع معدل ضربات القلب ومستوى النشاط والنوم وتناول الطعام، وعن ذلك يقول:
«بعد 98 عينة يجدر بي الاعتراف أن أصابعي باتت تؤلمني جدًا».
وبحلول نهاية الأسبوع أجرى فريق البحث 214661 قياسًا كيميائيًا حيويًا، تضمنت مستويات البروتينات والدهون والهرمونات كالكورتيزول، وقورنت بالبيانات الفيزيولوجية من الحساسات القابلة للارتداء.
كشفت النتائج عن أنماط لم تكن معروفة لبعض الجزيئات، إذ أظهرت اتباعًا دوريًا (كالمد والجزر) خلال 24 ساعة، لكن الباحثين لاحظوا أيضًا أن مستويات الغلوكوز والكورتيزول تتفاوت كثيرًا على مدار اليوم بعكس ما هو متوقع.
تصف الكتب كيفية العمل المفترضة لتلك الجزيئات، فمن المتوقع مثلًا أن يرتفع الكورتيزول خلال ساعات الصباح وينخفض في بقية اليوم، لكن عندما حلل الباحثون المعلومات وجدوا أن الأمر صحيح في بعض الأيام فقط، ما يشير إلى أهمية تكرار أخذ العينات.
نظرًا لأن المعلومات تشمل جزيئات مأخوذة من مشارك واحد، فلا يمكن استخدامها لصنع أية استنتاجات حول أي شخص أخر. لكن هذا الأمر يعد أحد أهم الأمور التي استنتجها البحث بحسب سيندر، أي أن الملفات التعريفية للأفراد متنوعة، وقد تتغير بناء على نمط سلوكهم الشخصي.
قال كيلوج: «إن الشيء الأكثر إثارة في أخذ العينات الدقيقة هو القدرة على جمع نقاط زمنية أكثف ومعلومات أشمل، لأنه مع بزل الوريد التقليدي يحصل الطبيب على عينة كل ستة أشهر أو ربما كل بضع سنوات، وما بين تلك العينات يحدث الكثير من التغيرات البيولوجية».
فمثلًا في منتصف الأسبوع التقطت المراقبة متعددة الأوميات حدثًا مناعيًا لم يكن سيندر نفسه على دراية به، فقد اشتُبه أن جسده يقاوم العدوى، وكان سيندر قادرًا أيضًا على تتبع عملية الاستقلاب تجاه حمض الساليسيليك (ناتج استقلابي ثانوي ناتج عن استقلاب أسبرين الأطفال الذي يتناوله كل صباح)، ويشير هذا إلى أن أخذ العينات الدقيقة متعدد الأوميات قد يكون مفيدا لتتبع استجابة الفرد للدواء.
الرعاية الصحية إلى المنزل
الخطوة التالية لمختبر سيندر هي توسيع الدراسات التجريبية وتقديم أخذ العينات الدقيقة إلى شريحة أوسع من المرضى. أشار شين القائم على تحليل معلومات المشروع إلى أن عدة مشاريع حالية تعمل على تقييم إمكانية استخدام هذه الطريقة للكشف المبكر عن المرض.
وقد أسس كيلوج أيضًا شركة ناشئة تستخدم طريقة أخذ العينات هذه لتحديد التأثيرات الجزيئية لفيروس كوفيد الطويل بطريقة أفضل والعمل على تطوير تشخيصات جديدة.
يحلم سيندر بأن يستطيع الأشخاص أخذ العينات في المنزل على فترات منتظمة، كل شهر أو كل أسبوع أو حتى مرة واحدة في اليوم. قد تشير التغييرات الخفيفة في البصمة الجزيئية إلى ظهور المرض قبل وقت طويل من التقاط أي خلل في الاختبارات القياسية.
أوضح سيندر: «يمكّننا الاختبار المنزلي من الحصول على لمحة عميقة عن عمليات الاستقلاب والصحة المناعية للشخص، ما يوفر الراحة للمريض بالمحصلة النهائية، أضف إلى ذلك، قد يعاني أشخاص كثيرون تأثير الرداء الطبي الأبيض، ما يعني ارتفاع معدل ضربات القلب وضغط الدم في اللحظة التي يدخلون فيها إلى أحد مراكز الرعاية الصحية، ما يغير بالنتيجة من الفيزيولوجيا ويؤثر في النتائج، لذلك من الأفضل إجراء هذه الاختبارات من المنزل بأكبر قدر ممكن».
اقرأ أيضًا:
اكتشف الباحثون أن الكلى لا تصفي الدم بل تقوم بدور مختلف تمامًا
للمرة الأولى: علماء يابانيون يقومون بإستنساخ فأرٍ من قطرة دم أخذت من ذيله
ترجمة: سنا أحمد
تدقيق: عثمان عبدالله مرزوك
مراجعة: محمد حسان عجك
