كيف بدأ كل شيء؟ إنه سؤال فكر فيه البشر منذ آلاف السنين. توصل العلم إلى الإجابة خلال القرن الماضي وسموا الحدث الرئيس لنشأة الكون الانفجار العظيم. يصف الحدث ولادة الكون في انفجار هائل منذ ما يقرب من 14 مليار سنة.
في جزء صغير من الثانية، نما الكون المرئي والفضاء المصحوب به بما يعادل بكتيريا تتوسع إلى حجم درب التبانة. كان الكون المبكر حارًا وكثيفًا للغاية. لكن كيف أُثبت أن ذلك من المسلمات العلمية؟
يُشير العلماء أولًا إلى الأدلة. عام 1929، اكتشف عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل أن المجرات البعيدة تتباعد، ما أدى إلى إدراك أن الكون يتوسع.
فيما يتعلق بوقت ولادة الكون، فسينعكس التوسع وستسقط المجرات في الفضاء فوق بعضها قبل 14 مليار سنة.
يتوافق هذا العصر جيدًا مع أعمار أقدم الأجسام الفلكية المرصودة في الفضاء.
قوبلت الفكرة في البداية بالتشكيك، كان واحد من المشككين عالم الفلك الإنجليزي فريد هويل، الذي أتى بالتسمية لهذا الحدث. رفض هويل هذه الفرضية ساخرًا ووصفها بأنها انفجار كبير خلال مقابلة مع راديو بي بي سي في 28 مارس 1949.
عام 1964، اكتشف أرنو بنزياس وروبرت ويلسون نوعًا معينًا من الإشعاع يملأ الفضاء بأكمله. أصبح هذا معروفًا باسم إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB).
يوصف بأنه نوع من الشفق الناتج عما خلفه الانفجار الكبير يملأ الفضاء، الذي صدر عندما كان عمر الكون 380 ألف سنة فقط. يوفر إشعاع الخلفية الكونية الميكروي نافذة على الظروف الحارة والكثيفة في بداية الكون. حصل بنزياس وويلسون على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1978 لاكتشافهما.
في الآونة الأخيرة، سلطت التجارب التي أجريت على مسرعات الجسيمات مثل مصادم الهادرونات الكبير (LHC) الضوء على ظروف أقرب إلى وقت الانفجار الكبير.
تُشير دراسات الفيزياء في هذه الطاقات العالية والتجارب المبنية عليها إلى أن القوى الأساسية الأربع للفيزياء الموجودة اليوم كانت مجتمعة في البداية في قوة واحدة خلال اللحظات الأولى بعد الانفجار الكبير.
تُشكل القوى الأربعة الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوة النووية القوية، والقوة النووية الضعيفة. مع توسع الكون وتبريده، أدت سلسلة من التغيرات الدراماتيكية -تسمى التحولات الطورية- إلى فصل هذه القوى.
تشير التجارب التي أجريت على مسرعات الجسيمات إلى بدء هذه التحولات الطورية بعد بضعة أجزاء من المليار من الثانية بعد الانفجار الكبير.
كان هذا هو انهيار الوحدة الكهرومغناطيسية، عندما توقفت القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة عن الاندماج، إذ اكتسبت كل المادة الموجودة في الكون والفضاء كتلتها.
بالمضي قدمًا في الزمن، نجد أن الكون مملوء بمادة غريبة تُسمى بلازما كوارك غلوون. كان هذا الحساء الأولي يتكون من الكواركات والجلونات. التي توصف بأنها جسيمات دون ذرية مسؤولة عن القوة النووية القوية.
نجح العلماء في توليد بلازما كوارك غلوون اصطناعيًا عام 2010 في مختبر بروكهافن الوطني، وعام 2015 في مصادم الهادرونات الكبير.
تتمتع الكواركات والغلوونات بجاذبية قوية، وهي اليوم مرتبطة معًا مثل البروتونات والنيوترونات، التي بدورها تشكل اللبنات الأساسية للذرات.
مع ذلك، كانت مستقلة في الظروف الحارة والكثيفة للكون المبكر. لم تدم بلازما الكوارك-غلوون طويلًا.
بعد بضعة أجزاء من المليون من الثانية من الانفجار الكبير ومع توسع الكون وتبريده، تجمعت الكواركات والغلوونات معًا لتشكل بروتونات ونيوترونات، وهو الوضع الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم في الفضاء.
يُسمى هذا الحدث حبس الكوارك. مع توسع الكون وتبريده أكثر، كان هناك عدد أقل من الفوتونات عالية الطاقة -جسيمات الضوء- في الكون مما كان عليه في السابق.
كان ذلك بدوره المحفز لعملية تسمى التخليق النووي للانفجار الكبير (BBN).
يحدث هذا عندما تتشكل النوى الذرية الأولى -كتل المادة الكثيفة المكونة من البروتونات والنيوترونات الموجودة في مراكز الذرات- عبر تفاعلات الاندماج النووي، مثل تلك التي تزود الشمس في الفضاء بالطاقة.
عندما وُجد المزيد من الفوتونات عالية الطاقة في الكون، فإن أي نواة ذرية تتشكل تُدمر بسرعة، في عملية تسمى التفكك الضوئي. توقف التخليق النووي للانفجار الكبير بعد دقائق قليلة من الانفجار الكبير، لكن عواقبه تمكن ملاحظتها حتى اليوم.
ساعدت ملاحظات علماء الفلك المصحوبة بالأدلة على تأكيد الوفرة البدائية للعناصر المنتجة في تفاعلات الاندماج هذه. تتوافق النتائج مع نظرية التخليق النووي للانفجار الكبير.
يؤدي استمرار العملية على مدى ما يقرب من 14 مليار سنة إلى الوضع الحالي اليوم. لكن إلى أي مدى يمكن فهم ما كان يحدث قرب لحظة الانفجار الكبير نفسه؟
ليس لدى العلماء أي دليل مباشر على ما حدث قبل انهيار الوحدة الكهرومغناطيسية، عندما توقفت الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة عن التجمع.
في مثل هذه الطاقات العالية وفي الأوقات المبكرة، لا يسعنا إلا النظر إلى لغز الانفجار الكبير.
تتقلص المسافات والأحجام عند العودة بالزمن إلى الوراء عبر تاريخ الكون والفضاء، في حين ينمو متوسط كثافة الطاقة.
عند الانفجار الكبير، تنخفض المسافات والأحجام إلى الصفر، وتقع جميع أجزاء الكون فوق بعضها وتصبح كثافة الطاقة في الكون لا نهائية.
تُصبح المعادلات الرياضية -التي تصف تطور الفضاء وتوسع الكون- مليئة بالأصفار واللانهايات وتعجز عن تفسير ما يحدث. تُسمى هذه الحادثة التفرد.
تصف نظرية ألبرت أينشتاين في النسبية العامة كيفية تشكيل الزمكان، وهو وسيلة لوصف الهندسة ثلاثية الأبعاد للكون، الممزوجة بالزمن. يؤدي انحناء الزمكان إلى ظهور الجاذبية.
تُشير الرياضيات إلى وجود أماكن في الكون يصبح فيها انحناء الزمكان غير محدود. تُعرف هذه المواقع باسم التفردات.
يمكن العثور على أحد الأمثلة في مركز الثقب الأسود. في هذه الأماكن، تنهار نظرية النسبية العامة.
من 1965 حتى 1966، قدم عالما الفيزياء النظرية البريطانيان ستيفن هوكينج وروجر بنروز عددًا من النظريات الرياضية التي توضح أن الزمكان في الكون المتوسع والفضاء يجب أن ينتهي عند نقطة تفرد في الماضي. تفرد الانفجار الكبير.
يظهر المكان والزمان في متفردة الانفجار الكبير، لذا فإن الأسئلة المتعلقة بما يحدث قبل الانفجار الكبير ليست محددة جيدًا. لا يوجد ما قبل حسب الأدلة الحالية التي يقدمها العلم. الانفجار الكبير هو بداية الزمن.
مع ذلك، لا تصف النسبية العامة وحدها الطبيعة بدقة، مع أن الأخيرة موجودة منذ أكثر من 100 عام ولم تُدحض. لا تستطيع النسبية العامة وصف الذرات أو الاندماج النووي أو النشاط الإشعاعي.
تُدرس هذه الظواهر عبر نظرية الكم حصرًا. تعد النظريات من الفيزياء الكلاسيكية مثل النسبية حتمية.
يعني ذلك أن بعض الشروط الأولية لها نتيجة محددة ومن ثم فهي تنبؤية تمامًا. أما نظرية الكم، من ناحية أخرى، فهي نظرية احتمالية. يعني ذلك أن بعض الظروف الأولية في الكون والفضاء قد يكون لها نتائج متعددة.
تُعد نظرية الكم تنبؤية إلى حد ما، لكن بطريقة احتمالية. تُعطى النتائج احتمالية قائمة لحدوثها أم لا. إذا وصل التوزيع الرياضي للاحتمالات إلى ذروته عند نتيجة معينة، فيمكن دراسته عبر الفيزياء الكلاسيكية، مثل نظرية النسبية العامة.
ليست كل الأنظمة هكذا. في بعض الأنظمة -على سبيل المثال الذرات- ينتشر التوزيع الاحتمالي ولا ينطبق الوصف الكلاسيكي.
ماذا عن الجاذبية؟ غالبًا، تحل الفيزياء الكلاسيكية معظم المشكلات المتعلقة بها، فالزمكان الكلاسيكي سلس. عندما يصبح الانحناء شديدًا -بالقرب من نقطة التفرد- فلا يمكن تجاهل الطبيعة الكمومية للجاذبية.
لم يعد هنا الزمكان سلسًا، بل أصبح متشابكًا، يشبه السجادة التي تبدو ناعمة من بعيد، لكنها من قرب مليئة بالألياف والخيوط.
بالقرب من متفردة الانفجار الكبير، تتوقف بنية الزمكان عن أن تكون سلسة. تشير النظريات الرياضية إلى أن الزمكان يصبح مثقلًا بالميزات الشريرة: الخطافات والحلقات والفقاعات. يُسمى هذا الوضع المتقلب بسرعة رغوة الزمكان.
في رغوة الزمكان، لا تنطبق السببية، إذ توجد حلقات مغلقة في الزمكان حيث مستقبل الحدث هو أيضًا ماضيه، ومن ثم فإن نتيجته قد تكون أيضًا سببه.
تشير الطبيعة الاحتمالية لنظرية الكم إلى أنه عندما يكون التوزيع الاحتمالي متساويًا، فإن جميع النتائج تكون ممكنة بالتساوي، ولا تعود النسبية مفهومة من وجهة نظر الفيزياء الكلاسيكية.
بالعودة في الزمن إلى الوراء -قبل ظهور مشكلة المتفردة الكبيرة- يدخل علم الفيزياء عصرًا تصبح فيه التأثيرات الكمومية للجاذبية هي المهيمنة ولا تنطبق السببية. يُسمى ذلك عصر بلانك.
يتوقف الزمن عن أن يكون خطيًا، وينتقل من الماضي إلى المستقبل، وبدلًا من ذلك يصبح ملتفًا وفوضويًا وعشوائيًا.
اقرأ أيضًا:
هل توجد ثقوب سوداء متبقية من الانفجار العظيم؟
تطور الكون منذ الانفجار العظيم وإلى الآن
ترجمة: طاهر قوجة
تدقيق: أكرم محيي الدين